العدد صفر

  • نماذج حضارية في علم الزراعة والري في الأندلس . د. هيفاء سليمان الإمام

    1. المقدمة:

       تعتبر الزراعة رافعة مهمة للاقتصاد وتطوير المجتمعات وصلابة تماسكها، فالأمن الغذائي هو الركيزة الأولى في التطوير الحضاري لأي مجتمع من المجتمعات البشرية.

    من هنا أردت أن أطرح الأسئلة التالية والتي تعتبر إشكالية هذا البحث وهي:

    • هل ترك العرب المسلمون بصمات حضارية مهمة في مجال علم الزراعة والري ؟؟؟
    • هل كانت طبيعة الأندلس مناسبة لتفتق أفكار العرب وابداعاتهم في تنظيم إرواء أكبر مساحة ممكنة من أرضها والاستفادة منها؟؟ وما هي أهم التقنيات التي استعملها العرب المسلمون في ذلك الوقت؟؟
    • وهل حدد المسلمون في الأندلس الإطار التشريعي لاقتسام الثروة المائية وحل النزاعات حولها بالشكل النموذجي العادل؟؟
    • من هم أبرز العلماء اللذين لمع اسمهم في مجال علم الزراعة والري في الأندلس؟؟ وماذا تركوا لنا من تراث حضاري ومؤلفات ؟؟؟؟

    كان من دأب المسلمين إذا فتحوا أي بلد، بدأوا بشيئين مهمين جداً هما بناء المسجد وإقامة المشاريع الزراعية([1])، فقد كان هم الولاة الأول بعد العبادة تأمين الاستقرار الاقتصادي القائم بالدرجة الأولى على الزراعة، وذلك حسب أوامر شرعية، فالله تعالى أمر البشر بالسعي والتنقيب في الأرض، لإخراج ما فيها من خيرات إن عن طريق الزراعة أو غيرها. لذلك كله أخد علم الفلاحة في المجتمع الاسلامي من العناية الشيء الكثير، وكانت الزراعة تزدهر في عهد الدول التي تعمل على توفير مياه الري واستصلاح الأراضي وتيسير نقل المحاصيل.

      من هنا عمد المسلمون في الأندلس إلى إصلاح وسائل الري وتنظيمها وبناء السدود وحصر القنوات وإقامة الجسور والقناطر([2])، واستغلوا الأراضي الزراعية باستنبات النبات المناسب في التربة الصالحة لها، بعد ان وقفوا على خصائص أنواع التربة. وابتدعوا تقنيات في الري ونظموا الاستفادة من الثروة المائية.

      وقد نبغ في علوم الزراعة والري علماء كثر، وكتبوا رسائل وأسسو مدارس ما زالت معتمدة حتى يومنا الحاضر. فالإبداع العلمي في الزراعة يعتبر حجر الزاوية الذي حقق للانسانية إنجازين في غاية الأهمية الأول هو توفير المزيد من الغذاء الذي يفوق حاجة المزارع، والإنجاز الثاني هو ما يترتب على وفرة الغذاء، من منح فرصة للبشر، للالتفاف إلى إبداعات علمية أخرى في مجالات غير زراعية، تؤدي إلى صناعة حضارة إنسانية. وكان من أهم هذه الإبتكارات عدد من النماذج الحضارية التي تضم أنظمة حديثة وتقنيات فريدة استخدمها المسلمون في الأندلس لإدارة الموارد المائية في ذلك العصر.

    • أنظمة وتقنيات الزراعة والري في الأندلس

       في الثمانينات من القرن العشرين تضافرت مجموعة من الظروف المتزامنة، لتحفيز فيضاً من الدراسات التاريخية الجديدة عن الزراعة والري في إسبانيا، منها تركز على الفترة الاسلامية والإسهام الاسلامي، من هذه الحوافز نذكر:

    • نظام الحكم الذاتي في أسبانيا (Regimen de autonomias) الذي حفز ومول عدداً كبيراً من الدراسات ذات النوعية العالية في التاريخ المحلي .
    • تلاشي الاجماع القديم للقروسطية الإسبانية التي ركزت على زراعة الحبوب كأساس للزراعة([3]).

      ومن هنا فقد اعتقد أميريكو كاسترو (Americo costro)([4]) أن ثمة منعطفاً ثقافياً اجتماعياً حاداً قد نجم عن الفتح العربي، وقد ناقش الكثير من المتخصصين بدراسة القرون الوسطى بأن تثاقف المولدين(أي التبادل الثقافي بينهم) كان كاملاً وأن ثقافتهم يجب أن تدعى “اندلسية([5])

    ففي الاندلس تنوعت مصادر مياه الري منها مصادر المياه السطحية ومنها الجوفية، وفي هذا البحث سنتحدث عن الادوات المستخدمة في الري حيث استطاع العرب هناك تأسيس قاعدة علمية تكنولوجية قوية لأنظمة الري التي أصبحت لاحقاً منهلاً للحضارات العالمية الأخرى وبخاصة الحضارة الأوربية الزراعية التي استمدت كثيراً من مقوماتها من نتاج الحضارة العربية الاسلامية ولا تزال تعمل بهذه الأنظمة حتى يومنا هذا.

       ولقد درس زراعيو الاندلس المسلمة تركيب التربة، وسعوا جهدهم في استصلاح الأراضي البور، كما حاولوا تحديد خواص الأسمدة وملاءمتها بحسب الحالات وأعادوا تصنيفاً للمياه، ودرسوا وسائل استثمارها بواسطة القنوات والآبار والنواعير وسواها من الوسائط، وكانت مكائنهم والعجلات البدائية لديهم، قد ألهمت علماء الميكانيك(كالمرادي) وساعدتهم على التقدم في صناعة آلاتهم الميكانيكية التي تحولت الى ساعات فيما بعد([6])

    ففي ظل الرعاية الاسلامية، سجلت الزراعة في إسبانيا تقدماً ملحوظاً على باقي الغرب، فقد نقل العرب العادات الزراعية من أسيا وشقوا قنوات الري وأدخلوا زراعة الكرمة والحنطة السوداء والزيتون في الجنوب وزراعة اشجار النخيل، وزراعة التوت لتربية دود القز، وقصب السكر والارز والهليون والسبانخ وكميات من الفواكه التي لم تكن معروفة هناك مثل: الرمان والبرتقال والسفرجل والغريفون والدراق والتين والليمون الحامض والمشمش، عندها بلغت قرطبة وغرناطة وسهول فالنسيا وموريس الخصبة مبلغاً كبيراً من الشهرة العالمية في المكان والزمان، ولا ريب أن جنائن هذه المناطق المميزة لا تزال اليوم ذات طابع عربي مغربي، وأن ذلك النمو الرائع للزراعة هو أحد المكاسب المستديمة التي تدين بها إسبانيا للحضارة العربية([7])

    لقد بذل الأندلسيون جهوداً كبيرة في اقامة مشاريع الري مثل بناء السدود والقناطر والجسور وحفر القنوات السطحية والجوفية لتسهيل وصول المياه الى الاراضي الزراعية. وباستحضار البعد التقني فقد عرفت الأندلس ثلاثة انواع من أنظمة الري وتقنيات السقي، بالإضافة الى معجزة جر المياه إلى قصر الحمراء في غرناطة وهي:

     أولاً: نظام الري الكبير :

     هو النظام الذي يكتسب مقوماته من ضرورة توافر جملة من الأسس تميزه عن غيره من الأنظمة، وعلى رأسها اتساع المساحة الزراعيةووفرة المياه المستمدة من الأحواض النهرية، وشبكات توزيع مدعمة بتجهيزات تقنية فعالة، ومناخ قانوني تغلب فيه الحيازة على الملكية، وإطار تنظيمي يشرف على تدبير شؤون الري وقلة النزاعات على الماء. وكل هذه المعايير توافرت في الأندلس في عدد من المناطق وخاصة بأحواز غرناطة، التي تعد أنموذجا لتوافر المعايير المحددة للدوائر السقوية الكبيرة وانسجامها. وقد كان للعرب السبق في استعمال هذا النظام في الأندلس، فان الثلث الشرقي من السهل الغربي الجنوبي لنهر الميخارس(Mijares) غني بأسماء الأماكن العربية حيث كان بؤرة الوجود الاسلامي، اذ وصفه الجغرافي الإدريسي بأنه منطقة مزدهرة وكثيرة المياه.

      والجدير ذكره هنا، أن من بين القنوات الرئيسية وفروعها كان النصف تقريباً يحمل أسماء عربية بما في ذلك قناة مسلاتا (منزل عطاء) وفافارا (Favara)([8])، وراسكانيا(Rascanya) (وتعنى راس الفتاة )، وفيتانار(Fitanar) ( تعنى خيط النهر) وهي ترجمة عربية حرفية، وبناتجر(Benatger) (نسبة الى فخذ من قبيلة) وقناة الجيروس(Algiros) (من الزروب وتعني القنوات) وهكذا دواليك([9]). وكانت القنوات التي تحمل أسماء عربية تشكل شبكة متماسكة، بينما كانت الأخرى غير العربية متناثرة النمط. كان يوجد أيضاً تمديدات بناها المسلمون في الحد الخارجي من منطقة أقصى جنوب لورقة([10]).

      ومن ذلك نستنتج أن تكثيف نظام الري الذي بناه المسلمون مَحَقَ شبكة القنوات الأقل شأنا بكثير والتي صادفوها هناك، وأن الشواهد والأدلة المتعلقة بالآثار وأسماء المواقع تشير إلى أن المسلمين استولوا على أرض كانت تروى باعتدال وتواضع، فاعادوا بناء أنظمة ري حديثة ووسعوها كما أنهم أعادوا تنظيم إجراءات التوزيع والإدارة وفقاً للقواعد التي كانوا يحملونها([11]).

       كما أثبتت الطبيعة العربية لنظام الري الخاص بأراضي الري البلنسية، استنادا إلى التشابه في ترتيبات التوزيع هناك مع تلك الموجودة على نهر بردى في غوطة دمشق. ففي كل حاله يعتقد بأن ماء النهر يحمل 24 وحدة من الماء في كل مرحلة من مراحل انعطافه، ففي دمشق تسمى تلك الوحدات (قراريط)، وفي بلنسية (فيلات)(Filat)([12]).فالعرب المسلمون الذين قطنوا الأندلس لم يحضروا معهم القنوات أو السدود أو النواعير بل أحضروا معهم الأفكار الخاصة بذلك فقط. لذا فإنه عند تقسيم التكنولوجيا الهيدرولية في الأندلس فإن المصدر المادي المتعلق بالقنوات ليست له صلة بالموضوع. فأي شي وجده المسلمون دمجوه في نظام اجتماعي وثقافي واقتصادي يختلف تماما عما كان سائداً من قبل، وذلك وفقاً لقواعد سلوكية أحضروها معهم. لذا فإن وجود إنسان عربي واحد في تلك المنطقة يعرف نظام الري في بلاد الشام، كان يكفي بأن يدخل ذلك النظام إلى البلاد الأندلسية([13]).   

    ثانياً:أنظمة الري المتوسطة:

      ساد هذا النظام في المجالات السقوية التي تغلب فيها النسبة العقارية الصغيرة والمتوسطة الحجم، وضعف فعالية التقنيات وتداخل الحقوق المائية ومحدودية دور السلطة في تدبير الري، بالإضافة إلى وضعية عقارية شديدة التعقيد تؤدي في أحيان كثيرة إلى النزاع والخصومة على الماء.

     وتعد الآبار والعيون أهم المصادر المائية بالنسبة لقطاعي الري المتوسط والصغير، اما السقي فيعتمد على مجموعة من التقنيات البسيطة من حيث التركيب كان منها طواحين الماء، والنواعير([14]) الشبيهة إلى حد بعيد بما كان منتشراً في بلاد المشرق. وهذا الأمر من شأنه أن يكشف لنا عن الأصل الحضاري للري في الأندلس. حيث كان هناك نظامان للري : الأول يتالف من ينبوع وخزانين للمياه وقنوات، كانت تروى نحو تسع هكتارات، أما النظام الثاني فقد كان نظاماً واضح المعالم يروي حوالي خمسة هكتارات مع عين ماء يخزن ماؤها في سد تخزين، ثم يوزع في وحدات زمنية تقاس بواسطة ساعة مائية. وهذا النظام كان يتطلب أن يرفع الماء إلى بعض الحقول، وقد وجدت هناك آثار شادوف([15]) وناعورة ما زالت باقية هناك. ومن هنا نستخلص أن تكنولوجيا الرفع والتخزين في سلسلة الجبال بشكل خاص، وفي مناطق الري البلنسية بشكل عام، كانت تكشف عن التمازج بين الجذور الاسلامية والكلاسيكية. وأن تقديم  دولاب المياه المدار بواسطة الحيوانات  يشير إلى كفاية أعظم وكان لا بد من أن يسهل التكثيف الاسلامي للزراعة في المناطق التي لم تكن مروية من قبل المسلمين. 

      ونلاحظ أن نظاماً متوسطاً أكبر في هذه الحالة لا بد أن يكون من تقديم عربي دون أدنى شك، وقد وجدناه في عدة مناطق كان منها بني البوفار وفي ميروقة، فهذه المنطقة التي تبلغ مساحتها ستين هكتاراً، كانت تروى بواسطة قناة ثم توزع المياه على خزانات او صهاريج([16]) ذات نوعين الأول كان مكشوف والثاني كان مغطى، ومن هذه الخزانات والصهاريج كانت تروى الحقول المدرجة في نوبات اسبوعية، والحقول كانت تطوق بمدرجات تسمى (Marjades) لأن كلمة (murqa) كانت تعني الجدار المساند. ويعتقد أن المصطلحات كانت مشتقة من الكلمة العربية “مَعجِل” وأنها ادخلت جنباً إلى جنب مع الذخيرة المرافقة من التقنيات الهيدرولية، من جنوب الجزيرة العربية في أواخر القرن السادس الهجري/الثاني عشر ميلادي، ولقد وجدت تقنية القناة أو سراديب الترشيح (التنقية) الفارسية منتشرة بشكل واسع في إسبانيا الاسلامية وفي أنظمة الري المتوسطة المستوى. وكانت توصف القنوات أحيانا بأنها آبار عمودية، ولكن سراديب الترشيح الصحيح إنما يبنى ليكشط سطح الماء ويكون مزوداً بمحاور عامودية لتزويد عاملي الصيانة في الأنفاق بالمنفذ والهواء وهنا يلاحظ أن العرب استخدموا تشكيلة من التقنيات ذات العلاقة لنقل المياه تحت سطح الأرض، خصوصا في الأراضي الصعبة التي لم تكن كلها تقبل المياه بالترشيح كما أنهم بنوا سراديب ترشيح في أحواض الأنهار، التي تعد تضاريس أو طبوغرافية مميزة للقنوات([17]).

    كما ابتكر الفلاحون الاندلسيون نظام القنوات الجوفية للمياه حيث تحكموا بجريان الماء فيها بطرق هندسية بديعة حيث يتم إيصالها من المناطق المنخفضة إلى المناطق المرتفعة دون استخدام الروافع وتتم هذه الطريقة بحفر عدد من الآبار والتوصيل بينهما  ثم توصيل هذه الابار بمجارٍ جوفية عميقة من الطوب الأحمر وتكون واسعة ومرتفعة بحيث تستوعب قامة الانسان وفي قاع هذه المجاري تمتد القنوات المصنوعة من الفخار لتنقل الماء من الآبار ويجب أن تكون على انحدار خفيف ومتجهة نحو المدينة.

    وعادة ما تسمى القناة المحفورة في الأرض والتي تجري فيها المياه بـ(الكظمية ) وجمعها كظائم([18])، أما القنوات المصنوعة من أنابيب من الرصاص والتي يتم بواسطتها استخراج مياه الآبار الفوارة إلى سطح البئر تسمى بـ(كهاريز)([19])، وفضلاً عن القنوات المائية الجوفية هناك القنوات المائية السطحية التي كانت تصل إلى المزارع والمدن والأرياف في الأندلس، وكانت القنوات تستخدم في المدن حيث كان العمال الذين يصنعون القنوات ويصلحونها يؤلفون جماعة هامة. أما في خارج المدن فإن السقائين هم الذين يمونون الناس بالمياه فكانوا يبيعون للبيوت ماء النهر القريب من المدينة. ولقد تفوق العرب المسلمون في الأندلس على الرومان في هذا المجال وبذلوا جهوداً كثيرة من أجل إيصال المياه عبر قنواتهم إلى مزارعهم وحدائقهم وبيوتهم([20]).انتشرت العديد من القنوات في الاندلس، فقد أنشأ الأمير عبد الرحمن الداخل(113172هـ/731788م)  قناة تمد البلد بالمياه الجارية([21])، والقناة التي بناها عبد الرحمن الناصر(277هـ-355هـ/891م-961م)، وكان ذلك في صدر سنة (329هـ/940م) وكانت ” قناة غريبة الصنعة حيث أجرى إليها الماء العذب من جبل قرطبة إلى قصر الناعورة غربي قرطبة وفي المناهر المهندسة وعلى المنايا المعقودة يجري ماؤها بتدبير عجيب وصنعة غريبة محكمة إلى بركة عظيمة، عليها أسد عظيم الصورة، بديع الصنعة، شديد الروعة لم يشاهد أوفى منه ولا أبهى منه فيما صور الملوك في غابر الدهر مطلي بذهب أبريز وعيناه جوهرتان، لها وميض شديد  يمج الماء من فمه في تلك البركة  فيبهر الناظر بحسنه وروعة منظره ، فتسقى منه جنان هذا القصر على سعتها ويستفيض على ساحاته وجنباته ويمد النهر الأعظم بما فضل منه، فكانت هذه القناة وبركتها. والتمثال الذهب الذي يصب فيها من أعظم آثار الملوك في غابر الدهر لبعد مسافاتها واختلاف مسالكها وفخامة بنيانها وسمو أبراجها التي يترقى الماء فيها ويتصوب من أعاليها وكانت مدة العمل فيها أربعة عشر شهراً([22]). وقد أودع الخليفة الحكم المستنصر(302366هـ/915976م) جوف هذه القناة أنابيب الرصاص لتحفظه من كل دنس([23])، فضلاً عن وكان هناك قنوات أخرى في مناطق مختلفة في الأندلس مثل مدينة لاردة التي عرفت بقنواتها الرائعة الصنعة التي ساعدت على ازدهار الزراعة فيها، وفي مدينة بربشتر قنوات محكمة الصنع تسقى من عين هناك. كما استخدمت القنوات وبشكل كبير داخل المدن بهيئة شبكة من القنوات الجوفية لتوزيع المياه على أحيائها وتوصيلها بطريقة فنية إلى مختلف مرافقها، وفي مدينة استجة أمر الخليفة عبد الرحمن الناصر ببناء قناة مياه للري، كما أمر ابنه الخليفة الحكم المستنصر ببناء قنوات عديدة لري غرناطة ومرسية وبلنسيه وأرغون. كما بنيت العديد من القنوات في مدينة لورقة التي أفادت منها المنطقة في الري والزراعة([24])، كما بنيت قناة في مدينة أونبة([25])، لجلب المياه إليها وكانـت هـذه القنـاة مخترقة الجبال الشامخة بحيث تصل هذه المياه إلى أسفل المدينة فتسقي بساتينها وقنوات أخرى في مدينة طركونة ([26]).التي كانت تأتيها المياه عن طريق هذه القنوات المشهورة بها هذه المنطقة. كما برع الأندلسيون ببناء سدود التحويل التي تنشأ عبر الجداول لتحويل مياهها الى القناة([27]).

    ثالثاً: انظمة الري الصغيرة :

      إن تلك الأنظمة التي قام بوتزر بدراستها في سلسلة جبال إسبادان(Sirra de Espadan) هي أنظمة صغيرة تماماً: قرى تروى عن طريق ينبوع او ينبوعين مع حشد كثيف من التقنيات الهيدرولية المقرونة إلى حد بعيد بالوجود العربي هناك، حيث كانت تحتوي على حقول مدرجة وخزانات المياه والشادوفات والنواعير وكان القياس بواسطة الساعات المائية. وسنعرض هنا بعض الأمثلة لأكثر أنماط الري في أنظمة الري الصغيرة والتي كانت معروفة في الأندلس في ذلك الوقت وهي:

    1. النواعير: كانت أكثر أنماط الري الصغيرة شيوعاً إلى حدٍ بعيد مزرعة الأسرة الواحدة المروية بواسطة ناعورة تشغل بقدرة الحيوان([28]). وكان الدولاب الأكبر حجماً والذي يديره التيار، والذي يرفع الماء بواسطة إطار خارجي مجزأ بدل من سلسلة من الأوعية، ويرفع كمية كبيرة من الماء، وهو يمثل واحدة من سمات أنظمة الري الكبيرة أو المتوسطة حيث توجد على الجداول الدائمة الجريان أو الأنهار أو كما في مناطق الري التي في مرسية، على قنوات الري الرئيسية والدولاب الذي يديره التيار يمكن تحويله إلى عمودية تدور بالدفع السفلي بكل بساطة عن طريق وصله بمحور أفقي. وهكذا فان هاتين التقنيتين وثيقتا الصلة، والصانع واحد لأن من يستطيع صنع الدولاب يستطيع صنع الرحى العمودية([29]).

     ذكر ابن العوام وأبو الخير مواصفات عن بزل الآبار في الأندلس وعن بناء النواعير، ورغم انتشار هذه النواعير في كثير من الأماكن إلا أنها لم تحض بدراسة كبيرة وقد اختفت الأن عمليا في اسبانيا، لذلك فقد اقتصرت المعلومات عنها في علمي الآثار والهندسة، وأن مسحاً أثرياً حديثاً حدث في منطقة بياكانياس (Villacanas) في لامانشا(La Mancha) أي في طليطلة الاسلامية، حيث كانت النواعير منتشرة بكثافة وقد كشف عن كثير من آبار النواعير المزودة بسلالم أو أنفاق تؤدي إلى سطح الماء([30]). وهذه التقنية تتعلق بتلك الخاصة بشق الأنفاق للقنوات. وفي الحقيقة كما يوحي بذلك اسمها، كان هناك أيضا قناة في بياكانياس وكانت تدعى “النقب” بالعربية الاندلسية، كما في عبارة “نقب البئر” وعلى هذا الأساس فإنه يرى أن الأصل التاريخي لإسم منطقة (Mancofar) وهو “المنقوبة” أي بئر مع سرداب … يعنى قناة وكان يشق للآبار أنفاق ليس فقط أفقياً، كما في القنوات بل عمودياً أيضا وكذلك بشكل منحرف كما في سلم المدخل للناعورة. ومن الملاحظ هنا أن استخدام النواعير المدارة بواسطة الحيوانات على نطاق واسع جعل من الممكن لمزرعة العائلة ان تنتج فائضا للسوق. لذلك فان “ثورة النواعير” كانت مرتبطة بشكل اساسي مع التوسع في الاقتصادات الاقليمية التي تميز بها عصر الطوائف.

    وكشفت الحفريات مؤخراً في منطقة أوليفة (Oliva) (الزيتونة) (عند مدينة بلنسية) عن موقع لناعورة كان يستخدم بشكل متواصل منذ النصف الأول من القرن الرابع الهجري/العاشر الميلادي([31]) حتى منتصف القرن الثامن الهجري/الرابع عشر الميلادي وأن أكثر ما يبعث على الاهتمام  بهذا الموقع أنه كان ينتج أكثر من خمسة آلاف قطعة من أواني الناعورة التي كانت تعرف بالإسبانية باسم (arcaduz)، ومن العربية “قادوس”… وهذا ما يبين لنا أولاً أن التنقيب الذي أوصى به ابن العوام كطريقة لمنع الانكسار الناتج عن اصطدام الوعاء بسطح الماء، والذي كان قد عرف قبل نهاية القرن الخامس الهجري/ الحادي عشر الميلادي. وثانياً أن شكل هذه الأواني يذكرنا بالطراز المتبع في بلاد الشام. ويمكنني أيضا أن أضيف أنه في تلك المناطق من إسبانيا التي استخدمت فيها النواعير، فإن اواني الناعورة التي كانت مطلوبة بأعداد ضخمة كقطع بديلة كانت الأساس في صناعة الفخار المحلية.

    • الطواحين المائية: كانت الأندلس تحتوي على عدد وافر من الطواحين المائية. فسجل بالنسية مثلا كان يذكر أكثر من مئة طاحون، خمسة وثلاثون منها في المدينة نفسها (مناطق الري التابعة لها)، وتسعة عشر في شاطبة. وهذه كانت طواحين أفقية، كان كثير منها بأكثر من حجر رحى واحد ( وهذا دليل على وفرة الطاقة الهيدرولية المتاحة في الأنهار وقنوات الري) كما أن كثيراً منها كان مملوكاً لكبار المسؤلين (كالرئيس والقائد) وفي شاطبة كان هناك طاحونتان مسجلتان على ان ملكيتهما تعود الى الدولة “المقسم”(Almacazem) ويفترض ان جميع هذه الطواحين هي طواحين حبوب أفقية، أولاً: لأنه لم يخصص هناك أي طواحين صناعية التي كانت عمودية بشكل عام وثانيا: لأنه لم يكن في بلنسية أي موقع طواحين مزود ببركة ماء لإدارة دولاب الطواحين بالدفع العلوي، التي تحتاجها الطواحين العمودية وهذا الأمر لا يستثني الطواحين العمودية التي تسير بالدفع السفلي التي تنطوي على تكيف بسيط للدولاب الذي يدار بالتيار، ولكن أيا منها غير موثق بوضوح، فقد يكون من الممكن تبني الطواحين الافقية لاغراض صناعية بسيطة. ويذكر القرزويني طاحونة أفقية في ميروقة كانت في اوقات شح الماء توصل بدولاب ناعورة وتشغل كطاحونة عامودية  تسير بالدفع العلوي وتغذي بواسطة شلال. ومما لا شك فيه انه كان ثمة ترابط بين انتشار الطواحين وأنظمة الري حيث ان الطاحونة في الاندلس كانت استدراكا للري وتابعة له، فالطواحين وقنوات الري سواء بسواء تقنيات شبه عالمية ([32])، وأن هذه التقنيات هي عبارة عن ابداعات بشرية يمكن بمظهرها الميكانيكي أن تحلل وتصنف دون الرجوع إلى الثقافة المحيطة بها، ولكن التكنولوجيات، أي التقنيات بصفتها أنظمة معرفية خاصة بمجتمعات وثقافات معينة، والأندلس تنتصب على طرفي أوروبا وأسيا من الناحية الجغرافية وتمتد بين إسبانيا الرومانية وإسبانيا الحديثة من ناحية تاريخية، إلا أن أنماط الانتشار والاختراع والابتكار التي يكشفها التاريخ وعلم الأثار يجب أن تفسر على أساس ما نعرفه من النظام الاجتماعي في المجتمع الأندلسي، ونظراً لأن المجتمع الأندلسي الزراعي لا يمكن معرفته إلا من خلال آثاره ومن خلال التحليل المقارن.
    • الري بالعيون: عرفت الأندلس العربية أيضاً الري بالعيون: حيث زود إقليم سرقسطة في الأندلس بالمياه وفق تنظيم دقيق حيث يوجد في هذا الاقليم “عين تنبعث بماء غزير له محبس إذا أراد أهله أن يفتحوه فتح وإذا أحبوا حبسه حُبس فلم يجر”. والحبس هو المنع([33]) . وهو كذلك خشبة أو حجارة تستعمل لسد مجرى الماء وجمعها أحباس([34]). وقد قام بتدبيره الأول (الأقوام السابقة) على هذا وأجروه في صخر منقوب يوثق فيه ويطلق منه وهو على بعد ثلاثين ميلاً من مدينة سرقسطة.
    • الري بالتنقيط: كان قد عرفه العرب في الأندلس: وهي طريقة لسقي الأشجار بكميات قليلة جداً من الماء ولكنها كافية لنموها وتتمثل هذه الطريقة بوضع جرة أو جرتين من الفخار قرب جذور الشجرة ملئتا بالماء ويبدأ الماء بالنزول تدريجياً ليغذي هذه الشجرة لمدة شهرين في فصل الجفاف. وهذا يؤدي إلى توفير مياه الري وقد استطاع هذا النظام من تقليل كمية المياه التي يمكن استخدامها لري مساحة معينة من الأرض بنسبة 20% او30%. من الكمية المستخدمة بواسطة نظام الري السطحي، كما انه بهذه الطريقة يمكن استخدام الماء المالح لري المزروعات بفضل قدرته على الاحتفاظ بالرطوبة في منطقة الجذور واحتفاظه بدرجة تركيز الاملاح في مياه التربة عند مستوى معين يقلل من حد الضرر على المزروعات.
    • الري بالندى: كذلك استعمل المسلمون في الأندلس طريقة الري بالنـدى ويتم ذلك بسقي الزرعة مرة واحدة بعد ان يجمع حولها الحصى الأملس الذي لا يتسرب الماء به إلا بصعوبة فإذا تساقط الندى خلال الليل لا تشربه الأرض بل أنه يتسرب إلى الأسفل عند الجذور فتمتصه وترتوي منه. وعادة ما تنجح هذه الطريقة في المناطق الصحراوية أو المناطق القليلة المياه حيث يستعمل الندى والضباب لأغراض الري وإنجاح الزراعة.

    رابعاً: جر المياه إلى قصرالحمراء في غرناطة:

      يعتبر توصيل المياه إلى قصر الحمراء في غرناطة مثالاً على الإبداع الإسلامي في التقنيات الهيدرولية في الأندلس، فبعد أن استوطن” بنو الأحمر” أخذوا يبحثون عن مكان مناسب تتوفر لهم به القوة والمنعة فاستقر بهم المطاف عند موقع الحمراء في الشمال الشرقي من غرناطة. وفي هذا المكان المرتفع وضعوا أساس حصنهم الجديد “قصبة الحمراء”. ولكي يوفر له الماء أقيم سد على نهر “حدرة” شمالي التل شيدت عليه القلعة ومنه تؤخذ المياه وترفع إلى الحصن بواسطة السواقي. وبالقرب من قصر الحمراء يوجد قصر “جنة العريف” الذي شيد في أواخر القرن السابع الهجري/الثالث عشر الميلادي ويقع شمال شرقي قصر الحمراء فوق ربوة مستقلة وتظهر من ورائه جبال الثلج. وقد غرست في ساحات القصر وأفنيته الرياحين والزهور فائقة الجمال حتى أصبح هذا القصر المثل المضروب في الظل الممدود والماء المسكوب والنسيم العليل وقد اتخذه ملوك غرناطة منتزها للراحة والاستجمام.

    • الإعجاز الهندسي

    وكانت مدينة غرناطة تضم  ما يقرب من خمسة آلاف قاطن إلى جانب الأسرة الحاكمة، وهنا ظهر تحدٍ كبير، وهو إيصال الماء إلى هذا المرتفع انطلاقا من الجبال المجاورة، والتي تُعد اعجازاً هندسياً في ذلك الوقت، لذلك كان قرار ابن الأحمر بتحويل مجرى نهر بأكمله إلى “الحمراء”، ولأجل ذلك تم بناءُ سدٍ يحصر المياه القادمة من الجبال، وبعد ذلك تم تشييد قناة مائية ضخمة طولها ستة كيلومترات، ثم الساقية الملكية التي تزوّد “الحمراء” بالمياه.

    وقداقيمت الحدائق لغرض مزدوج: الأول هوتوفير مساحة ترفيهية وفي الوقت نفسه لإنتاج الغلال، وكان هذا تخطيطاً جوهرياً، اذ صممت هذه الحدائق لتخدم المصالح العلمية وتسر الناظرين ولزرع الطعام بالإضافة لزرع الأزهار.

    لكن هنالك مشكلة هي أن تلة سبيكة لايوجد عليها ماء وكان اقر بمصدر مائي هو النهر الجاري في شمال الموقع، ولكن كانت المشكلة أن النهريقع بالأسفل والحمراء كانت في الأعلى. ولنقل كميات ضخمة من الماء إلى الحدائق، كان عليهم مدقنوا تريفي الحمراءوهيليستبالمهمةالسهلة،  تخيلومجتمعاًيعيشعلىقمةالتلةوعندهمطلبضخمعلىالماءوهمعلىبعدمئاتالأمتارفوقمصدرالماءالذي هوالنهرالمحلي.وفيمواجهةهذاقاموابالإجراءالبديهيوالذكيوهوالصعودبواديالنهرإلىنقطةيكونفيهامستوىالماءأعلىمنهموتركطاقةالنهرتجلبالماءاليهم، لكنليسهنالكبحيرةطبيعيةفوقالحمراء، لذلكقاموابإنشاءواحدة، حيث قاممهندسوالسلطانببناءسدفوقمستوىحصنالحمراءليجمعالضغطالمائيليغذيالحصنوعلىبعدستةكيلومتراتمنالحمراءوجدالسدالذيبناهالمهندسون المسلمون حيثيكونهذاالسدشبكةصهاريجقادرةعلىتزويدمياهتكفيلملءبركةسباحةضخمةكلخمسثوانٍ الى الحمراءالواقعةاسفله.

      منالصعبالتصديق عند رؤيته اليومانهذاحُفريدوياقبلثمانمئةعاملكنتحتمظهرهالعصرييكمنتصميمقديمجداً،مازالتالشبكةالمائيةعلىتصميمهاالأصليوالشيءالوحيدالذيتغيرهوموادبنائهالأنهمفيكلعاميجددونالقناةومصباتها، وكان يوجدبوابتانللسدفيالأعلىتتيحالأولىالتدفقالىنهرداروفيالجزءالمقابل، بينماتنقلالأخرىالماءالىالخزان.تتدفقمياههذاالخزانالىقناةمرصوفةبالطابو كان يسميهاالمسلمونالساقية، وكانت تغذيالحمراءفيالنهاية ,لكنتحويلمجرىنهرداروهوفقطبدايةهذاالمشروعالعملاق، فمازال علىالبناةالتغلبعلىعقبةكبيرة . لأن الخزان كانيقع فيوادٍبينثلاثتلال، ولإيصالهالىالحمراءعلىالمهندسينبناءقناةمائيةطولهاستةكيلومترات.تتعرجعبرالتلالالمحيطةبالحصنويجبانتنقلهذهالقناةمايعادل سبعألافبركةسباحةبحجمالبركالأولمبيةيوميالإعالةسكانالحمراءالمتزايدينوستعملفقطاذاحفرتفياتجاهاسفلالتلبانحدارثابت،لكنكيفيمكنحدوثهذاوثمةتليعترضالطريق، وهنايجدونحلاًجرئياً، بدلاًمنالمرورفوقالمناطقالمرتفعةقررواالمرورعبرالتلبدلامنالمرورفوقه , حفرالبناةنفقااتساعهمتروعلوهمترانعبرسفحالتلباتجاهالحمراءوكانتالمتانةالطبيعيةلتربةالحمراءضامنةلعدموجودخطرالإنهيار ,لابدانحفرقناةعبرالتلالمجاورللحمراءوالمسمىجنات العريفاستغرقشهورا، لكنمازالهنالكمشكلةكبيرةيجبحلهاتقومجناتالعريفعلىتلمختلفعنتلالحمراءيجبانيجدمهندسوالسلطانطريقةلنقلالماءمنجهةالىاخرى .لإيصالالماءمنتلجناتالعريفالمجاورللحمراءعلىالمهندسينعبورفجوةطولهاخمسةعشرمتراًتفصلالتلينوالحلبناءقناةمائيةتصلمياه نهرداروالىالحمراءتمرمنهناوفيالماضيكانتتعبرالساقيةالملكيةوهيالقناةالتيتوصلهاالىمركزالحمراء.

    شكلتالساقيةالملكيةشريانالحياةلحصنالحمراءمنهناكانتالمياهتتدفقالىكلأجزاءالحمراء،كانتتزودالسكانبالماءالعذب، كماكانتتغذيالتحفالمائيةالمتعددةالتيازدانتبهاحدائقالسلاطينصممتهذهالحدائقلتكونرمزاًلمملكة غرناطةالتيحكمهاالسلاطين، كانتللحدائقوظيفةعمليةايضاً,كانتمصممةلخلقواحةوسطحرارةشمسغرناطة.

     ولأن المسلميننشأوا فيالصحراء وفيبيئةكانالماء فيهاشيئاثميناًوكانتالقدرةعلىتوفيرالماءورؤيتهيتدفقأمرامحبباًاليهمبالفطرةفيالواقعانهاكثرمنمحببانهامرلاغنىعنه , المياهالجاريةمهمةبالنسبةللمسلمينلأنهميحتاجونهللوضوء ,ونلاحظفيالحمراءنادرا مايكونالماءراكداًحتىفيالبركالراكدةنجدالماءيتدفقاليهاثمتخرجمنها وهذامهمجداللحفاظعلىطهارةالماءلذلكيجبانتستمرالمياهفيالجرياناذاللحفاظعلىطهارةالماءعلىمهندسيذلك العصربناءنظاميمنعسدالرواسبللقنوات ,ويمكننارؤيةحلهمالعبقريفيشتىانحاءالحمراء , انهابركضحلةمصممةلتخفيفسرعةالماء،تاتيالمياهالمندفعةاسفلالقناةحاملةمعهاالرواسبوالبقاياوتصلالىمساحةواسعةوعميقةممايخففسرعةالماءوالوحلوالرمالالتييحملهاحتىتترسبفيالقاعبهذهالطريقةتبقىمياهالحمراءعذبةباستمرارلكنكثرةالمياهقدتكونضارةفاذافاضتالشبكةقدتتراكمالمياهوتسدالقناةمانعةالمياهمنالتدفقبحريةوللحيلولةدونهذاقررالمهندسونتركيبصمامامان،بهذهالطريقةتمرايمياهفائضةقدتفوقسعةالساقيةعبرانبوبجانبييحرفمسارهاالىقناةتصريف مبنيةداخلالجدران،منهناتخرجالمياه، حيث تبداءالمياهفيالحمراءفيالأعلىثمتهبطفيانبوبعبرمخرجالتصريفهذا, وتندفعفيالقناةوتصبفينهردارو، منجديدقديكونالمهندسون وجدواحلولمشكلةالمياةالزائدةلكنهملايسيطرواعلىقلتها ,واصبحواضحاًانالحمراءقدتستهلكمخزونهاالمائيخلالمواسمالجفافعلىقمةجناتالعريف.

    يكمنحلالمشكلة، بمجموعةضخمةمنالخزاناتأقيمتعلىأرض منخفظة حتىتضمنالجاذبيةتدفقالماءالمستمرلريالحدائق,لإيصالالماءالىتلكالخزاناتسخرالمهندسونحماراًلتحريكأليةمسناتخشبيةمتداخلةعندمايسيرالحمارفيدوائريديرمعهدولاباًافقياًوهذاالدولاببدورهيديردولاباًمسنناًفيتصلبناعورةتغمسمجموعةمنالدلاءفيالساقيةاسفلهاوتصبالماءفيالصهريجالمثبتأعلاها .وبهذهالطريقةاستطاعمهندسوالحمراءتحقيقحلمالسلطان محمد بن الأحمربإنشاءواحةمنالحدائقتحيطبمجموعةالقصورالتييحميهبحصنه.
    – ساعة الأسود في قصر الحمراء
    وأبرز معالم ذلك القصر ساعة الأسود التي أسست في عهد محمد الخامس، وتحتوي على اثنى عشر أسدًا، كان الماء فيما سبق يخرج من فم كل واحد منها على رأس كل ساعة، وأذهلت طريقة خروج المياه من أفواه الأسود العالم أجمع، حيث لم يعهد العالم التقدم الهندسي والمعماري الذي يجعله يتوصل لهذا الأمر وخاصة أن المياه لم تخرج في وقت واحد، وإنما كل أسد على حدى في تناغم موسيقي، فحاول الأسبان معرفة السر بحفرهم لبعض الجوانب من حولها، ولكن أدى إلى توقف الساعة عن الاشتغال بشكلها المعروف، وصار الماء يخرج اليوم من أفواه الأسود جميعها في وقت واحد.

    • هندسة النوافير في الأندلس([35])

    عمل المهندس العربي في الأندلس على إعطاء البنية المائية رمزًا كونيًا وإعجازًا هندسيًا في نقل الماء من مصادره المختلفة إلى تشكيلات حجرية من برك وأحواض ونوافير بأشكال مختلفة لتحقيق غايات بيئية وجمالية.

    وقد أحسن في توظيف عنصر الماء في مختلف نماذج الحدائق  والقصور والمساجد والدور والميادين، وقد كانت وظيفة الماء مهمة متعددة الأهداف والغايات، ولا ريب أن الماء يرطب الهواء ويعدل حرارته، وكذلك فإن الماء يقدم بخريره وبوقع قطراته على سطح الماء موسيقى طبيعية تتناغم مع حفيف أوراق النبات.

    وأما سطح الماء فيعكس صورًا جميلة من تشكيلات النبات والزخارف النباتية بما حوت من أوراق مختلفة وزهور متنوعة ومسطحات متباينة، ويقدم الماء كثيرًا من التباين تحت ضوء الشمس وتحت الظل، ويهيئ فرصة لزراعة كثير من النباتات المائية، ولا شك أن الماء كان وسيلة الطهارة في عصر العرب المسلمين في الأندلس إذ لا تصح الصلاة بلا وضوء، ولا يتحقق الوضوء إلا من ماء جار، وأن جريان الماء كان شغل المهندس العربي المسلم في شتى أنواع الحدائق والقصور والأماكن المختلفة، فأقام شبكة تصل المصدر المائي بشتى أنواع النوافير التي تتزين بها البرك والأحواض المائية،

    ولقد شكلت النوافير مركزًا تناظريًا في الحديقة الأندلسية، وقد يتعدد ذلك المركز في فناء الحديقة أوالقصر وخارجه، ويمكن أن نورد نماذج مختلفة من النوافير كانت شائعة في الأندلس.

    1. نموذج بركة منفردة ذات نافورة مرتفعة أو قليلة الارتفاع.
    2. نموذج برك منفصلة ذات نوافير مرتفعة.
    3. نموذج بركة ذات طابق محاطة بنوافير حجرية على شكل حيوان تصب المياه في ميزاب دائري يتفرع منه قناة تتصل ببرك سطحية ذات نوافير صغيرة قليلة الارتفاع.
    4. نموذج بركة سطحية منفردة ذات نوافير مركزية وجانبية تصب فيها.
    5. نماذج من برك منفردة ذات نوافير بطابقين.
    6. نموذج أحواض مائية مزودة بنوافير جانبية تفصلها بركة صغيرة مزودة بنافورة قليلة الارتفاع.
    7. نموذج أحواض مائية متجاورة مزودة بنوافير جانبية تتوسطها نافورة بركة ذات طابق واحد.
    8. نموذج حوض مائي متصل ببركة سطحية ذات نافورة قليلة الارتفاع.
    9. نموذج حوض مائي منفرد مزود بنوافير على شكل سباع حجرية مشوهة الوجه تمج المياه من أفواهها.
    10. نموذج حوض مائي مستطيل الشكل مزود بنوافير جانبية تقذف المياه على شكل أقواس.
    11. نموذج حوض مائي مربع الشكل مزود بنوافير جانبية تقذف المياه على شكل منخفض إلى وسط الحوض.
    12. نموذج بركة جدارية ذات نافورة تصب في حوض مائي.
    13. نماذج مختلفة من النوافير المركبة في أفواه تماثيل وأشكال مختلفة من التزيينات والزخارف.

    وقد استطاع المهندس العربي في الأندلس أن يتوصل إلى معرفة التدفق والضغط وكمية الماء اللازمين لتأمين عمل النوافير المختلفة وملئ المسطحات المائية باستمرار، ويؤمن جريانًا طبيعيًا في هذه المسطحات وتبديلًا مستمر للمياه فيها، كما استطاع المهندس العربي أن يتحكم في الارتفاعات التي يجب أن يكون عليها صهريج التخزين،

    كما لجأ إلى تحويل بعض أشكال النوافير إلى تماثيل حيوانية كالسباع أو الطيور أو الأسماك مما أعطاها قيمة فنية جمالية أخاذة، مع الأخذ بعين الاعتبار مراعاة نظرة الدين الإسلامي الحنيف لتلك التماثيل، ولذلك كان يجري تشويه وجوه هذه التماثيل وتحويرها. راعى أن يكون المنظر الخلفي بألوانه ومظهره الخارجي، ومساحات الضوء والظلال، جميعًا جزءًا من تكوين النافورة الحجرية التي قد تقوم بدور مركز التناظر في تصميم المكان، وقد زرعت الأشجار والشجيرات والنباتات القابلة للتشكيل لتقوم بدور المنظر الخلفي والغلاف الذي يحيط بالنوافير الجميلة ذات الألوان الفاتحة، وذات التصميم الهندسي الدقيق، وفي بعض الحالات كانت السماء هي المنظر الخلفي النموذجي لها، ومن الأمثلة على ذلك مجموعات النوافير في جنة العريف في غرناطة.

    فقد أحكم المهندس العربي في الأندلس تصميم النوافير الأندلسية بدقة متناهية، وعبقرية هندسية، فأصبح انبثاق الماء تابعًا لإرادته، إن أراد رفعه لارتفاعات وبأشكال مختلفة، وإن أراد أنزله من علو شاهق في أشكال جذابة رائعة.

    • “محكمة المياه” وإدارة الموارد المائية في الأندلس:

        إن محددات الإطار التشريعي للماء في الأندلس ترجع إلى ثلاثة عناصر جوهرية وهي:

    • العنصر الأول: التشارك، مستمدّ من القرآن الكريم والسنّة النبويّة، ويرمي إلى إيجاد نوع من “العدالة الاجتماعية” في استغلال المياه بطريقة تشاركيّة تؤدي إلى المساواة في الانتفاع به.
    • العنصر الثاني : نفي الضرر، إن مبدأ نفي الضرر يهدف إلى حماية المصلحة العامّة للشركاء، وتبرز أهميته عند نشوب النزاعات.
    • العنصر الثالث : العُرف. وهنا لا بد من التأكيد على أهمية الأعراف والعادات في المناخ التشريعي للماء بالأندلس، وترجع إلى تجذّر “فقه الواقع” هناك وانفتاحه على المجتمع. وقد ساهمت المتغيرات السياسية والاجتماعية والاقتصادية بما في ذلك “طبيعة البنيات السوسيولوجية للمجتمع الأندلسي” في ترسيخ الأعراف.

    ونرى أن العلاقات الاجتماعية المتمحورة حول “المسألة المائية” في الأندلس قد تباينت بين التضامن والخصومات. فالاستفادة من الموارد السقوية كانت تخضع للضوابط الشرعيّة والعرفيّة التي مكنت من سيادة ما سمي بـ”الرّي التوافقي، وتمتين ثقافة التضامن في تدبير شؤون السقي (إقامة التجهيزات السقوية وصيانتها جماعياً)، واعتماد نظام تعاقدي تحددت بموجبه”النّوْبة“على أساس العامل الزمني، والحجم الإجمالي للصّبيب، ومساحة الأرض وعدد أفراد الجماعة المستفيدة. وقد عملت الأحكام القضائية والفتاوى الفقهية على مسايرة العادات والأعراف في تمتين أواصر التراضي أثناء الاستغلال الجماعي للمياه.

      وهنا يجب لفت النظر إلى ما يسمى بـ “فقه المعمار المائي الحضري“، أي مجموع الأحكام الشرعية والعرفية والهندسية المنظمة لإنشاء المنشآت المائية وتطورها. ولأن الماء كان له أثر حيوي في تصميم المدن الأندلسية وتنظيمها ووظائفها، فقد أفرز خطتين معماريتين: الخطة الشريطية، أي امتداد بعض الأمصار على طول الأوديّة والسواحل (مثل مالقة وطريانة)، والخطة متعددة النوى، المتسمة بالتبرعم بفعل تفرع المدن بسبب تفرع المجاري المائية التي أقيمت عليها (مثل قرطبة وإشبيلية وغرناطة)([36]).  كما نلاحظ تركز الأمصار الأندلسية الكبرى في وسط وجنوب البلاد “بفعل كثافة الأودية والعيون الدائمة الجريان هناك” ([37]).

      وقد تبع اعتبار المدن وأحوازها وحدات إدارية بضع صور إدارية لا نجد لها شبيها في المشرق، كاتباع الأنهار أو أجزاء منها للمدن التي تقع عليها أو الأقاليم التي تقع فيها، مثال ذلك قول العذري في كلامه عن إقليم جلق من أقاليم سرقسطة:”ونهره يسقي ما وازى قنطرة سرقسطة عشرين ميلاً. ومخرج نهر جلق (El Gallego) من جبال السيراطانيين، ثم يخرج من ناحية وشقة إلى سرقسطة، ويقع في إبرة والجزء الأعلى من نهر جلق يروي من الصخيرة  إلى قنطرة سرقسطة عشرين ميلاً”. فهنا نرى بوضوح أن النهر تابع للإقليم، بل إن الأجزاء التي يرويها محددة تحديداً تاماً، كما تحدد النواحي التي ترويها الترع والقنوات في نظم الري الحالية. وتسمية النهر باسم الإقليم هنا ليست تسمية جزافية بل لها معنى التبعية الإدارية. ومثال  ذلك أيضاً قوله في الكلام عن إقليم شلون(El-Jalon): “وهو غربي سرقسطة ونهره يسقى من قرية قبانش وركلة إلى باب سرقسطة 40 ميلاً ، وحكى بعض من يعرف عن نهر شلون أنه يعم بالسقيا نحو 70 ميلاً، ومعنى ذلك أن أربعين ميلاً من مجرى شلون تابع لإقليم شلون، والباقي خارج عن هذه التبعية. وعلى هذا الأساس قالوا نهر مرسية  ونهر بلنسية وما الى ذلك، فقد كانت لهذه الأنهار أسماؤها الجغرافية وكان العرب يعرفونها، ولكن نسبة النهر هنا تحمل معنى التبعية، أي أن نهر مرسية داخل في حوز مرسية وأقاليمها، ونهر بلنسية كذلك. بل إن مجاري الأنهار الطويلة كانت تقسم، فيدخل كل قسم منها في حوزة مدينة([38]).

      وإن إجراء التوزيع بالأدوار في منطقة بني البوفار يتوافق بشكل عام مع ما هو موجود في جنوبي الجزيرة العربية (أدوار سبعة أيام تحسب من شروق الشمس إلى غروبها) وذلك على الرغم من أنه يشذ عنه أيضا إلى حد ما. فأحياناً يوزع الماء للمزارعين الذين يرغبون في ري حقولهم عن طريق وحدات زمنية تقاس بالساعات المائية أو أية أدوات أخرى يراقبها مسؤول رسمي، وليس ثمة مسؤول يعين للإشراف على توزيع الأدوار، الذي يتم بالاتفاق ما بين المزارعين. وهذا إجراء نادر في شرقي إسبانيا، لكنه ليس مما لم يسمع به([39]).

      ولقد تمتعت القنوات والجداول في الزراعة الأندلسية بأهمية كبيرة وخطيرة  دفعت هذه الخطورة والأهمية الى انشاء محاكم خاصة بالمياه كمحكمة المياه في بلنسيه والتي دارت شؤونها حول قضايا الري وتوزيع المياه من حيث  كمياتها واوقاتها([40])، وقد  انشئت هذه المحكمة من قبل العرب حيث أسسها الخليفة الأموي  عبد الرحمن الناصر([41]) وكان قاضي بلنسيه آنذاك عبد الرحمن بن حبال، وذلك في سنة 349هـ/960م ومازالت موجودة إلى الآن([42])، فعهد الخليفة عبد الرحمن الناصر كان من أزهى عهود الأندلس، وهو العهد الذي استمر لنصف قرن(300–350هـ)، واستطاع في عهده أن يغير حال الأندلس من ضعف وتفكك إلى قوة ومجد وازدهار. فقد كان من أهم آثار عهده إنشاء هذه المحكمة، والتي احتفلت إسبانيا بمرور ألف عام على إنشائها عام 1961م، وحضر الملك الإسباني خوان كارلوس جلساتها أربع مرات، واعتمدت في الدستور الإسباني 1978م، وصارت جزءا من قانون مقاطعة بلنسية الصادر 1982م، ومن قانون الماء الإسباني الصادر 1985م، وأخيرا فقد سجلتها منظمة اليونسكو ضمن التراث العالمي الذي يجب المحافظة عليه في أيلول2009م.

      وتعد هذه المحكمة ميراثاً للشعب الأندلسي بشكل خاص وأوروبا والعالم بشكل عام([43]). ولم يقف الأمر عند إنشاء المحاكم بل كانت هناك عناية واسعة بنظافة تلك المياه والمحافظة عليها ولقد كان المحتسب يأمر بمنع الدواب من الاقتراب من المياه ويعمل على منع النساء من غسل الملابس في الاماكن القريبة منها إلا في أماكن محددة.

      و“محكمة المياه” هذه ما زالت تعقد حتى اليوم وتحافظ على تقاليدها ونظمها العربيةكانت تمثل نموذجاً للمسؤولية الاجتماعية والحلول المبدعة التي يفرزها المجتمع ويقوم عليها ويبقيها، كما اعتبرت أيضاً “مثالاً عمليا للتشريعات المتعلقة بالتدبير القانوني والإداري للسقي” في الأندلس وعن قوانينه وخصوصياته.

    تحولت بلنسية التي أنشأها الرومان على ساحل البحر المتوسط في عهد المسلمين إلى أرض الحدائق والجنات، رغم قلة أمطارها، وذلك بأثرٍ مما أبدعه المسلمون من أنظمة الري والتحكم بالمياه من خلال ما بنوه من سواقٍ وسدود على نهر توريا الذي يمد المدينة بحاجتها من الماء، وهذه التقنيات التي تركها العرب منذ ألف سنة بلغت من التطور والإبداع حدًّا عظيما، ويكفي أنها ما تزال هي الأساليب المعتمدة في الزراعة حتى الآن.

      وهذه المحكمة نشأت كنوع من المحاكم المتخصصة التي تسد حاجة سريعة في تنظيم الماء في بلنسية، وهي تتألف من ثمانية أعضاء يمثلون السواقي الثمانية القائمة على نهر توريا في بلنسية (وهي سواقي قوارت ــ مصلاتة ــ ترمس ــ مستليا ــ فبارة ــ رأس كانيا ــ روبية ــ بيناشير وفيتمار)، فلكل ساقية مستفيدون منها –وهم أصحاب الأراضي الواقعة حولها- وهم ينتخبون فلاحاً منهم ليكون قاضياً عليهم، وتكون مدة انتخابه لسنتين أو ثلاثة، وحين يجتمع الأعضاء الثمانية يترأسهم الأكبر سناً، ثم يختارون بالانتخاب رئيس المحكمة ونائبه.

      تعقد جلسة المحكمة منتصف نهار يوم الخميس من كل أسبوع مثلما كان ذلك في عهد المسلمين، وفيها يتقدم الشاكي بشكايته ويدافع المُتَهَّم عن نفسه، ولا يشترك قاضي هذه الساقية في تداول شأن القضية بل يحكم فيها السبعة الآخرون، وتعد أحكامهم نافذة وغير قابلة للاستئناف أو الطعن أمام أي جهة أخرى، ويقوم بتنفيذها حُرَّاس السواقي تحت إشراف قاضي الساقية الذي لم يشترك في القضية ويعد هو المسؤول عن تنفيذ الأحكام.

    وحراس السواقي أولئك هم بمثابة الشرطة المتخصصة، إذ بخلاف تنفيذهم للأحكام فهم أيضا من يبلغون المحكمة بأي تعديات أو مخالفات وقعت في ناحيتهم.

      قضاة المحكمة هم من الفلاحين الذين يزرعون الأرض ويتكسبون منها بما يجعلهم متخصصون في هذا المجال ويعرفون دواخله وتفاصيله وأساليب الحيل والمخادعات فيه، وهم ما زالوا يرتدون الثياب السوداء التي كان يرتديها الفلاحون في بلنسية منذ العهد الإسلامي، ويجلسون على مقاعد جلدية كنحو التي كان يجلس عليها القضاة قديما، وجلسات المحكمة كانت ولا تزال علنية يمكن لأي امرئ أراد أن يحضرها، كما وتعقد المحكمة في ذات الفناء الذي كانت تعقد فيه غير أنه قديما كان فناء مسجد رحبة القاضي –وهو المسجد الجامع في بلنسية- بينما صار الآن فناء كاتدرائية بلنسية بعد هدم المسجد في زمن إنهاء الوجود الإسلامي في الأندلس.

      وتضمن المحكمة استمرار نفسها من خلال التمويل الذاتي، إذ يحصل القضاة على نسبة من رسوم الري ونسبة من الغرامات التي توقع كعقوبات على المخالفين، وتُكفل لهم نفقات تنقلهم.

    وفي حين كان الاجتثاث الإسباني للمسلمين في غاية الجنون، فإنهم ولافتقادهم أي أساليب تنظيمية للزراعة والتحكم في الماء فقد أبقوا على محكمة المياه هذه كأمر لابد منه لكي لا تخرب بلنسية، إلا أن الخراب أصابها من وجه آخر وهو نقص ذوي الخبرة والمهارة في الزراعة الذين كانوا من المسلمين، إذ صاروا بين قتيل وأسير ومهاجر.

      ومن الملاحظ أن بلنسية ما تزال تستعمل المقياس العربي “فيلان” في قياس كميات المياه التي تحصل عليها كل ساقية بحيث ينضبط التوزيع العادل لمياه النهر بحسب كل ساقية والمساحات التي ترويها، والتي تبلغ أكثر من 40 ألف فدان. وبهذا تمثل محكمة المياه البلنسية الأندلسية نموذجا لمؤسسة اجتماعية ذات نفع عام، استمدت فكرتها وخلودها من خصائص الحضارة الإسلامية التي أنبتتها.

      كان ميدان الري الخاص بالزراعة الجديدة نفسه مزيجاً مركباً من التكنولوجيا (في شكل الملحقات الهيدرولية المطلوبة لتحويل المياه أو توصيلها أو ضخها لغايات الري) والمؤسسات (اتخاذ الترتيبات الضرورية لتوزيع المياه بين فئات المزارعين، بما في ذلك مفاهيم الحقوق المائية ومبادىء تحديد الحصص ونظام المقاييس وآليات الإدارة والقضاء في النزاعات والمراقبة الاجتماعية لتقسيم المياه) إن الأعراف والقواعد التشريعية التي تنظم بموجبها الزراعة الهيدرولية لتشكل –وهذا ما أود أن أؤكده- تكنولوجيا بحد ذاتها، لأنه لولاها، لما أمكن تشغيل المنشآت الفيزيائية والآلية للري ووضعها موضع التنفيذ([44]).

    • أهم علماء الزراعة في الأندلس وانتاجهم

      كانت الأندلس والمغرب العربي متخلفين علميًّا وحضاريًّا عن المشرق الإسلامي في مجال الزراعة حتى أول القرن التاسع للميلاد، وذلك عندما تولى الخلافة عبد الرحمن الناصر،الذي سعى إلى تدارك هذا القصور، وذلك بإرسال البعثات العلمية إلى المشرق العربي للدراسة في بغداد ودمشق والقاهرة، وجلب الكتب المؤلفة والمترجمة إلى العربية. وكانت هذه البعثات بداية لنهضة علمية زراعية في الأندلس حيث  ظهر فيها علماء أجلاء ادخلوا الكثير من العلوم الجديدة إليها.وفي تلك الأثناء ظهرت مدرستان في علم الزراعة الأندلسية:الأولى، اهتمت بعلم العقاقير والنباتات الطبية، وكان من روادها ابن جلجل([45])وابن وافد([46])وابن سمجون([47]) والغافقى([48]) وابنميمون([49]) وابنالبيطار([50]).
    والمدرسة الثانية، اهتمت بعلم الفلاحة والنبات، وكان من روادها ابن بصال الطليطلي وابن حجاج الاشبيلي والحاج الغرناطي و ابن العوام و الشريف الإدريسي وأبو عباس النباتي.

    والحديث الحاسم في ولادة المدرسة الزراعية الأندلسية كان بلا ريب ظهور تقويم قرطبة (Calendario de Codoba)لعريب بن سعيد ففي هذا الكتاب المهدي إلى الحكم الثاني تشير المواد الزراعية المدرجة عموماً في ختام كل شهر من شهور السنة، إلى زراعة الأشجار والجنانة والبستنةوعلاوة على ذلك، ثمة أحداث تدل على احتمال تأليف إبن سعيد لرسالة في الزراعة يمكن أنها تضمنت كل بيانات علم الزراعة التي أدرجها المؤلف لاحقاً في تقويم قرطبة، فإذا صحت هذه النظرية فإن الرسالة المعنية ، التي لم تصل إلينا، ستكون أول ما كتب في الزراعة الأندلسية. أما الرسالة الثانية في هذا الميدان، مختصر كتاب الفلاحة، فتنسب إلى شخصية مرموقة ثانية، معاصرة لإبن سعيد، هي شخصية أبي القاسم الزهراوي طبيب البلاط ايام الحكم الثاني والمنصور بن ابي عامر([51]).  ومن ثم بعد ذلك حدثت نهضة غير مسبوقة في الأندلس في جميع المجالات خاصة في مجال الزراعة والفلاحة فعمرت المدن وكثرت الخيرات وانتشر العلم خاصة في القرنين الخامس والسادس الهجريين واحتلت دواوين الفلاحة حيزًا كبيراً مجالات العلوم كافة، فسمي هذا العصر بعصر نهضة “المدرسة الزراعية الأندلسية“والتي كانت تتمثل على مستوى التأليف والفكر الفلاحي في الموارد التالية:
    1. مجموع الفلاحة لابن وافد.
    2. كتاب الفلاحة لمحمد بن إبراهيم بن بصال.
    3. كتاب المقنع في الفلاحة لأبي عمرو أحمد بن محمد بن حجاج الإشبيلي.
    4. كتاب الفلاحة لأبي الخير الإشبيلي([52]).
    5. زهرة البستان ونزهة الأذهان للطغنري الذي أهداه للأمير أبي طاهر تميم بن يوسف بن تاشفين.
    6. كتاب الفلاحة لأبي زكريا يحيى بن محمد بن أحمد بن العوام الأشبيلي من رجال القرن السادس الهجري([53]).

      وهذا القدر الكبير من الأعمال الفلاحية في الأندلس يجعل مؤرخي العلوم أمام ظاهرة فريدة من نوعها، حيث تقول الباحثة لوسي بولنز(Lucie Bolens): إنَّ هذه المرحلة ؛عبارة عن ثورة خضراء كبيرة، ذات تقنيات زراعية عالية. ويشاركها نفس الرأي جورج سارطون([54]) في المدخل إلى تاريخ العلوم، وقد نوه بنفسه حين صدور كتاب الفلاحة لابن بصال.

      ومما لا شك فيه أن مناخ الأندلس وأرضها وتربتها المتعددة كانت قد ساعدت على تجارب ابن بصال وابن حجاج وابن العوام، كما أن معدل تساقط الأمطار في هذه الحقبة مدار الدراسة هو بمعدل 400 و600 ملم3، كان يسمح بإقامة المشاريع الزراعية، مع تقنيات الري المتطورة .

     كان من أهم آثار العرب المسلمين في الأندلس هندسة الحدائق والرياض الخاصة والعامة، مما يدل على ذوق فني سليم في تنسيق الحدائق، جمعت بين الرقة والبساطة. حيث كان علماء الفلاحة بالأندلس في قمة تطويرهم للعلوم الفلاحية والبيطرة، فقد جابوا أقطار الدنيا للبحث عن أنواع النباتات الطبية والأزهار الجيدة ، وقد تفنَّنُوا في رسم وبناء الحدائق التي اشتهر بها أهل الأندلس الذين أقاموا القرى الفلاحية والمنيات والجنات والبساتين.

    وثمة عامل آخر ذو أهمية بالغة ينبغي أخذه بعين الاعتبار لدى التعرض للازدهار الكبير الذي شهدته الأندلس في الفترة اللاحقة، هو ظهور الحدائق النباتية أو الحدائق التجريبية التي جرى العمل فيها على أقلمة نباتات جديدة أو على تحسين أنواع نباتات معروفة أخرى في تربة شبه الجزيرة الإيبيرية بواسطة البذور والجذور والفسائل التي جلبت إلى الأندلس من بقاع نائية في المشرق العربي. وكان من المعتاد أن يجمع البستانيون في أسفارهم نباتات غريبة كي يجروا عليها اختباراتهم وتجاربهم في وقت لاحق، وكانت رصافة عبد الرحمن الداخل أول ما عرف في هذا المضمار([55]).

    وبفضل السياسة التي انتهجها أمراء قرطبة الأمويون، لاسيما عبد الرحمن الداخل؛ أدْخِلَت إلى الأندلس نُظُمُ الفلاحة وأساليبُ الري الشامية، كما جلبت نباتات وأشجار مثمرة من بلاد الشام. وأدخل الفاتحون الجدد إلى الأندلس محاصيل جديدة ([56]) معظمها تعتمد على الري، ومع المحاصيل الجديدة أُدخلت إلى الأندلس وسائل جديدة في الزراعة، فبعد أن كانت الأرض تظل بورًا في فصل الصيف ولا تنتج إلا محصولاً شتويا أصبحت تُستغل-باستخدام الرَّي- على مدار العام، كما أدخل الفاتحون نظام الدورات الزراعية، كزراعة الذرة صيفًا، بعد زراعة القمح شتاءً، وتطلب ذلك دراسة أنواع التربة واستخدام الأسمدة، وفيها صنف الأندلسيون كتبًا خاصة في القرن الخامس الهجري، الحادي عشر الميلادي؛ تناولت أنواعها وخصائصها، كما قام الفاتحون بإصلاح نظم الري القديمة في الأندلس، وتحسينها وتوسيع شبكتها في كثير من الأحيان، مما أدَّى إلى توفير مزيد من الماء لسقي مساحات أوسع من الأراضي، فازدادت رقعة الأرض السقوية وغلاتها، وازدادت بالتالي مداخيل المزارعين ، وأصبحت أكثر نباتًا وأقل خضوعًا لرحمة التقلبات المناخية ..

    كما أدرك الخبراء الزراعيون اهمية الدور الذي يؤديه خلط الأسمدة في بعض الحالات، وتمكنوا من الارتقاء بالزراعة الأندلسية إلى مستوى لم يستطع اللاحقون التفوق عليه حتى القرن التاسع عشر الميلادي، بفضل التطور في علم الكيمياء، ولقد أمر الحكام الأسبان في عصر التنوير (القرن الثامن عشر الميلادي) بترجمة رسالة إبن العوام إلى اللغة الإسبانية إدراكا منهم لذلك التطور، كما ترجمت الرسالة ذاتها إلى الفرنسية في وقت لاحق لوضعها في تصرف المزارعين الجزائريين([57])

    من الإبداعات التي تستدعي الكثير من الاهتمام في ذلك الوقت كان انتاج نباتات المشتل. فقد برع في ذلك العالم “ابن ابي زكريا” الذي كتب كتاب “الفلاحة” خلال فترة العصور الوسطى والذي احتوى على اكثر التفاصيل التي كتبت عن الهندسة الزراعية في حينه وقد ترجم إلى الإسبانية تحت عنوان “مسلم من الاندلس” وقد استفاد منها المزارع الإسباني وخاصة فيما يتعلق بزراعة الحمضيات وبعض الممارسات التي لا تزال تطبق لغاية الآن.

    وفي هذه المجالات ظهرت عبقرية الطغنري، وابن بصال وابن العوام، ومن قبلهم ابن وافد الطليطلي الطبيب والصيدلي الكبير كما تنعته الدراسات الأسبانية (تـ467هـ/ 1075م) الذي خدم الأمير المأمون(1037 -1075) وزرع له جنة السلطان، وهي مضرب المثل في الحدائق الأندلسية التجريبيةما بين التاج والقنطرة([58])، وابن بصال هو الذي خدم أيضًا بنفس الحديقة النموذجية وعند نفس الأمير العالم والفيلسوف، والمؤلف المجهول من القرن الثاني عشر الميلادي صاحب” ترتيب أوقات الغراسة والمغروسات وأبي الخير الإشبيلي، وهذا كله يدل على مكانة المسلمين وما وصلوا إليه من عبقرية في علوم الفلاحة، فقد كانوا عظماء وفلاسفة ونوابغ في الفنون والعلوم النظرية والتطبيقية، ولم يكونوا نقالة لكتب وبحوث ونظريات غيرهم، كما يعتقد بعض الجاحدين لفضائل دور العرب والمسلمين في بناء قواعد العلم الحديث، فهم الذين بنوا الأسس العلمية بأمانة وإخلاص والدعوة إلى ذلك وجعل البرهان دليلا شاهدًا([59]) فقد كان كتاب “زهر البستان ونزهة الأذهان ” للطغنري(أبي عبد الله محمد بن مالك الطغنري) من قرية طِغْنر بضواحي غرناطة)(Tignar) من أهم المجاميع في الفلاحة والبيطرة والذي كان في خدمة الأمير الزيري عبد الله بن بلقين حاكم غرناطة(465-483هـ/1073-1090م) ثم دخل في خدمة الأمير اللمتوني أبي طاهر تميم بن يوسف بن تاشفين حاكم غرناطة المرابطي شقيق أمير المسلمين علي، والذي أُهْدِيَ إليه الكتاب كما هو مسجل في ديباجته، وهذا الجمع الكبير من العلماء كانوا أعلاماً في علم الفلاحة وتقنياتها وتجاربها وشكلوا ثورة علمية خضراء كما تقول الباحثة لوسي بولنز (Lucie Bolens) من جامعة جنيف حيث درست هذه الكتب في أكثر من دراسة([60]).

    اما في الفترة ما بين القرنين الحادي عشر والثاني عشر فقد قام العالم “أبو الخير” بتأليف كتابه عن الفلاحة وتطرق فيه إلى الكسب غير المشروع في الفلاحة الامر الذي يتطلب معرفة دقيقة بالطبيعة والاشجار والمواسم. وقام بتصنيف الأنواع الأساسية من الأشجار مثل الأشجار الزيتية (كالزيتون والغار) والاشجار الراتنجية (كاشجار اللوز والخوخ والبرقوق)، والاشجار الحليبية (كالتين والتوت والعنب والرمان). كما ذكر العالم “ابن البصال” بعض تصنيفات النبات حسب نجاح أو فشل الطعوم فيها. حيث صنف النباتات إلى 4 مجموعات وأضاف مجموعة خامسة تتكون من النباتات المائية دائمة الخضرة. وقام بتصنيف النباتات حسب المناخ إلى 7 مجموعات ووضعت الحمضيات (البرتقال والليمون) كاشجار مناسبة للبيئة الاندلسية. أما بالنسبة للمعلومات الخاصة بالاسمدة فقد اهتم بذلك كل من ابن البصال وابي الخير وابن العوام في عمليات تحديد اوقات الاستخدام وانواع الأسمدة حسب مصدرها والفوائد المختلفة لها سواء كانت طازجة او مختمرة وسواء كانت من الماعز او الخيول وحول إعطاء أفضل النتائج المرجوة بالنسبة لنمو النباتات والأشجار المزهرة أو المثمرة.
    ولقد اشتغل ثلة من المستشرقين بنشر التراث العلمي في علم النبات والفلاحة والحيوان وغيرها لحاجات علمية أحيانا وتنموية أحيانا كثيرة، نظراً لما يحويه هذا التراث من تجارب علمية مفيدة في التطبيقات الزراعية المعاصرة، ومن تأسيس نظري ومنهجي لهذه العلوم، يتضمن أصولا علمية وقواعد عملية وقوانين تجريبية أثرت بشكل مباشر على النهضة الغربية في بلاد الغرب. فنشروا كتباً مهمة وترجموها إلى لغاتهم، بينما بقيت مجهولة بين القوم الذين أنتجوها ابتداء. ومن أبرز هذه الكتب : كتاب (الفلاحة الأندلسية) لابن العوام الإشبيلي(ت 580 ه/ 1184م)، الذي يعتبر موسوعة علمية ضخمة في مجال علم الفلاحة، نشره مع ترجمة إلى الإسبانية ومقدمة علمية سنة 1802م جوزيف أنطونيو بانكيري J. A. BANQUERI، وترجمه إلى الفرنسية ترجمة ناقصة كليمون مولي J. J. Clément-Mullet في الفترة بين عامي 1864 و 1867، وكان قد ترجم قبل ذلك إلى اللغة العثمانية عام 1590 من قبل محمد بن مصطفى، ويوجد نسخة من هذه الترجمة في المكتبة العامة باسطنبول في قسم ولي الدين تحت رقم 2534 ، ونسخة أخرى في مكتبة بورصا العامة في تركيا حسب ما يفيد بروكلمان. كما ترجم إلى لغات أخرى كالإيطالية والانجليزية والأردية. ولم ينشر الأصل العربي محققاً إلا سنة 2012م([61]) .

      وكان ابن بصال الطليطليمن أوائل من ألف في الفلاحة، ومارسها في بلده طليطلة علمًا وعملًا، بحيث كان ينتقل من الدراسة النظرية إلى العمل التجريبي، ويعتبر كتابه أحد أهم الكتب التي وصلتنا في مجال الزراعة الأندلسية، ويضم الكتاب جميع ما يتعلق بفن الزراعة. يذكر محقق “كتاب الفلاحة” لابن بصال([62]) الإشارات المتعلقة بابن بصال في كتب معاصريه ومن جاء بعده من المؤلفين وهي مرتبة ترتيباً تاريخياً مبتدئين بـ”كتاب النبات” لأبي الخير الأشبيلي – المجهول المؤلف زمن نشر كتاب ابن بصال- الذي عنوانه “عمدة الطبيب في معرفة النبات لكل لبيب”، وهو الكتاب الذي قام المستعرب آسين بلاسيوس بدراسته، وقد ألف كتابه بعد سنة 488هـ/1095م، وأبو الخير الأشبيلي يردد بين حين وآخر صدى مذكرات جرت بينه وبين ابن بصال في الأندلس على ما يظهر، ولعلها كانت في قرطبة أو إشبيلية.

      قام كل من خوسيه مارية مياس بييكروسا، ومحمد عزيمان بنشر مقالين في مجلة الأندلس عام 1362هـ/ 1943م، درسا فيهما الترجمة الإسبانية لكتابين عربيين في الزراعة، أحدهما “مجموع في الزراعة “للطبيب والنباتي الطليطلي أبي المطرّف عبد الرحمن اللخمي، المعروف بابن وافد، والثاني كتاب “القصد والبيان” لأبي عبد الله محمد بن إبراهيم إبن بصّال، المعاصر لابن وافد، ولم يكن الأصل العربي للكتابين معروفًا، فظل الرجلان مجهولين عند معظم الباحثين، ولم تكن توجد إلا إشارات عابرة لكتاب ابن بصال في كتابات بعض المؤلفين المتأخرين، وإذا لم تكن الترجمتان تامتين، فإن لهما أهمية علمية وتاريخية لا غبار عليها.

    • الخاتمة

    وخلاصة القول: إن العرب المسلمين قد سجلوا نتائجهم في كتب عديدة تمثل مجموعة رائعة من آثار البحث العلمي، فمنها :

    1. ما كان ميله نحو الوجهة العلمية التطبيقية، فيعرف الناس بالطرق التقنية الواجب اتباعها في استثمار مقدرات الطبيعة وابتكار طرق مهمة وحديثة في الزراعة والري، واستخدامها لضمان الزيادة في الإنتاج، وتحسين المستغلات كما ونوعًا، وخزن الثمار الناتجة عنه، والحفاظ عليها من التعفن والفساد…
    2. ومنها ما توجه وجهة تطبيقية ثانية تتمثل في درس خواص النباتات الطبيعية وتجربتها، معتمدًا على المشاهدة الحسية والتجربة المادية، مدققا مدى صلاحيتها والمقادير الواجب استعمالها لإصلاح الأبدان ومعالجة الأدواء([63])
    3. ومنها ما توجه وجهة علم طريفة ، فدقق في وصف النباتات ، وتعرف على ذواتها ومنابتها ووصف سوقها وأوراقها وجذورها وأزهارها وثمارها وبذورها، وآلت البحوث إلى التصنيف في عالم النبات وخصائصه، وقد أدرك العلماء أهمية هذه المرحلة التي لم تعرفها أوروبا إلا في مطلع القرن السادس عشر، وفي هذا الشأن نلاحظ أن أول تصنيف ظهر بأوروبا كتاب دي بلانتيس(De Plantis) من تحرير أندريا سيسلفينو(Andrea Cesalfino) الإيطالي حوالي عام 1524م ونشر بفلورنسا عام 1563م. إن تراث المسلمين في هذا الميدان جد حيوي، وهو ميدان الزراعة والري.

    [1]) جاك ريسلير، الحضارة العربية، دار عويدات-بيروت-باريس، تعريب خليل أحمد خليل، ص: 118

    [2]) توماس ف. غليك، التكنولوجيا الهيدرولية في الاندلس، منشور ضمن كتاب الحضارة العربية الاسلامية في الاندلس، ترجمة: صلاح جرار، ج2، ط2، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت –1999، ص: 1346

    [3])توماس ف.غليك، التكنولوجيا الهيدرولية في الأندلس، ص:1348 

    [4]) أميريكو كاسترو: Américo Castroفقيه لغويومؤرخ ثقافي إسباني، وُلد في كانتاجالو في ولاية ريو دي جانيرو في البرازيل في 4 مايو عام 1885م انتمى كاسترو إلى جيل عام 1914. وتُوفي في يوريت دي مار في إسبانيا في 25 يوليو عام 1972

    [5]) توماس ف. غليك، المرجع نفسه، ص:  1349 

    [6]) خوان فيرنيه، العلوم الفيزياوية والطبيعية والتقنية في الأندلس، ترجمة أكرم ذا النون، (الحضارة العربية الاسلامية في الأندلس)،الجزء الثاني، ص:1304

    [7]) جاك ريسلر، الحضارة العربية، ص: 156

    [8]) هناك رأي لكبار علماء التاريخ الأندلسي بأن كلمة (Favara)من الكلمة العربية (فوارة) وهو مصطلح للتعبير عن كثرة المياه.

    [9])(كلمة زرب وجمعها زروب تشير الى قناة التصريف “السرب” بالنلنسية والقشتالية) توماس ف.غليك، المرجع نفسه، ص: 1352 _1353

    [10]) توماس ف.غليك، المرجع نفسه، ص: 1351

    [11]) توماس ف.غليك، المرجع نفسه، ص: 1352

    [12]) الاصطلاح العام المستخدم في التعبير عن وحدات قياس الماء في شرقي إسبانيا والمسمى fila يطلق عليه(hila)في بالنسيا و(hilo) في قشتالة، فالكلمة تعني خيط. ونعرف من خلال أسماء الأماكن مثل فيتانارا أو الفيتامي ، ومن خلال التوثيق، أن fila هي ببساطة ترجمة بلغة الرومانس لكلمة خيط وكلمة fila في كل مكان تقريباً تعني وحدة حساب في النظام الإثني عشري، أي أنها تخيلاً تعبر عن حصة الفرد أو المجموعة أو البلدة من الماء كحصة من الكمية الإجمالية للماء في الجدول، أو جزء من الجدول ، أو في مرحلة ما، من مراحل سيره. وكلما كان لا بد من قياسها، كما في حالة شح في المياه فإنها كانت تحول –كما يقتضي المنطق- إلى وحدات زمن (ساعات او ايام من الماء) . إن شيوع وحدات القياس في النظام الإثني عشري من أجل الري في أرجاء العالم الإسلامي كافة يجعل من كلمة (fila) أساس الحجة التي تبرهن الدمغة العربية على ترتيبات التوزيع، جنباً إلى جنب مع الإصطلاحات لدورة الري مثل (tanda( (المجهولة المصدر، لكن يعتقد أنها من أصل عربي في بالنسيا، و”dula” (من دولة)  ، التي تعتبر مصطلحاً عاما تقريبياً لكلمة (دورة) في اليمين وسلسلة الواحات الصحراوية، وكلمة (ador) (المشتقة من” دور” dawr)، وهلم جرى. أما في القنوات فكان الماء يقسم إلى أقسام تامة بواسطة منشآت مادية تدعى القواسم (partidor)في اللهجة القطلانية وفي القشتالية، ولكن يوجد إلى جانب ذلك عدد من الكلمات المرادفة العربية الأصل في الأنظمة التي سادت بعد الاحتلال المسيحي، مثل((almatzem  من كلمة “مقسم” (maqsam) في غانديا (gandia) ، وكلمة شيستار (sistar) من “شطارة ” في منطقة“Vall de SegÒ” وكلتهما من كلمات عربية تعني”يقسم”). توماس ف.غليك، المرجع نفسه ، ص:1354

    [13]) توماس ف.غليك، المرجع نفسه، ص: 1353

    [14]) الناعـور: وهو من الادوات التي نقل العرب استخدامها من بلاد الشام الى الاندلس واستخدمت لسقي الحقول ولا تزال مستعملة في بعض مناطق اسبانياولا يزال يلفظ باسمه العربي في الوقت الحاضر (Noira) فضلا عن (Garraffu) الذي يغرف به بواسطة الناعور. والناعور من الآلات المائية التي تركب على= = الانهاراو الجداول الدائمة الجريان او على قنوات الري الرئيسية كما في مناطق الري في مرسية ، توماس ف.غليك، المرجع نفسه ص: 1357، وتتكون من دولاب دائري مصنوع من الخشب قائم بشكل عمودي على منسوب الماء وحوله اوعية فخارية، او علب من التنك حول دائرته مربوطة بشكل منظم بحبال قوية على طول دائرته. وسمي بالناعور لصوت يخرج منه وكل الدوالي التي تغرف بالدور فهي المنجنونات منها منجنون ومنجنينويدور هذا الدولاب بقوة تيار الماء فيسمى بالناعور المائي ، ميتز،الحضارة الاسلامية، ج2،ص:338 . ويستخدم الناعور لرفع الماء اذا كان على مسافة قريبة من سطح الارض، كما يستخدم بالري في الاراضي المرتفعة وفي وديان الانهار مثل وادي آنة وابرة وتاجة. ومن النواعير التي كان لها الاثر الكبير في الزراعة ناعورة طليطلة على نهر تاجة حيث بلغ ارتفاعها في الجو تسعين ذراعاً وهي تصعد الماء الى اعلى القنطرة ويجري الماء على ظهرها فيدخل المدينة . ونواعير بلنسية، والنواعير الموجودة على الجداول المتفرعة من نهر مرسية والتي تسقي جناتها، فضلاً عن النواعير الموجودة في قرطبة التي تصعد الماء من الوادي الكبير الى بساتين قرطبة فتسقيها، وناعورتان على نهر ابرة قرب سرقسطة تداران بقوة الماء، وللمكانة التي احتلتها الناعورة واثرها الكبير بالزراعة اطلق على المكان او القصر الذي توجد به الناعورة بأسمها كقصر الناعورة غرب قرطبة خلال فترتي حكم الخليفتين عبد الرحمن الناصر والحكم المستنصر (300 –350هـ/912 –961م) بن عبد الرحمن الناصر (350-366هـ/961 –976م)

    ادم متز، الحضارة  الاسلامية في القرن الرابع الهجري ، ترجمة : محمد عبد الهادي ابو ريدة ، مج2 ، دار الكتاب العربي، بيروت ، ص338 .

    ابن سيده ابو الحسن علي بن اسماعيل الاندلسي ، المخصص، مج2 ،بيروت ، ص162 .

    صبري فارس الهيتي، نواعير الفرات شواهد تاريخية على اصالة حضارية، ندوة النواعير، مركز احياء التراث العلمي العربي، بغداد 1990، ص:15 

    المقري: أحمد بن محمد المقري التلمساني، نفح الطيب، شرح مريم قاسم طويل ويوسف علي طويل، دار الكتب العلمية-بيروت، ط1، ج1، ص: 389.

    [15]) الشـادوف: وهو من آلات الرفع الواطئ وهو عبارة عن عمود تتحرك فوقه خشبة طويلة يعلق في احد طرفيه الدلو ويثقل الطرف الاخر بالحجارة حتى اذا نزل الدلو في الماء وامتلأ صعد بقوة الثقل .

    [16]) الري بالصهاريج : تعرف الصهاريج بأنها جوبة كالبئر المطوية بالبلاط نقرت من الصخور او هي حياض يجتمع الماء فيها. وتبنى الصهاريج في جوف الارض وتغطى فتحاتها بغطاء من الرخام . وتستخدم هذه الصهاريج للاستفادة من سيول الامطار وذلك من اجل خزنها عند الحاجة  وتحفر هذه الصهاريج بالتدرج بحيث يكون الصهريج الاول اعلى مكاناً من الصهريج الثاني والتالي له والصهريج الثالث اقل ارتفاعاً من الثاني وهكذا. وفي مدينة قادس استخدمت صهاريج للسقي محكمة البناء وهي اعجب ما صنع على وجه الارض وكانت المياه تنصب في تلك الصهاريج فضلاً عن الخزانات والصهاريج في قصبة المرية . كما انشأ الامير هشام بن عبد الرحمن الداخل (172-180هـ/788-796م ) الصهاريج الضخمة والبرك البديعة واحواض الرخام المزينة بتماثيل مختلفة. أحمد زكي: صهاريج عدن أروع أثار العرب في الهندسة، مجلة العربي، عدد 68، 1964، ص:57 

    [17]) توماس ف.غليك، المرجع نفسه، ص: 1356

    [18]) الخوارزمي ، محمد بن احمد بن يوسف ، مفاتيح العلوم ، مطبعة الشرق-مصر – 1342هـ ، ص46 .

    [19] ) الكرخي ابو بكر محمد بن الحسن الحاسب ، انباط المياه الخفية ، حيدر اباد ، الدكن -1359 ، ص22- 23 .

    [20] ) توماس ف.غليك، المرجع نفسه ، التكنولوجيا الهيدرولية ، ص1353 .

    [21]) لاند ، روم ، الإسلام والعرب ، ترجمة : منير البعلبكي ، ط2 ، دار العلم للملايين ، بيروت-1977 ، ص:175 .

    [22]) المقري ، نفح الطيب ، ج1 ، ص564 –565 .

    [23]) فيليب حتي  واخرون ، تاريخ العرب المطول ، ج3، ط2، دار الكشاف للنشر والطباعة والتوزيع ، 1953 ، ص631 ؛ انيس زكريا النصولي، الدولة الاموية في قرطبة، ج1، المطبعة العصرية، بغداد – 1926، ص119  .

    [24]) توماس ف.غليك، المرجع نفسه، التكنولوجيا الهيدرولية، ص1351

    [25]) اونبة : قرية غرب الاندلس على خليج البحر المحيط. ياقوت بن عبد الله الحموي، معجم البلدان، ج1، دار صادر، 1397ه/1993م ص283

    [26]) طركونة: مدينة حصينة على البحر المتوسط وبها رحى تطحن بقوة ماء البحر. مؤلف مجهول، ذكر بلاد الاندلس، دار أسامة- دمشق 1867م، ص:72

    [27]) توماس ف.غليك، المرجع نفسه ، التكنولوجيا الهيدرولية ، ص1354 – 1355 .

    [28]) المقرى نفح الطيب، ج3، ص: 383

    [29]) توماس ف.غليك، المرجع نفسه، ص: 1357

    [30]) توماس ف.غليك، المرجع نفسه، ص: 1358

    [31]) حسن إبراهيم حسن، تاريخ الاسلام السياسي والديني والثقافي والاجتماعي، مكتبة النهضة الاسلامية، الطبعة السابعة سنة1965  ج3، ص322

    [32]) توماس ف.غليك، المرجع نفسه، ص: 1361

    [33]) احمد بن محمد بن علي الفيومي، المصباح المنير في غريب الشرح الكبير، ج1، المكتبة العلمية – بيروت ، ص: 118.

    [34]) محمد بن مكرم بن على، أبو الفضل، جمال الدين ابن منظور الأنصاري، لسان العرب، دار صادر– بيروت ط3– 1414 هـ،مج6، مادة حبس، ص45 .

    [35] ) مقال بعنوان  هندسة النوافير في الأندلس ، محمد هشام النعسان، نشر في 22-8-2016 في موقع قصة الإسلام  www.ISLAMSTORY.COM اشراف الدكتور راغب السرجاني،

    [36]) سعيد بنحمادة ، الماء والانسان في الأندلس في القرنين7و8هـ/13و14م ، دار الطليعة للطباعة والنشر، ط1، 2007 (ص 103-104)،

    [37]) سعيد بنحمادة ، المرجع نفسه، (ص 114).

    [38]) حسين مؤنس، فجر الأندلس، دار العصر الحديث ، ودار المناهل،  ط1، 1423ه /2002م، ص 602

    [39]) توماس ف.غليك، المرجع نفسه، ص: 1356

    [40]) حسين مؤنس ، رحلة الأندلس حديث الفردوس الموعود، الدار السعودية للنشر والتوزيع، ط2، 1405ه/1985م، ص277

    [41]) بعض المصادر التاريخية تشير الى أن تأسيسها يعود إلى عصر الحكم المستنصر ومن الممكن أن يكون مرد ذلك إلى أنه بدئ العمل بها في السنة الأخيرة من حكم أبيه الناصر أي 349هـ

    [42]) فيصل دبدوب، بلنسية انظمة الري ومحكمة المياه فيها القائمة الى اليوم ، مجلة العربي ، ع 157 ، الكويت – 1971 ، ص129 .

    [43]) محمد هشام النعسان، أساليب الري في بلنسيه الأندلسية، ندوة الإنتاج الصناعي والزراعي في الحضارة العربية الإسلامية، الجمعية الأردنية ، تاريخ العلوم ، الأردن- 2001 ، ص293 – 294 .

    [44]) توماس ف.غليك، المرجع نفسه، ص: 1346

    [45] ) ولد ابن جلجل عام 332 هـ، اهتم ابن جلجل بكتاب الحشائشلديوسقوريدس، فعمل على شرحه وتفسيره والتعليق عليه، وبخاصة على أسماء الأدوية وذلك في أكثر من مؤلف.

    [46] ) ولد أبو المطرّف عبد الرحمن بن محمد بن عبد الكبير بن يحيى بن وافد بن مهند اللَّخْمِيّ المعروف بابن وافد في طليطلة في ذي الحجة 387 هـ. اهتم ابن وافد بدراسة الطب، وحذق علم الأدوية المفردة، وألف فيه كتابه «الأدوية المفردة» ولابن وافد كتب أخرى في الطب. وابن وافد يرى ضرورة تجنّب التداوي بالأدوية ما أمكن التداوي بالأغذية، وإذا دعت الضرورة إلى التداوي بالأدوية فالأفضل التداوي بالأدوية البسيطة، وإذا كان لا بدّ من تركيب الأدوية فالأفضل عدم الإكثار وتوفي ابن وافد بعد سنة 460هـ.

    [47] ) العالمالعربيالمسلمأبو بكر حامد بن سَمِجون، أو سَمْجون، طبيبأندلسي من أبناء القرن الرابع الهجري. كان له يد في تقدم العلوم الصيدلية والعقاقيرية في الأندلس أيام الحكم الثاني والحاجب المنصور بن أبي عامر. وقد توفي حوالي السنة 400 هـ. ولابن سمجون من الكتب: كتاب الأدوية المفردة وكتاب الأقراباذين.

    [48] ) (القرن السادس الهجري / الثاني عشر ميلادي)

    [49] ) أبو عمران موسى بن ميمون بن عبيد الله القرطبي (30 مارس113513 ديسمبر1204) المشهور بالرمبم (الحاخام موشيه بن ميمون) اشتهر بكونه أهم شخصية يهودية خلال العصور الوسطى وهو من عائلة يهودية شمال أفريقية من المغرب تُعرف بعائلة الباز وهي عائلة يهودية كبيرة

    [50] ) ضياء الدين أبو محمد عبد الله بن أحمد المالقي المَعروف بابن البيطار، والملقَّب بالنباتي والعشَّاب (593 هـ / 1197م646 هـ / 1248م) عالمنَبَاتيوصَيْدَليمُسلم، يعتبر من أعظم العلماء الذين ظهروا في القرون الوسطى، وعالم عصره في عُلوم النباتوالعَقَاقِير، والصيدلاني الأول في تراكيب الدَّواء ورائد العلاج الكيميائي. ولد في الأندلس بمدينة مالقة، وتلقى علومه في إشبيلية

    [51]) إكسبيراثيون غارثيا سانشيز،الزراعة في إسبانيا، ترجمة أكرم ذا النون( بحث في كتاب الحضارة العربية الاسلامية في الأندلس) ج2، ص: 1368-1369

    [52]) فيصل دبدوب، بلنسية وانظمة الري ومحكمة المياه فيها القائمة الى اليوم ، مجلة العربي ، ع 157 ، الكويت – 1971 ، ص129 .

    (4) محمد هشام النعسان، أساليب الري في بلنسيه الأندلسية، ندوة الإنتاج الصناعي والزراعي في الحضارة العربية الإسلامية، الجمعية الأردنية، تاريخ العلوم، الأردن-2001 ، ص293 – 294 .

    [53]) أبو زكريا، يحيى بن محمد بن أحمد ابن العوام الأشبيلي،، كتاب الفلاحة، تقديم محمد الفايز، باريس مطبوعات الجنوب، ديسمبر2000، ص22

    [54]) جورج سارطون، ابن بصال=كتاب الفلاحة، نشره وترجمه وعلق عليه خوسي ماريا مياس بيكروسا ومحمد عزيمان(231 صفة بالأسبانية و 182 صفحة بالعربية) تطوان، المغرب، معهد مولاي الحسن، 1955م. ترجمة مجلة تطوان لمقال الأستاذ جورج سارطون الأستاذ بجامعة هارفارد وهو تعليق صدر بمجلة”أسيس”(ISIS) مجلد 47 الصادر في مارس 1956م.ص: 74-77.

    [55]) إكسبيراثيون غارثيا سانشيز، الزراعة في إسبانيا، ص: 1369

    [56] )حسان حلاق، دراسات في تاريخ الحضارة الاسلامية، دار النهضة العربية-بيروت، ط2، 1999م، ص:284

    [57]) خوان فيرنيه، العلوم الفيزياوية والطبيعية والتقنية في الأندلس، ص: 1304

    [58]) ابن وافد عبد الرحمن بن محمد، كتاب الأدوية المفردة منشورات محمد علي بيضون، دار الكبت العربية،2000، ص:9

    [59])آنخل جنثالث بالنثيا، تاريخ الفكر الأندلسي، ترجمة حسين مؤنس، مكتبة الثقافة الدينية –القاهرة، ص: 475. 

    [60]) للتوسع أنظر كتاب سلمى الخضراء الجيوسي، الحضارة العربية الاسلامية في الأندلس، مركز دراسات الوحدة العربية، ج2، ط2، 1999، الصفحات: 1345-1366 و1367-1384 و1385-1410.

    [61] )

    [62]) إبن بصال، كتاب الفلاحة، نشره وترجمه وعلق عليه: خوسي مارية مياس بييكروسا، ومحمد عزيمان معهد مولاي الحسن، تطوان 1955م. 

    [63]) محمد سويسي، نماذج من التراث العلمي العربي، دار الغرب الإسلامي، 2001 ص:208.

  • تاريخ الآفات الزراعية في الدولة العباسية – د. محمد عمر بشينة

    تاريخ الآفات الزراعية في الدولة العباسية

    ( 206-624هـــ /821-1227م)

    د. محمد عمر بشينة الجامعة الأسمرية الإسلامية. ليبيا

      مقـــــــدمة

        الحمد لله الذي خلق الإنسان، علمه البيان، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

        تتناول هذه الورقة  البحثية تاريخ الآفات التي أضرت بالزراعة في الدولة العباسية وهي تعدّ من أهم العناصر المعتمد عليها في عملية تقوية الجانب الاقتصادي، والذي منه الكثير من المأكولات وخضار وفواكه والصناعة والتجارة خاصة وأن الدولة العباسية تشتهر بأجود أنواع التمر والعديد من الفواكه والغلات الزراعية في ولايات الدولة العباسية، وكذلك المكسرات التي تشتهر بها خراسان وما جاورها، لذا  فقد سجل لنا التاريخ الإسلامي هذه الأضرار في المزروعات، وقد قسَّم الباحث هذه الدراسة إلى محورين أساسيين أولهما: الآفة التي يسببها الجراد والقوارض وجاء هذا المحور بمطلبين: المطلب الأول: آفة الجراد. والمطلب الثاني: آفة القوارض، وجاء المحور الثاني: بآفات الظواهر الطبيعية وتكوَّن من ثلاثة مطالب. الأول: الفيضانات . والثاني: الرياح والزلازل، والثالث: الأمطار والبرد والثلوج.

    المحور الأول: آفة الجراد والقوارض

    أولاً: الجراد

        ذكرت لنا مصادر التاريخ الإسلامي الجراد وما قام به من إفساد المحاصيل الزراعية حيث ذكر الجريري قصة عنه: ” قيل لأعرابي : أكان لك زَرْعٌ ؟ قال: نعم، ولكن أتانا رِجْلُ([1]) من جراد([2])، تَنَبَّل مناجل الحصاد، فسبحان مُهلك القوى الأكول، بالضَّعف المأكُول ” ([3]). ويستشف الباحث من هذه الرواية أن الجراد في هذا الزرع كان كثيرًا جدًا، فلهذا أتى عليه على بَكرة أبيه، ومن المعروف يُقْصَدُ بالزرع الشعيرُ أو القمح وغيرهما، وعلى أي حال فإنه يضر بعنصر مهم يعتمد عليه الجانب الاقتصادي.

       ويذكر القاضي النعمان قضية أخرى وهي الجراد حيث ذكر: ” واعتزم المعز لدين الله على الخروج عن الحضرة لمطالبة بعض الكور واحتفار أنهار أن يجريها إلى الحضرة، فبعد الجراد أعدّ لذلك وقرب الوقت الذي اعتزم على الخروج فيه جاءت الأخبار بأن الجراد قد أطل على البلد وأشرف عليه، وبوّخ [ أفسد ] في كل موضع نزل فيه. فكان ذلك كسرا من عزمه على الخروج، وقال : متى خرجنا فحللنا ببلد وأعقبهم بعد ذلك حلول هذا الجراد بهم، خشينا أن يتطيَّر بنا منهم من لا خير فيه وأن يجعل من ذلك مقالاً “([4]). والواضح أن الجراد إذا حل بأي بلاد خرّب محاصيلها الزراعية.

         وأيضًا ذكر ابن الأثير في سنة: ( 311هـ/ 923 م ): ” وفيها ظهر جراد كثير بالعراق فأضّر بالغلاَّت والشجر وعظم ” ([5]). يعني هذا أنها أضرت بالغلات والشجر الذي ينتج العديد من أصناف الفاكهة، وابن الأثير لم يفصّل أنواع الأشجار بل اكتفى بقول عامٍ المراد به جميع الأشجار التي تنتج الفواكه، والتي لا تنتج الفواكه، وعلى أي حال فإن الفواكه تعد من أهم أصناف الطعام العباسي، قال الأصمعي: حضرت البادية فإذا أعرابي زرع بُرًّا له، فلما قام على سُوقه وجاد سُنْبُلُهُ أتت عليه رِجْلُ جَرَاد. فجعل الرجُلُ ينظر إليه ولا يدْرِي كيف الحيلة فيه. فَأَنْشَأَ يقول:

    مر الجرادُ على زرعي فَقُلتُ له      لا تأكلن ولا تشغل بإفسادِ

    فقام مِنهم خَطِيبٌ فوق سُنْبُلَةٍ       أَنا على سفرٍ لا بُدَّ مِنْ زَادِ([6]).   

      ويقول الحنبلي رواية في سنة: ( 331هـ/ 942 م ) مفادها: ” وافى جراد زائد عن الحد، حتى بيع كل خمسين رطلا([7]) بدرهم ([8]) واستعان به الفقراء على الغلاء ” ([9]). أورد الحنبلي قضية أخرى من قضايا الطعام، ألا وهي قضية الجراد، فكما له أضرار له فوائد حيث إنه يستعمل للأكل عند قلة الطعام([10])، وخاصة من الطبقة العامة    والفقيرة، والواضح أن معظم المشكلات التي أثرت في المحاصيل الزراعية كما ذكر ابن الأثير في سنة: ( 342هـ/ 953 م ) الجراد الذي أثر في الغلات: ” في هذه السنة في الحادي والعشرين من شباط([11]) [ فبراير ]، ظهر بسواد العراق جراد كثير أقام أيامًا، وأثَّر في الغلات أثارًا قبيحة، وكذلك ظهر بالأهواز، وديار الموصل، والجزيرة، والشام، وسائر النواحي، ففعل مثل ما فعله بالعراق “ ([12]).

        ويضيف ابن تغري البردي  رواية في سنة: ( 347هـ/ 958 م )، مفادها تزامن ظاهرتين أفسدتا الزراعة ومحاصيلها: ” فيها عادت الزلازل بحلوان وقم والجبال فأتلفت خلقا عظيما وهدمت حصونا، ثم جاء بعد ذلك جراد طبّق الدنيا، فأتى على جميع الغلات والأشجار” ([13]). الواضح من كل هذا أن الجراد أضراره أكثر من نفعه، وذكر ابن الأثير في سنة ( 348هـ/ 960 م ): ” فلما كان في آذار [ مارس ] ظهر جراد عظيم، فأكل ما كان قد نبت من الخضراوات وغيرها فاشتدّ الأمر على

    الناس” ([14]). وفي هذه الرواية قضية أخرى لابد للباحث من الوقوف عليها وهي فساد الخضروات، والتي تعدّ من أهم التجارات وهي عنصر أساسي في الأسواق العباسية،و في سنة (406هـ/ 1015 م ) ذُكر عن الجراد الذي تسبب في الغلاء: ” وكان بأفريقية، والغرب غلاء بسبب الجراد ” ([15]). ويعني هذا أن الجراد تسبب في إفساد المحاصيل الزراعية والغلات لذا تسبب في الغلاء.

       وأيضًا ذكر ابن تغري البردي في الجراد الذي أفسد أشجارًا في الشام في سنة (619هـ/ 1222م ): ” وفيها ظهر جرادّ بالشام أكل الشجر والزرع والثمر ولم يُرَ مثله ” ([16]). وكذلك ذكر ابن الأثير في الجراد الذي أفسد أشجارًا في العراق في سنة (620هـ/ 1223م): ” في هذه السنة كان جرادّ في أكثر البلاد وأهلك كثيراً من الغلات والخضر بالعراق والجزيرة وديار بكر([17]) من الشام” ([18])،ويُستشفُ من الروايتين السابقتين أن الجراد جاء لعامين متتاليين في الشام والعراق، فأما الشام فقد جاءها وقت الثمار، يعني ذلك أن المصاب مصابان الأول في الشجر، والثاني في الثمر، وأما في السنة الثانية فقد جاء منتشرا  في العراق والجزيرة وديار بكر من الشام؛ لهذا جاء الضرر متوزعاً على تلك المناطق.

    ثانيا: القوارض

         من أهم العوامل التي أتلفت المحاصيل الزراعية في الدولة العباسية أيضًا عامل القوارض، وخاصة إذا ظهرت بكميات كبيرة تقضي على المحاصيل الزراعية قال ابن الجوزي” وظهر في هذه السنة [ 222هـ / 836 م ] من الفأر ما لم يحط به الإحصاء، وأتى على غلاَّت الناس ثم تفانى بوقوع الموت فيه ” ([19]) يعني هذا أنه قضى على المحاصيل الزراعية، والذي بدوره قضى على الطعام ومشتقاته الأساسية المعتمدة على هذه الغلات.

    ثانيًا: المحور الثاني: الظواهر الطبيعية

    أولاً: الفيضانات

          أصيبت الدولة العباسية بأضرار جسيمة من الفيضانات التي أتلفت هذه المحاصيل، فقد ذكر ابن الجوزي  في هذه السنة [ 206هـ / 821 م ]:” المَدُّ الذي غرق منه السواد([20]) وكسكر ([21]) … فذهبت غلات كثيرة، وامتلأت الآبار، وفسد    الزرع” ([22])، ويضيف الحنبلي في السنة ذاتها: ” كان المد الذي غرق منه السواد وذهبت الغلات ” ([23]). فقد اختلف الحنبلي مع ابن الجوزي في المدن التي غرقت منه فقد ذكر السواد فقط.

        وأما عن ظاهرة السيول فقد ذكر ابن الجوزي فساد أشجار النخيل التي جاء جرَّاءها في رجب سنة( 233هـ/ 847 م ) فقال: ” وفقد في بستان أكثر من مائتي نخلة بأصولها فلم يبين لها أثر ” ([24]). ومن المسلم به أن التمور تعدّ من أهم التجارات بها التي اعتمد عليها العرب في العصر العباسي في السلم والحرب.

    وقد ذكر ابن الأثير في سنة:( 291هـ/ 923 م ):”وفيها جاءت أخبار أن حَوى([25]) وما يليها جاءها سيل، فغرق نحو من ثلاثين فرسخاً([26])  وغرق في ذلك خلقٌ كثير، وغرقت المواشي والغلات، وخربت القرى وأخرج من الغرقي ألف ومائتا نفسٍ سوى من لم يلحق منهم ” ([27]). والرواية واضحة ولا تحتاج إلى شرح أو تعليق.

         وفي سنة (614هـ/ 1217 م ) ذكر ابن الأثير أنه: ” وفيها زادت دجلة زيادة عظيمة لم يشاهد في قديم الزمان مثلها، وأشرفت بغداد على الغرق … وغرق مشهد أبي حنيفة وبعض الرصافة ([28])، وجامع المهدي، وقرية الملكية، والكشك، وانقطعت الصلاة بجامع السلطان، وأما الجانب الغربي، فهدم أكثر القرية، ونهر عيسى ([29])،والشطيات ([30])، وخربت البساتين” ([31]). والواضح مما سبق أن هذا الغرق خرّب البساتين، وهو أضَرَّ بالمحاصيل الزراعية من خضروات وفواكه وغيرها من المحاصيل.

    ثانيا: الرياح والزلازل

       وكذلك هناك عامل آخر أدّى إلى إتلاف المحاصيل الزراعية وهو ظواهر طبيعية كالرياح وغيرها كما ذكر الهيتمي أن في زمن المتوكل سنة ( 232هـ/ 846 م ): ”  أن ريحًا فيها السّموم دامت بالعراق خمسون ليلة ووصلت بهمدان ([32]) والموصل([33]) فاحترقت الزروع، والثمار، والمواشي، ومنعت الناس من المعاش، بل من المشي في الطرقات وأهلكت خلقاً كثيراً ” ([34]). والواضح من هذه الريح من الجانب التدميري لها أنها استمرت خمسون يومًا، لذا وصلت إلى عدة مناطق زراعية وتضرر منها ثلاثة عناصر أساسية في عملية الزراعة وهي المزروعات، ونتاجها، وكذلك المواشي، التي يعتمد عليها في الطعام الأساسي للإنسان كاللحوم والألبان ومشتقاته، وبهذا أضرت بالجانب الاقتصادي للدولة العباسية.

     وتعود ظاهرة الريح لتفسد المحاصيل الزراعية كما ذكر ابن الجوزي: “وفيــــــــــــها      [سنة 234هـ / 848 م ] هبت ريح شديدة وسموم لم يعهد بمثلها، فاتصل ذلك نيفا وخمسين يوما، وشمل ذلك البصرة، والكوفة، وبغداد، وواسط([35])، وعبادان([36])، والأهواز([37])، وقتلت المارة والقوافل، ثم مضت إلى همذان، وركدت عليها عشرين يوما، فأحرقت الزرع ” ([38]).وذكر ابن الجوزي ” وهبت ليلة الأربعاء ثالث عشر ربيع الأول”، وكذلك يذكر اليعقوبي في سنة ( 241هـ/ 855 م ): ” نال أهل فارس([39]) في هذا الشهر [ جمادي الآخر ]  شعاع ساطع من ناحية القلروم ([40]) ورهج ([41])أخذ بأكظام الناس، فمات الناس والبهائم ، واحترقت الأشجار ” ([42]). والواضح أّنَّ هذه الظاهرة تعدّ غريبة في تاريخ الدولة العباسية؛ لأنها لا تتكرر دائمًا حسب تتبع الباحث لهذه الظواهر، المهم أنها أفسدت الزرع، وأهلكت الحيوانات، ويعود ابن تغري البردي ويذكر رواية عن الريح الملونة التي أصابت البصرة في ولاية هارون بن خمرويه حيث قال: ” وفيها [ سنة 285هـ / 898 م ] في شهر ربيع الأول…. وقطعت الريح نحو ستمائة نخلة ” ([43])، ويعدّ فقدان ستمائة نخلة إضرار بالزراعة في العصر العباسي، وبالتالي يضر ذلك بصناعة الطعام، وكذلك يذكر الطبري أيضاً في أحداث سنة (285هـ/ 898 م ) أن البرد والريح اللذان أصابا البصرة وهلكت فيها العديد من أشجار النخيل ” وفي هذه السنة ورد الخبر – فيما ذُكر – من البصرة أن ريحاً ارتفعت بها بعد صلاة الجمعة لخمس بقين من شهر ربيع الأول صفراء، ثم استحالت خضراء ثم سوداء، ثم تتابعت الأمطار بما لم يروْا مثلَها، ثم وقع بردٌ كبار كان وزن البَرَدة الواحدة مائة وخمسين درهماً – فيما قيل – وأن الريح أقتلعت من نهر الحسينخمسمائة نخلة وأكثر، ومن نهر معقل([44])، مائة نخلة عددًا ” ([45]).

      ويحدثنا ابن تغري بردي عن سنة 289هـ/ 901 م: “وفيها هبت ريح عظيمة بالبصرة قلعت عامة نخلها ولم يُسمع بمثل ذلك” ([46]). والواضح من ذلك أن هذه الظاهرة الطبيعية كانت قوية حتى اقتلعت النخل، ولكن المؤرخ ترك الباحث في مفترق الطرق ولم يوضح هذه القضية بقليل من التفسير، بل تحدث عنها بصفة عامة، ولكن يفهم منها أنها أضرت بالنخل الذي يعتمد عليه في التمر والبلح ([47]) والدبس وغيرها من منتوجات النخيل. 

         كذلك يذكر مسكويه: ” وفيها : [ 290هـ/ 902 م ] هبت ريح عاصفة بالبصرة، فقلعت كثيراً من نخيلها  ” ([48]). ويضيف الذهبي في الريح نفسها قضية أخرى فيبرزها في قولته: ” وهبت ريح لم يسمع بمثلها، قلعت الأصول العاتية من الزيتون     والنخيل ” ([49])، والواضح أنه أثار قضية لابد من الوقوف عليها وهي قضية اقتلاع أشجار الزيتون، ومن المعروف أن الزيتون عامل أساسي في العديد من الصناعات الغذائية وكذلك الدوائية، وأما العنصر المهم في هذا فهو الزيت، الذي يستعمل في معظم الأطعمة في الدولة العباسية. 

        ويحدد صاحب مرآة الجنان في هذه الحادثة الأضرار التي وقعت من جراء ريح في بغداد سنة(420 هـ / 1029م ): ” وهبت ريح لم يسمع بمثلها قلعت الأصول الغائبة من الزيتون والنخيل” ([50]). ويقول الحنبلي في سنة ( 425 هـ / 1033 م ): ” هبت ريح سوداء بنصيبين، فقلعت من بساتينها كثيراً” ([51]). والواضح أن الرياح تتلف المحاصيل الزراعية والبساتين، ويضيف ابن الأثير في هذه الحادثة تفصيلاً أكثر: ” فيها سقط في البلاد برد عظيم. وكان أكثره بالعراق، وارتفعت بعده ريح شديدة سوداء فقلعت كثيراً من الأشجار بالعراق، فقلعت شجرا كبارا من الزيتون من شرقي النهروان([52])  وألقَتْه على بعدٍ من غربيها، وقلعت نخلة من أصلها، وحملتها إلى دارٍ بينها وبين موضع هذه الشجرة ثلاث دُورٍ “ ([53]).

    وكذلك يذكر ابن تغري البردي في الريح التي أفسدت أشجار النخيل في بغداد  في سنة (441هـ/ 1049 م ): ” وفيها هبت ريح سوداء ببغداد أظلمت الدنيا …، واقتلعت من الشجر والنخل شيئاً كثيراً ” ([54]). يبدو أن هذه الريح كانت قوية حتى أضرت بالشجر والنخيل.

         ويقول ابن الأثير في سنة (531هـ/ 1136 م ) عن السحاب الأسود والريح اللذان ظهرا بالشام: ” وفي هذه السنة رابع وعشرين في أيار [ مايو ] ظهر بالشام سحاب أسود … وهبت ريح عاصفة ألقت كثيراً من الشجر، وكان أشد ذلك بحوران ودمشق، وجاء بعده مطر شديد وبرد كبار ” ([55]). وهذا أحد أسباب تلف الأشجار.

        وفي سنة(613هـ/ 1216م) ذكر ابن الأثير الريح التي أقلعت الشجر: ” وفيها في صفر هبت ريح ببغداد ريح سوداء شديدة كثيرة الغبار ([56])، والقتام ([57])، وألقت رملاً كثيرا، وقلعت كثيرًا من الشجر” ([58]). والرواية لا تحتاج إلى تعليق.

        وأيضاً من أهم تالفات المحاصيل الزراعية: ظاهرة الزلزال والتي منها ما أصاب أنطاكية ([59]) وما نتج عنه من دمار: ” وفقد من بستانٍ أكثر من مائتي نخلة من أصولها فلم يبق لها أثر ” ([60]).

    ثالثاً: الأمطار والبرد والثلوج

        ذكر ابن الأثير قلة المطر التي أفسدت المحاصيل الزراعية في سنة (621هـ/ 1224 م ): ” فيها قلة الأمطار في البلاد. فلم يُجْبَ منها شيء إلى شباط [ فبراير ] ، ثم إنها كانت تجيء في الأوقات المتفرقة مجيئاً قريبًا لا يحصل منه الري للزرع، فجاءت الغلات قليلة، ثم خرج عليها الجراد، ولم يكن في الأرض من النبات ما يشتغل به عنها، فأكلها إلا القليل، وكان كثيرًا خارجًا عن الحدَّ فغلت الأسعار في العراق، والموصل، وسائر ديار الجزيرة، وديار بكر وغيرها، وقلَّت الأقوات، إلا أن أكثر الغلات كان بالموصل وديار الجزيرة ” ([61]).

    وذكر ابن الجوزي: ” وفي هذه السنة [ 515 هـ / 1121 م ] وقعت أمطار عظيمة، ودامت واتصلت بجميع العراق، وأهلكت ما على رؤوس النخل وفي الشجر من الأرطاب والأعناب والفواكه، وما كان في الصحاري من الغلات “ ([62]). والواضح من الرواية أن سبب هلاك ثمار أشجار النخيل وباقي الفواكه هو استمرار الأمطار.

       وذكر الحنبلي قضية أخرى أضرت بالزراعة ومحاصيلها ظاهرة البرد كما حدث في سنة ( 314هـ/ 926 م ) البرد الذي أتلف نخيل بغداد: ” واشتد برد الهواء في كانون الأول، فتلف أكثر نخل بغداد وسوادها “ ([63]). وهدا دليل على قوة فصل الشتاء لهذا العام، ومن الواضح أن أشجار النخيل عادة تكون أشد قوة من بعض الأشجار الأخرى، وليس من السهل إتلافها، ويبدو أن المؤرخ يقصد إتلاف الإنتاج وليس شجر النخل، وهذا في اعتقاد الباحث .

        ويروي لنا ابن الأثير في سنة (417هـ/ 1026 م ) البرد الذي بسببه لم يزرع: ” وفي هذه السنة كان بالعراق بردٌ شديد جمد فيه الماء في دجلة والأنهار الكبيرة، فأما السواقي فإنها جمدت كلها، وتأخر المطر وازدادت دجلة ، فلم يزرع في السواد إلا القليل ” ([64]).

       وفي سنة (557هـ/ 1161م ) ذكر ابن الأثير أن: ” فيها نزل بخراسان([65]) برد كثير عظيم المقدار، أواخر نيسان وكان أكثره بجوين ([66])ونيسابور([67]) وما والاهـــــــــــــــما،

       فأهلك الغلات ” ([68]). وكذلك هناك ظاهرة طبيعية تفسد ثمار الفواكه كما ذكر ابن الأثير في سنة (624هـ/ 1227 م ): ” وفيها عاشر آذار [ مارس ] ، وهو العشرون من ربيع الأول سقط الثلج مرتين، وهذا غريب جدا لم يُسمع بمثله، فأهلك الأزهار التي خرجت، كزهر اللوز، والمشمش، والأجاص، والسفرجل وغيرها، ووصلت الأخبار من العراق جميعه مثل ذلك، فهلكت به أزهار الثمار أيضاً، وهذا أعجب من حال ديار الجزيرة والشام، فإنه أشد حرًا من جميعها ” ([69]). والواضح أن هذه الثلوج جاءت في موسم إزهار الأشجار لهذا أفسدت أزهار ثمار الأشجار، وبهذا أضرت بالفواكه، وبالتالي يضر بأهم أصناف الزراعة في الدولة العباسية.

       وخلاصة القول إن أهم الآفات التي أثرت في الزراعة في العصر العباسي هي الجراد والقوارض، والظواهر الطبيعية، وتلف المحاصيل الزراعية من جراء الريح والأمطار الدائمة والثلوج، والجراد والفئران، وغيرهما من العوامل التي أثرت في الحصول الزراعة ومحاصيلها وغلاتها أضرت بالحياة الاقتصادية في الدولة العباسية، كما أضر بهذا الجانب عوامل من صنع البشر كالحروب وغيرها، وقد خلصت الدراسة إلى عدة نتائج لعل أهمها:

    *- أن ظاهرة الجراد والقوارض أضرت بالشجر و الغلات وأتلفت العديد من أصناف الفاكهة .

    *- وعند كثرة الجراد الذي يزيد عن الحد، يباع كل خمسين رطلا بدرهمواستعان به الفقراء على الغلاء، حيث إن الجراد كما كان له أضرار جسيمة على الزراعة، له فوائد حيث إنه يستعمل للأكل مع قلة الطعام، وخاصة من الطبقة العامة والفقيرة.

    *- تسبب الجراد في إفساد المحاصيل الزراعية و الغلات وهذا الإفساد تسبب في الغلاء والقحط.

    *- أن ظاهرةالأمطار والبرد والثلوج أفسدت كثيراً من الأشجار والمزروعات و الغلات الزراعية سواء أكان بالغرق أم بتجمد المياه، إنه لم يستطيع سقي المزروعات، أو بما تبع الأمطار من ظواهر طبيعية من رياح وغيرها والتي بدورها ساهمت في إتلاف المحاصيل الزراعية.

       وأخيراً فهذا جهد المُقِل أقدمه بين يدي المهتمين بالتاريخ الاقتصادي للدولة العباسية، وإن كان يكتنفه النقص فالكمال لله وحده، ونسأل الله العظيم أن يلهمنا الصواب، كما ندعوه أن يجعل ما بذل من جهدٍ خالصاً لوجهه الكريم.


    ([1])الرِجْلُ: بكسر الراء، الطائفة العظيمة من الجراد. الجريري. أبو الفرج المعافى بن زكريا النهــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــرواني،

    الجليس الصالح الكافي والأنيس الناصح الشافي، تح: محمد مرسي الخولي، عالم الكتب، بيروت، ط 1، 1993م، ج 2، ص 50، هامش ( 1 ).                                          

    ([2])الجراد: بالفتح أي معروف، الواحدة جراد، للذكر والأنثى قال الجوهري: وليس الجراد بذكر للجرادة، وإنما اسم للجنس، كالبقر والبقرة، والتمر والتمرة، والحمام والحمامة، وما أشبه ذلك فحق مُذكَّرِه أن لا يكون مُؤنثة من لفظه، لئلا يلبس الواحد المذكر بالجمع. قال أبو عبيد : قيل هو سِرْوِةّ ثم دَبَى، ثم غَوْغَاءُ ثم خَيفان ثم كُتْفَانُ ثم جَرادٌ، وقيل الجراد الذكر والجرادة الأنثى. ومن كلامهم: رأيت جراداً على جرادةٍ. الزبيد. محمد مرتضى، تاج العروس، ( مادة جرد )، دار الفكر، بيروت، ( د. ت )، ج 4، ص 387؛ ويقول الثعالبي مختصرا كل هذا : الغوغاء صغار الجراد.الثعالبي. أبي منصور عبد الملك بن إسماعيل ، من غاب عنه المطرب، تح: يونس أحمد السامرائي، عالم الكتب،  بيروت، ( د . ط )، ( د . ت )، ص 29؛ ويضيف العمري: هو صنفان، أحدهما يقال له: الفارس، وهو الذي يطير في الهواء عالياً، والصنف الآخر يقال له: الراجل، وهو الذي ينزو، فإذا فرغت أيام الربيع طلبت أرضا طيَّبة رخوة، فتنزل هناك، وتحفر بأذنابها حفرا، وتطرح فيها بيضها وتدفنه وتطير فتفنيها الطيور والحرّ والبرد، فإذا تم الحول وجاءت أيام الربيع تفقّأ ذلك البيض المدفون وظهر مثل الدبيب الصغار على وجه الأرض، قالوا: كلّ جرادة تبيض شيئاً كثيراً فإذ خرج ذلك من البيض أكل ما وجد من الزرع والشجر وغيره حتى يقوي ويقدر على الطيران؛ فينهض ويذهب إلى أرض أخرى فيفعل كذلك أبداً دائما. العمري. بن فضل الله، مسالك الأبصار في ممالك الأمصار، عالم الكتب، بيروت، ط1، 1999م، ج 20 ، ص 102 – 103؛ للمزيد ينظر: سرحان. محمد عنانى سمير، المختار من حياة الحيوان للدميري، الهيئة المصرية للكتاب، القاهرة، ( د . ط )، 1999م، ص 24 وما بعدها.  

    ([3]) الجريري، المصدر السابق، ج 2، ص 50.

    ([4]) ابن الجوزي. أبي الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد، المنتظم في تاريخ الملوك والأمم، تح: محمد      عبد الوهاب عطا. مصطفى عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية، بيروت، ( د.ط )، ( د . ت ) ، ج 11،    ص 209.

    ([5]) ابن الأثير. أبي الحسن علي بن أبي الكرم محمد، الكامل في التاريخ،دار الكتب العلمية ، بيروت، ط3، 1998م، ج 7، ص 16.

    ([6]) أحد الآباء اليسوعيين، مجاني الأدب في حدائق العرب، مطبعة الآباء اليسوعيين، بيروت، 1883م، ج 1، ص 70-71.

    ([7]) الرطل: اسم لمعيار يوزن به، وهو مكيال أيضًا ، وإذا أطلق في الفروع الفقهية، فالمراد به رطل بغدادي أو رطل العراقي. جمعة. علي، المكاييل والموازين الشرعية، القدس للنشر والإعلان، القاهرة، ط 2، 2004م، ص 29 .

    ([8])الدرهم: في اللغة اسم لما ضرب من الفضة على شكل مخصوص وهو وحدة نقدية من مسكوكات الفضة، معلومة الوزن وأصل الدرهم كلمة أعجمية عربت عن اليونانية، وهي كلمة ( دَرَاخْما )، يقبلها ( درهم ) وقد ورد ذكره في القرآن الكريم، فقال تعالى: }  وَشَرَوْهُ بِثَمَنِ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُدَةٍ  { يوسف : 20 .

         مقدار الدرهم. الدرهم عند الحنفية: ( 3.120) جراماً تقريباً، الدرهم عند الجمهور: ( 2.975 ) جراماً تقريباً. جمعة. علي، المكاييل والموازين الشرعية، ص 19.

    ([9])الحنبلي. شهاب الدين أبي الفلاح عبد الحي بن أحمد، شذرات الذهب في أخبار من ذهب، تح: مصطفى عبد القادر عطا، دار القلم، بيروت، (د.ط)، (د.ت)،  ج 3، ص 30.

    ([10])واستمر أهل بعض البلدان العربية بأكله كشيء من الموروث عن الآباء فحسب، وأن هناك بعض البلدان العربية كانوا يأكلونه في سنوات القحط والجوع كمصر وليبيا وبلدان المغرب العربي.

    ([11]) من الملاحظ أن بعض المصادر التي تُؤرخ بالأشهر الهجرية، أيضًا تُؤرخ بالأشهر السريانية المستعملة في بلاد الشام والعراق ربما أن المؤرخ عاش هناك .

    ([12]) ابن الأثير، الكامل في التاريخ ، ج 7، ص 247.

    ([13]) ابن تغري بردي، النجوم الزاهرة، ج 3، ص 363.

    ([14]) ابن الأثير، الكامل في التاريخ، ج 7، ص 264.

    ([15]) ابن الأثير، المصدر نفسه، ج 8، ص 90.

    ([16]) ابن تغري بردي، النجوم الزاهرةفي ملوك مصر والقاهرة، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1992م، ج 5 ، ص 224.

    ([17])ديار بكر: مدينة من مدن شرق تركيا، تقع شمال شرق مدينة الرها الإستراتيجية، وتقع المدينة على نهر دجلة   ( في الشمال ) وكانت تسمى في الماضي أميدا Amida وتقع على بعد حوالي 400 كم تقريبا شمال شرق حلب، وعلى الطريق بين بغداد وأسطنبول، وفيها أسواق عامرة، وهي عاصمة ولاية تركية بنفس الاسم. ودخلت الإسلام على عهد الدولة الأموية وكانت في الأصل من مدن الإمبراطورية البيزنطية، وقد هاجمها البيزنطيون عام 440هـ / 1049 م، وقد حصّن المسلمون أركان المدينة تحصينًا شديدًا لحمايتها من خطر الصليبيين في العصور الوسطى، وشهدت إبان عهد الدولة الأيوبية ازدهارًا واسعًا، وفيها آثار إسلامية عديدة، وبوابات، وقلعة، ومسجد ضخم. العفيفي. عبد الحكيم، موسوعة 1000 مدينة إسلامية، مكتبة الدار العربية للكتاب، القاهرة ، ط 1، 2000م، ص 243 – 244.    

    ([18]) ابن الأثير، المصدر السابق، ج 10، ص 437.

    ([19]) ابن الجوزي، المنتظم في تاريخ الملوك والأمم، ج 11، ص 73.

    ([20])السواد: موضعان أحدهما نواحي قرب البلقان سميت بذلك لسواد حجارتها فيما أحسب والثاني يراد به رستاق العراق وضياعها التي فتحها المسلمون على عهد عمر بن الخطاب، رضي الله عنه سمي بذلك لسواده بالزروع والنخيل والأشجار. الحموي. أبي عبد الله ياقوت، معجم البلدان،دار الكتب العلمية، بيروت، (د.ط)،(د.ت)، ج 3 ، ص 309 .

    ([21]) كسكر: بفتح أوله، وإسكان ثانيه، بعده كاف مفتوحة ، وراء مهملة. وهو بلد بالعراق معروف. قال محمد بن سهل الأحول: معنى كسكر أرض الشعير. قال الجرجاني: إنما هو كشتكر، فعرب ومعناه: عامل الزرع. ومن طساسيجها زندورد، بعث إليها سعد بن أبي وقاص النعمان بن مقرن فصالحهم. البكري. أبي عبيد الله بن عبد العزيز، معجم ما استعجم من أسماء البلاد والمواضع، تح: جمال طلبة، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1 ، 1998م، ج 4، ص 19.

    ([22]) ابن الجوزي، المنتظم في تاريخ الملوك والأمم، ج 10، ص 149.

    ([23]) الحنبلي، شذرات الذهب في أخبار من ذهب، ج 2، ص 90.

    ([24]) ابن الجوزي، المنتظم في تاريخ الملوك والأمم، ج 11، ص 191.

    ([25]) ذكرت في الطبري جُبَّى وهو صواب. الطبري. أبي جعفر محمد بن جرير، تاريخ الأمم والملوك، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 2001م، ج 5، ص 654. وقد جاء في معجم البلدان: جُبَّى: بالضم ثم التشديد، والقصر: بلد أو كورة من عمل خوزستان، ومن الناس من جعل عَبّادان من هذه الكورة، وهي في طرف من البصرة والأهواز، حتى جعل من لا خبرة له جُبَّى من أعمال البصرة، وليس الأمر كذلك ؛ ومن جُبَّى هذه أبو علي محمد بن عبد الوهاب الجُبَّائى … جُبَّى في الأصل أعجمي، وكان القياس أن ينسب إليها  جُبَّوى. الحموي، معجم البلدان، ج 2، ص 113.                                          

    ([26]) الفرسخ: المسافة المعلومة من الأرض، وهو فارسي معرب .علي جمعة، المكاييل والموازين الشرعية،ص 31.                                       

    ([27]) ابن الأثير، الكامل في التاريخ ، ج 6، ص 422.

    ([28]) الرصافة: بالجانب الشرقي، لما بنى المنصور مدينته بالجانب الغربي واستتمّ بناءها أمر ابنه المهدي أن يعسكر في الجانب الشرقي وأن يبني له فيه دورا وجعلها معسكرا له فالتحق بها الناس وعمّروها فصارت مقدار مدينة المنصور. الحموي، المصدر السابق، ج 3، ص 53.

    ([29]) نهر عيسى: ابن علي بن عبد الله بن العباس: وهي كورة وقرى كثيرة وعمل واسع في غربي بغداد يعرف بهذا الاسم ومأخذه من الفرات عند قنطرة دِممّا ثم يمر فيسقي طسوج، فيروز سابور حتى ينتهي إلى المحول ثم تتفرع منه أنهار تتخرق مدينة السلام ثم يمر بالياسرية ثم قنطرة الرومية وقنطرة الزياتين وقنطرة الأشنان وقنطرة   الشوك وقنطرة الرمان وقنطرة المغيض عند الأرحاء ثم قنطرة البستان ثم قنطرة المعبدي ثم قنطرة بني زريق ثم يصب في الدجلة عند قصر عيسى بن علي. الحموي، معجم البلدان، ج 5، ص 371.

    ([30]) لم يجد الباحث أي ترجمة لهذه الكلمة (الشطيات ) في المصادر والمراجع التي اطلع عليها.

    ([31]) ابن الأثير، الكامل في التاريخ، ج 10، ص 381.

    ([32])همذان: بلد واسع جليل القدر، كثير الأقاليم والكور، وافتتح سنة ثلاث وعشرين، وخراجه ستَّة آلاف درهم. وهو الذي يسمَّى مادة البصرة. كان خراجه يحمل في أعطيات أهل البصرة وشرب أهلها من عيون وأودية تجري شتاءً وصيفاً، وبعضها يجري إلى السُّوس من كور الأهواز، ثم يمرّ إلى دُجيل نهر الأهواز إلى مدينة الأهواز. اليعقوبي.أحمد بن يعقوب، كتاب البلدان، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ط1، 1988م، ص 41.

    ([33])الموصل: بفتح أوله ، وإسكان ثانيه، بعده صاد مهملة مكسورة، سُمّيت بذلك لأنها وصلت بين الفرات ودجلة. وكانت الموصل ثماني عشرة كور يُجبى خراجها مع خراج المغرب، فخزل منها المهدي كورة دراباذ وكورة الصامغان، وخَزَل منها المعتصم كورة تكريت، وكورة الطَّبْرَهان، لاتّصالها بسُرَّ من رأى. ومن كُورها: الحديثة، ونينوي والمعلة، والبَرِيَّة، وبَاجَرْمَي، وسَيْحان، والمرج. البكري، معجم ما استعجم، ج 4، ص 129.

    ([34])الهيتمي. أبو العباس شهاب الدين أحمد بن حجر، أَسْنَى المطالب في صلة الأقارب، تح: خلاف محمود    عبد السميع، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 2003، ص 419.

    ([35]) واسط: فأما تسميتها فلأنها متوسطة بين البصرة والكوفة،…شرع الحجاج في عمارة واسط في سنة 84[ هـــ ] وفرغ منها في سنة 86[هـــــ ] فكان عمارتها في عامين. الحموي، معجم البلدان، ج 5، ص 401.400.

    ([36])عبادان: في الأهواز. وهي في الإقليم الرابع، وبُعدها عن خط المغرب، خمس وسبعون درجة، وذلك من الأميال أربعة آلاف وتسعمائة وخمسون ميلاً، وبُعدها عن خط الاستواء، إحدى وثلاثون  درجة، وذلك من الأميال، ألفان ومائتان وستة وثلاثون ميلاً، وهي على ساحل بحر العراق، متصلة بالبحر العظيم الأخضر وهي عامرة بأهله، وبها المرابطون والزهاد، وبها تعمل الحصر العبّادانية، وبقربها يقع الفرات في البحر الأعظم. ابن الحسين، آكام المرجان في ذكر المدائن المشهورة في كل مكان، عالم الكتب، بيروت، ط1، 1998م، ص 43.

    ([37])الأهواز: من بلاد خورستان، ومنها الحسن بن هاني الشهير بأبي نواس وابن السكيت، وأبو العيناء، صاحب النوادر والشعر والأدب المتوفى سنة: ( 273هـ / 886م ). بك .أمين واصف، الفهرست معجم الخريطة التاريخية للممالك الإسلامية، تح: أحمد زكي باشا، مطبعة المعارف، القاهرة، ( د.ط )، 1916م، ص 18.

    ([38]) ابن الجوزي، المنتظم في تاريخ الملوك والأمم، ج 11، ص 209.

    ([39]) فارس: سميت بفارس بن طهمورث وإليه ينسب الفُرس لأنهم من ولده … ، وقديما قبل ا”لإسلام ما بين نهر بلخ إلى منقطع أذربيجان وأرمينية الفارسية إلى الفرات إلى برية العرب إلى عمان ومكران وإلى كابل وطخارستان . الحموي، المصدر السابق، ج 4، ص 267.256.

    ([40])القلروم: ذكر في الحموي القلزم: وهي بلدة على ساحل بحر اليمن قرب أيلة وطور ومدين الحموي، المصدر نفسه، ج 4، ص 439.

    ([41]) رهج: لم يجد الباحث أي ترجمة لها في المصادر التي اطلع عليها.

    ([42]) اليعقوبي ، تاريخ اليعقوبي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1999م، ج 2، ص 345 .

    ([43]) ابن تغري بردي ، النجوم الزاهرة ، ج 3 ، ص 131 .

    ([44])نهر معقل: منسوب إلى معقل بن يسار بن عبد الله بن معبر حراق بن لأي بن كعب بن عبد الله بن ثور بن هذمة بن لاطم… صحب النبي r: وهو نهر معروف بالبصرة فَمُنه عند فم الإجانة المقدم ذكره الواقدي أن عمر أمر أبا موسى الأشعري أن يحفر نهرًا بالبصرة وأن يُجْريه على يد معقل بن يسار المزني فنسب إليه.  الحموي، معجم البلدان، ج 5، ص 373.

    ([45]) الطبري، تاريخ الأمم والملوك، ج 5، ص 627 – 628.

    ([46]) ابن تغري بردي، المصدر السابق، ج 3، ص 141.

    ([47])البلح: خلال حمل النخل ما دام أخضر. دوزي. رينهارت، تكملة المعاجم العربية، نقله إلى العربية وعلق عليه: محمد سليم النعيمي، وزارة الثقافة والفنون، بغداد، ( د.ط)، 1978م، ج 1، ص 418.

    ([48]) مسكويه. أبي علي أحمد بن محمد بن يعقوب، تجارب الأمم وتعاقب الهمم، تح: سيد كسروى حسن، دار الكتب العلمية، بيروت،ط1، 2003م، ج 4، ص 405.

    ([49]) الذهبي. شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان، العبر في خبر من عبر، دار الفكر، بيروت، ط1، 1998م ج 1، ص 433 .

    ([50]) ابن أسعد اليافعي المكي. أبو محمد عبد الله بن علي بن سليمان  ، مرآة الجنان وعبرة اليقضان في معرفة ما يعتبر من حوادث الزمان،دار الكتاب الإسلامي، القاهرة، ط2، 1993م،ج 3، ص 34 .

    ([51]) الحنبلي، شذرات الذهب، ج 3، ص 384.

    ([52])النهروان: بالعراق معلوم ؛ بفتح أوله وإسكان ثانيه، وفتح الراء المهملة وبكسرها أيضا: نهروان، وبضمها أيضا: نهروان … [ قال محمد بن سهل الأحول: هي ثلاثة طساسيج من سواد العراق: النهروان الأعلى والنهروان الأوسط  والنهروان الأسفل ]. البكري، معجم ما استعجم، ج 4، ص 174.

    ([53]) ابن الأثير، الكامل في التاريخ، ج 8، ص 183-184.

    ([54]) ابن تغري بردي، النجوم الزاهرة، ج 5، ص 50.

    ([55]) ابن الأثير، المصدر السابق، ج 9، ص 300.

    ([56])الغبار: قد أعطي الثعالبي للغبار وأوصافه: النّقْعُ والعَكُوبُ: الغُبَار الذي يَثُورُ من حَوَافِرِ الخَيْلِ وأخْفَافِ الإبل. العَجَاجَةُ: الغُبَارُ الذي تُثِيرُهُ الرَّيح. الرَّهَجُ: والقَسْطَلُ غُبَارُ الحَرْبِ. الخَيْضَعَةُ: الغُبَارُ المَعْرَكَةِ. العِثْيَرُ: غبَارُ الأَقْدَامِ. المَنِينُ: ما تَقَطَّعَ مِنْهُ. الثعالبي. أبي منصور عبد الملك بن محمد بن إسماعيل ، كتاب فقه اللغة، مكتبة القرآن، القاهرة، (د.ط)، 1976م،ص 166.

    ([57])القتام: القتم ، القتام: وهما ما يرى يملأ الفضاء عند اشتداد الحر، وفي سني القحط من غبار دقيق رقيق ونحوه، يكسب الجو لونا يميل للحمرة شيئا، ولا يكونان إلا عند سكون الرياح ، وربما أطلقا على ما تثير الخيل عند الجري. جبر. يحيى عبد الرؤوف، معجم ألفاظ الجغرافية الطبيعية، دار عمار.دار الفيحاء، عمان، ط1، 1987م، ص 137. 

    ([58]) ابن الأثير، الكامل في التاريخ ، ج 10 ، ص 370 .

    ([59])أنطاكية: مدينة من الثغور الشامية معروفة قال اللغويون: كل شيء عند العرب من قبل الشام فهو أنطاكي.   البكري، معجم ما استعجم، ج 1، ص 185؛ ويضيف الجواليقي: ” اسم مدينة معروفةٍ مشددة الياء. وهي أعجمية معربة وقد تكلمت به العرب قديمًا. الجواليقي. موهوب بن أحمد بن محمد، المعَرّب من كلام الأعجمي على حروف المعجم، تح: أحمد محمد شاكر، مطبعة دار الكتب المصرية، القاهرة ، 1391ه، ص 25.

    ([60]) الحنبلي، شذرات الذهب، ج 2 ، ص 193.

    ([61]) ابن الأثير، المصدر السابق، ج 10، ص 442.

    ([62]) ابن الجوزي، المنتظم في تاريخ الملوك والأمم، ج 17، ص 196.

    ([63]) الحنبلي، شذرات الذهب، ج 2،  ص 463.

    ([64]) ابن الأثير، الكامل في التاريخ ، ج 8 ، ص 158.

    ([65])خراسان: بلاد واسعة، أول حدودها مما يلي العراق أَزَاذْوار قصبة جوين وبيهق وآخر حدودها مما يلي الهند طخارستان وغزته وسجستان وكرمان، وليس ذلك منها إنما هو أطراف حدودها، وتشمل على أمهات من البلاد منها نيسابور وهراة ومرو، وهي كانت قصبتها ، وبلخ وطالقان ونسا وأبيورد وسرخس وما يتخلل ذلك من المدن التي دون نهر جيحون، ومن الناس من يُدخل أعمال خوارزم فيها ويَعدُّ ما وراء النهر منها وليس الأمر كذلك، وقد فتحت أكثر هذه البلاد عنوة وصلحًا، ونذكر ما يُعرف من ذلك في موضعها، وذلك في سنة 31 في أيام عثمان رصي الله عنه، بإمارة عبد الله بن عامر بن كُرَيز. الحموي ، معجم البلدان، ج 2، ص 401.

    ([66])جوين: اسم كورة جليلة نزهة على طريق القوافل من بسطام إلى نيسابور، تسميها أهل خراسان كويان فعربت فقيل جوين. الحموي، المصدر نفسه، ج 2، ص 223.

    ([67]) نيسابور: بلد واسع كثير الأكوار افتتحها عبد الله بن عامر بن كُريز، في خلافة عثمان بن عفانt في سنة ثلاثين وأهلها أخلاط من العرب والعجم ومشربها من الأودية والعيون، وخراجها خمسة آلاف ألف درهم وهي من أعمال خراسان، وبها تعمل الثياب الرفيعة من الحرير والقطن. ابن الحسين، آكام المرجان في ذكر المدائن المشهورة في كل مكان، ص 72.

    ([68]) ابن الأثير، المصدر السابق، ج 9 ، ص 459.

    ([69]) ابن الأثير، الكامل في التاريخ، ج 10، ص 475.

  • رؤية سعيد يقطين السّرديّة – د. جميلة حسين صالح الموسوي

    مقدّمة:

    تقوم الرّواية على أساس التّناوب بين وقائع الحاضر، وذكريات الماضي، في حركة ذهاب وإياب على محوريّ الزّمان المعروفين.

    فإذا كان زمن الأحداث قابعًا في ماضيه غير قادرٍ على التّواصل مع الحاضر المكتوب من أجله، تحوّلت الرّواية إلى ذكر أخبارٍ من الماضي ولم يعد لها قوّة التّأثير في الحاضر، وانتفت قيمة توظيف التّاريخ، لأنّ ثمّة اختلافًا سيعيشُهُ القارئ، أيًّا كان زمن القراءة يمنعه من التّواصل، والمطلوب من الرّواية بوصفها فعلاً تواصليًّا، تحقيق الإحساس بالإنسجام؛ لأنّ الرّوائيّ يستطيع أن يمنح راويه أو رواته حرّية الحكي، لكنّه لا يمنحهم القدرة على خلق الشّخصيّات، لأنّ عمليّة الخلق هنا ستكون مجزوءة. وتحقيق الإنسجام إنّما يجري عن طريق المشابهة لتؤدّي رسالة إبداعيّة ذات دلالات. ويؤدّي ذلك كلّه إلى خلق بطل أو مجموعة أبطال يستندون في وجودهم النصّيّ الجديد على كونهم صداميّين مُتعارضين متحرِّرين من سلطاتٍ قادرة، وإشكاليّين، لا يكون تعارضهم سطحيًّا، بل هو التّعارض العميق مع العالم([1]).

    وكما يرى الدّكتور محمود ذهني فإنّ الفنّ القصصيّ والرّوائيّ في الأدب العربيّ ليس حديثًا، أو منقولاً عن الأدب الغربيّ نقل ترجمة واحتذاء، إنّما هو فنّ موجود قبل الشّعر، ومرتبط بوجود الشّعب([2]). لأنّ الرّواية هي أكثر الأجناس الأدبيّة قدرة على التّعبير عن هموم الإنسان العربيّ وطموحاته وآماله. وإذا كان موضوع الأدب هو الطّبيعة والإنسان، فإنّ موضوع النّقد الأدبيّ هو الأدب نفسه، يقصد إليه النّقد شارحًا، محلّلاً، حاكماً، مساعدًا القرّاء على الفهم والتّقدير، حيث يرى رولان بارت أنّ عمل النّاقد يتّسم بعدّة خصائص مُعيّنة، أهمّها تعقيل الأثر الأدبيّ، أي النّظر إليه وإلى عناصره على ضوء مجموعة من المبادئ المنطقيّة([3]).

    وكون “سعيد يقطين” من أعلام الرّواية والنّقد الأدبيّ العربيّ ومؤلّفاته النّقديّة الأدبيّة تُعبّر عن سعة معارفه، وعمق ثقافته الأدبيّة ومدى انعكاسها على النّتاج السّرديّ الرّوائيّ، والّذي يُعبّر عن نضج الرّؤية وغنى التّجربة لديه والّتي وسمت شخصيّته شهرةً ذاع صيتها في منطقة المغرب العربيّ وشرقها.

    التّعريف بسعيد يقطين:

    • سعيد يقطين، كاتب روائيّ وناقد عربيّ مغربيّ، من مواليد الدّار البيضاء/المغرب في 8/5/1955م.
    • دكتوراه دولة في الآداب من جامعة محمّد الخامس/ الرّباط/المغرب.
    • أستاذ التّعليم العالي بكلّيّة الآداب والعلوم الإنسانيّة بالرّباط.
    • رئيس قسم اللّغة العربيّة وآدابها بكلّيّة الآداب والعلوم الإنسانيّة بالرّباط (من 1997 إلى 2004).
    • عضو اللّجنة العلميّة (كلّيّة الآداب والعلوم الإنسانيّة بالرّباط).
    • مُنسّق مجموعة البحث في “التّراث السّرديّ الأندلسيّة – المغربيّة – المتوسّطيّة” داخل كلّيّّة الآداب في الرّباط.
    • مُنسّق الدّكتوراه في الأدب “آداب وفنون متوسّطيّة” داخل كلّيّة الآداب في الرّباط.
    • أستاذ زائر في جامعة جان مولان، ليون 3، كلّيّة اللّغات، فرنسا، خلال الموسمين الجامعيّين: 2002/2003 و2003/2004م.
    • أستاذ زائر في كليّة الآداب، جامعة القيروان، مارس 2007م.
    • أستاذ زائر في كلّيّة اللّغة العربيّة، قسم الأدب، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلاميّة، الرّياض – المملكة العربيّة السعوديّة، الفصل الثّاني، 2010-2011-2012م.
    • أستاذ زائر في جامعة السّلطان قابوس، مسقط – عُمان، الفصل الثّاني 2013م.
    • أستاذ زائر في جامعة نواكشوط، موريتانيا، يناير 2004م.

    مهام ثقافيّة:

    • عضو المكتب المركزيّ لاتّحاد كُتّاب المغرب (ثلاث دورات).
    • الكاتب العام لـ”رابطة أدباء المغرب”.
    • الكاتب العام لـ”المركز الجامعيّ للأبحاث السّرديّة”.
    • عضو في الهيئة الاستشاريّة أو العلميّة في مجلاّت بالمغرب والجزائر وتونس والبحرين والكويت والأردن.
    • عضو إتّحاد كُتّاب الإنترنت العرب.

    جوائز:

    • جائزة المغرب الكبرى للكتاب 1987 و1989م.
    • جائزة عبد الحميد شومان للعلماء العرب الشبّان، (الأردن)، عام 1992م.
    • جائزة إتّحاد كتّاب الإنترنت العرب 2008م.
    • تكريم على هامش المؤتمر الدولي “عتبات النّصّ” الّذي أُقيم في القيروان (تونس)، آذار 2007م.
    • تكريم في مهرجان عبد السّلام العجيلي الثّالث للرّواية العربيّة، الرقّة – سوريا، نوفمبر 2007م.
    • تكريم شفشاون، مندوبيّة وزارة الثّقافة المغربيّة، بشفشاون، 2008م، وصدرت أعمال التّكريم مع دراسات أخرى في كتاب: “السّرد والسّرديّات في أعمال سعيد يقطين”، إعداد شرف الدّين ماجدولين، عن دار ضفاف والأمان، بيروت – الرّباط، 2013م.
    • حفل تكريم في إثينيّة عبد المقصود محمد سعيد خوجة، جدّة، المملكة العربيّة السّعوديّة، 2-5-2013م.
    • ندوة تكريميّة تحت عنوان: “سرديّات سعيد يقطين وأسئلة الأدبيّ”، تنظيم فرع اتّحاد المغرب ومديريّة وزارة الثّقافة في القنيطرة.
    • ندوة تكريميّة لسعيد يقطين “حول الهويّة والسّرد”، فرع اتّحاد كتّاب المغرب، تمارة.
    • يوم دراسيّ تكريمًا لسعيد يقطين في موضوع “المشروع النّقدي للدكتور سعيد يقطين” في تاوريرت (جنوب المغرب) في 2/6/2014م.

    مهام علميّة:

    • عضو في لجان تقويم طلبات اعتماد الماستر ووحدات السّلك الثّالث والدكتوراه على الصّعيد الوطني (المغرب).
    • عضو مُحكم في جائزة المغرب للكتاب، (عدّة دورات).
    • عضو مُحكم في عدّة مجلاّت عربيّة محكّمة  ولجان جوائز عربيّة.
    • خبير في تقييم مؤلّفات أو تقارير مقدّمة لهيئات عربيّة.
    • خبير لدى مكتب اليونسكو (المغرب العربي) لإعداد خمس مكتبات عربيّة ومغاربيّة وتربويّة ونسائيّة وصوتيّة رقميّة.
    • مشارك في العديد من المؤتمرات والنّدوات الثّقافيّة على الصعيدين العربيّ والدوليّ.
    • مُشرف على سلسلة “روايات الزّمن” الّتي تصدر “منشورات الزّمن” بالرّباط، وبصدد الإعداد لسلسلة جديدة تحت عنوان “الثّقافة الشّعبيّة المغربيّة” ضمن “منشورات الزّمن” نفسها.
    • مُشرف على سلسلة “السّرد العربيّ” الّتي تصدر عن “دار رؤية للنّشر” بالقاهرة.

    التخصّص العلميّ:

    • السّرديّات والسّيميائيّات – نظريّة الأدب والنّقد الأدبيّ – التّراث السّرديّ العربيّ الإسلاميّ – الثّقافة الشّعبيّة – النصّ المترابط ومستقبل الثّقافة العربيّة.

    من مؤلّفاته:

    1. ذخيرة العجائب العربيّة / بيروت، المركز الثّقافيّالعربيّ، ط(1)/ 1994م.

           2. الكلام والخبر، بيروت، المركز الثّقافيّ العربيّ، ط(1)،1997م.

           3. النّصّ المترابط ومستقبل الثّقافة العربيّة، بيروت،المركز الثقافيّ العربيّ، ط(1)، 2008م.

           4. الأدب والمؤسّسة والسّلطة، بيروت، المركز الثّقافيالعربيّ، ط(1)، 2002م.

           5. السّرديّات والتّحليل السّردي، بيروت، المركز الثقافيالعربيّ، ط(1)، 2012م.

           6. إنفتاح النّصّ الرّوائيّ، بيروت، المركز الثّقافيّالغربيّ، ط(4)، 2008م.

           7. تحليل الخطاب الرّوائيّ، بيروت، المركز الثقافي العربيّ،ط(4)، 2005م.

           8. الرّواية والتّراث السّرديّ، بيروت، المركز الثّقافيّالعربيّ، ط(1)، 1992م، ط(2)، الدار البيضاء.

           9. القراءة والتّجربة: حول التّجريب في الخطاب الرّوائيّالجديد في المغرب، دار الثّقافة، الدار البيضاء، 1985، طبعة جديدة، دار رؤيةللنّشر، القاهرة، 2013م.

          10. قال الرّاوي: البنيات الحكائيّة في السّيرة الشّعبيّة،المركز الثّقافيّ العربيّ، بيروت – الدّار البيضاء، 1997م.

         11. آفاق نقد عربيّ معاصر، بالاشتراك مع فيصل درّاج، دارالفكر، دمشق، 2003م.

          12. من النّصّ إلى النّصّ المترابط: مدخل إلى جماليّاتالإبداع التّفاعليّ، المركز الثّقافيّ العربيّ، بيروت – الدار البيضاء، 2005م.

          13. مُقاربات منهجيّة للنّصّ الرّوائيّ والمسرحيّ: بالإشتراكمع حميد لحمداني ومحمّد الدّاهي، “سلسلة المختار في تحليل المؤلّفات”(الجذع المشترك)، مكتبة المدارس، الدار البيضاء، 2006م.

          14. السّرد العربيّ: مفاهيم وتجلّيات، دار رؤية، القاهرة،2006م.

          15. مُقاربات منهجيّة للنصّ السر ذاتي والنّقديّ: بالاشتراكمع محمّد الداهلي وميلود العثمانيّ، “سلسلة المختار في تحليل المؤلّفات”(السنة الثانية بكالوريا)، مكتبة المدارس، الدّار البيضاء، 2007م.

          16. بديعة وفؤاد، رواية لعفيفة كرم: إعداد وتقديم، بمناسبةمرور قرن على صدورها في نيويورك، منشورات الزّمن، الرّباط، 2007م.

          17. قضايا الرّواية العربيّة الجديدة: الوجود والحدود، داررؤية للنّشر، القاهرة، 2010م.

          18. رهانات الرّواية العربيّة: بين الإبداعيّة والعالميّة،(بالاشتراك مع محمد القاضي)، سلسلة رؤى ثقافيّة، رقم 1، النّادي الأدبيّ بالرّياض،2011م.

          19. المغرب مستقبل بلا سياسة: في الثّقافة والسّياسةوالمجتمع، منشورات الزّمن، لسلسلة شرفات، الرّباط، 2013م.

          20. الفكر الأدبيّ العربيّ، البنيات والأنساق، منشورات ضفاف،بيروت، 2014م.

          21. الديموقراطيّة في قاعة الانتظار: إكراهات التحوّلالاجتماعيّ المغربيّ، منشورات الزّمن، سلسلة شرفات، الرّباط، 2014م.

    الدّراسات المنشورة ضمن كتب:

    • سؤال الأنواع السّرديّة في الرّواية المغربيّة، “الرّواية المغربيّة وقضايا النّوع السّرديّ”، منشورات جامعة ابن طُفيل، كلّيّة الآداب والعلوم الإنسانيّة، القنيطرة، 2009م.
    • البحث الأدبيّ في الجامعة المغربيّة: أيّة آفاق؟، “تحوّلات النّقد الأدبيّ المعاصر بالمغرب: مهداة إلى أحمد اليبوري”، تنسيق سعيد يقطين، منشورات كليّة الآداب والعلوم الإنسانيّة بالرّباط، ووزارة الثّقافة، 2009م، (ص 91-ص 113).
    • مفهوم النّصّ واستراتيجيّة القراءة عند محمد مفتاح، “التّأسيس المنهجيّ والتّأصيل المعرفي”: قراءات في أعمال الباحث والنّاقد محمّد مفتاح، المدارس، الدّار البيضاء، 2009م (ص 17- ص 32).
    • أساليب السّرد الرّوائيّ العربيّ: مقال في التّركيب، “الرّواية العربيّة: ممكنات السّرد”، المجلس الوطنيّ للثّقافة والفنون والآداب، الكويت، 2009م (ص 129- ص 151).
    • المطلع، اللّعب، الدّلالة من خلال عين الفرس والدّراويش يعودون إلى المنفى، الأدب المغربيّ اليوم قراءات مغربيّة، منشورات اتّحاد كتّاب المغرب، الرّباط، 2006 (ص 77-ص92).
    • الكيخوطي والأسطورة الشّخصيّة، دون كيخوطي: قراءات مغربيّة، منشورات كلّيّة الآداب، عين الشقّ، الدّار البيضاء، 2006 (ص 55- ص68).

    الدّراسات المنشورة في مجلاّت:

    • السّرديّات والنّقد والسّرديّ، مجلّة نزوى – مسقط، العدد الثّالث والستّون، يوليو 2010.
    • التّرابط النّصّيّ والخطاب الرّوائيّ العربيّ، مجلّة العلوم الإنسانيّة، جامعة البحرين، العدد 18-19، 2010م، (م 178- ص 205).
    • جماليّة الشّكل الرّوائيّ في الجزيرة العربيّة، مجلّة علامات في النّقد، جدّة، المملكة العربيّة السعوديّة، صفر 1430هـ- فبراير 2009م، المجلّد 17، الجزء 68 (ص 453- ص 500).

    السّرد العربيّ من وجهة نظر سعيد يقطين:

    يعتبر سعيد يقطين السّرد العربيّ واحدًا من القضايا والظّواهر الّتي بدأت تستأثر باهتمام الباحثين والدّارسين العرب مع أنّ بعض المشاكل التي تعترض الدّرس الأدبيّ العربيّ بصفةٍ عامّة، ويُضيف أنّه سيحاول تجسيدها من خلال تناول السّرد العربيّ باعتباره من الموضوعات التي تُملي على الباحث الكثير من العمل والبحث، ذلك لأنّ سعيد يقطين يتصوّر أنّ أيَّ تفكيرٍ في جملة القضايا والمشاكل التي تعترضه إذا لم يطرح إشكالات، ولم يسعَ إلى اقتراح رؤيات وتصوّرات فلا يُمكن أن يكون إلاّ استعراضًا للمعلومات، وعرضًا لأفكار وتصوّرات جاهزة، ولهذا جعل تجسيد هذه القضايا في السّرد العربيّ من خلال طرح تقديم بعض الأسئلة، وطرح بعض الإشكالات. وقد أورد بأنّه سيتناول هذا الموضوع من خلال ثلاث تساؤلات هي:

    1. ما هو السّرد العربيّ؟
    2. لماذا نهتمّ به الآن؟
    3. كيف نتعامل معه؟

    ويرمي إلى الإجابة عن هذه الأسئلة، وما يُمكن أن يتولّد عنها من أسئلة فرعيّة، من خلال طرح ثلاثة إشكالات يراها تتعلّق بالحاضر وبالمستقبل بقضايا ما يُسمّه بالفكر الأدبيّ العربيّ، وما تفرض عليه من أمور لينخرط في التفكير، وفي محاولة الإجابة عن مختلف المسائل والقضايا الّتي تطرح على الدّرس الأدبيّن وعلى كلّ ما يرتبط به من قضايا ومسائل تمتدّ لتلامس الإنسان العربيّ بوجهٍ عام.

    وعندما يطرح السّؤال الأوّل حول السّرد العربيّ، فإنّ أوّل ما سيتبادر إلى الأذهان هو: هل هناك سردٌ عربيّ، وآخر غير عربيّ؟ وقبل ذلك ماذا نقصد بالسّرد حتى نُضيف إليه صفة العربيّ؟ وهل، عندما نقول السّرد العربيّ الآن، يوحي هذا المفهوم بالنّسبة إلينا جميعًا بنفس الأشياء؟ أم أنّ كلّ واحد منّا يمكن أن يتصوّر من خلاله أشياء خاصّة تُخالف ما يتصوّره غيره؟ أسئلة عديدة يُمكن أن تتناسل من السّؤال الأوّل، وعلينا أن نتتبعها، ونعمل على تأطيرها ضمن إشكال مركزيّ بقصد الإجابة عنها.

    إنّ أوّل شيء يمكنني تقديمه، يُضيف يقطين، في هذا النّطاق هو أنّ هذا المفهوم جديد، ومعنى ذلك أنّنا لم نكن نستعمله في كلّ ما كنّا نشتغل به، ونبحث فيه بصور عديدة، وتحت تسميات مُختلفة تتّصل به بوجهٍ أو بآخر. وسأعمل هنا على إدراجها كلّها تحت هذا المفهوم. وأضع المفاهيم كمقابل للتجلّيات. وأرى أنّ المفاهيم وليدة الوعي بالظّاهرة، وامتلاك القدرة على فهمها وتفسيرها([4])، وهذه المفاهيم، للتوضيح تتّصل بتسمية الأشياء، ووضعها في نسق يُنظّم علاقاتها بغيرها، ويُحدّد موقعها منها. أمّا التجلّيات فهي الصّور الأوليّة الّتي تتحقّق بها الأشياء، وتتحوّل إلى ظواهر قارّة وثابتة، ولها وجودها الخاصّ واستقلالها، أو شبهه عن غيرها([5]).

    وهنا يقول: إنّني أضرب مثالاً لتقريب هذه المقابلة بين المفهوم والتجلّي، ممّا هو معروف ومُتداول بيننا، إنّ التّناصّ مفهوم جديد في الدّراسة الأدبيّة الحديثة، وهو نتاج التطوّر الحاصل في اللّسانيّات وفي العلوم الأدبيّة الجديدة. وقد جاء هذا المفهوم ليُحدِّد ظاهرة نصّيّة ويبرِّرها في الوعي النّقديّ. لكن ممارسة التّناصّ أو التجلّي التّناصيّ سنجده قديمًا قدم النّصّ كيفما كان جنسه أو صورة إبداعه.

    وأقول الشيء نفسه عن السّرد العربيّ، فهو قديم قدم الإنسان العربيّ. وأولى النّصوص الّتي وصلتنا عن العرب دالّة على ذلك. فقد مارس العربيّ السّرد والحكي، شأنه في ذلك شأن أيّ إنسان في أيّ مكان بأشكال وصور مُتعدّدة، وانتهى إلينا ممّا خلّفه العرب تراث مهم. لكنّ السّرد العربيّ كمفهوم جديد لم يتبلور بعد بالشّكل الملائم، ولم يتمّ الشّروع في استعماله إلاّ مؤخّرًا وبصور شتّى([6]).

    ويرى يقطين أنّ المفهوم الجديد يتولّد، كيفما كان نوعه بناءً على:

    • مُقتضيات واستجابات لدوافع جديدة تستدعيه وتتطلّبه.
    • أنّه يأتي ليعوّض، أو ليتجاوز، أو يُجسّد، أو ليحلّ محلّ مفاهيم قديمة، أو استعمالات متنوّعة.
    • أنّ المفهوم الجديد وهو يأتي ليحلّ محلّ استعمالات مُتعدّدة، يتّخذ بعد المفهوم الجامع الّذي يستوعب غيره من المفاهيم، ويُكسبها دلالات جديدة، تتهيّأ لها في ضوء السّياق الّذي تولّد فيه المفهوم الجديد إذا رجعنا إلى مثال التّناصّ.       

    نُعاين أنّ المفاهيم البلاغيّة العديدة الّتي وظّفها العرب مثل السّرقات، والأخذ، والاقتباس… يمكن أن يتضمّنها هذا المفهوم جميعها، ويُعطيها أبعادًا جديدة تبعًا للسّياق الّذي تشكّل في نطاقه.

    وينطبق الشّيء نفسُه على مفهوم السّرد العربيّ كما أتصوّر. ذلك لأنّنا سنجد أنفسنا أمام استعمالات عديدة، قديمة وحديثة، لا رابط بينها ولا ناظم، ونجد من بين هذه الاستعمالات: الأدب القصصيّ، أدب القصّة، النّثر الفنّيّ، القصّة عند العرب، الحكايات العربيّة… وما شاكل هذا من المفاهيم. ومعنى ذلك أنّنا عندما نقول مفهومًا جديدًا، فإنّ هذا المفهوم الجديد نوظّفه ليكون مفهومًا جامعًا من جهة، وليكون دقيقًا وشاملاً من جهة أخرى (ثانية).

    إنّ المفهوم الجامع يستوعب أشكالاً مُتعدّدة من الممارسات والتجلّيات النّصّيّة، ويُغطّي تسميات عديدة ألحقت بتلك الأشكال وفي مختلف الحقب، وذلك على اعتبار أنّ التسميات السّابقة كانت محدودة وضيّقة عن الشّمول، أو كانت تحكمها رؤيات خاصّة، وهذا ما جعلها غير دقيقة عكس المفهوم الجامع. إنّه يرصد الظّاهرة في كلّيتها، ويسعى إلى الإحاطة بمختلف حيثيّاتها وُملابساتها، ويغدو تبعًا لذلك قادرًا على جعلنا، في إطار توظيفه التوظيف المناسب، نفهم الظاهرة بصورة أحسن وأوضح([7]).

    أمّا المفاهيم القديمة فإنّها بسبب طبيعة تشكّلها وطريقة توظيفها، تُصبح مفهومة فهمًا خاصًّا وضيّقًا، كما أنّ دلالاتها تغدو محدودة ومكرورة، بحيث لا تُسهم في إضاءة الظّاهرة، ولا تعميق النّظر إليها. وهذا حال العديد من الاستعمالات الّتي يُمكن أن نمثل لها في حينها.

    وإنّنا، وإلى وقتٍ قريب جدًّا – ولِمَ لا نقول إلى الآن؟ – نتحدّث عن الرّواية، والقصّة، والمسرحيّة، ونتحدّث عنها جميعًا باعتبارها أنواعًا أدبيّة، شأنها في ذلك شأن الشّعر. ويبرز لنا ذلك بجلاء من خلال مقرّراتنا في المناهج المدرسيّة. كما أنّ أنواع المجالات التي تُحدّد الجوائز العربيّة ما تزال تعتمد التقسيم نفسَه. فهناك الشّعر من جهة، والقصّة والرّواية والمسرحيّة من جهةٍ أخرى.

    إنّ هذه الأنواع، وهناك يُستعمل بصددها مفهوم الأجناس أيضًا، يتمّ التّعامل معها باعتبارها تندرج مجتمعة ضمن مفهوم واحد جامع هو الأدب. ولقد انتبه العرب المحدّثون إلى أنّ الأدب العربيّ مُتعدّد الأنواع والفنون، وظهرت دراسات وأبحاث تتناول بعض هذه الأنواع مُنفصلة أو مُتّصلة. وإنّ أغلب هذه الدّراسات تتّفق مجتمعةً على أنّ القصص أو الموروث الحكائيّ العربيّ غنيّ ومهمّ ويستدعي البحث والدّراسة. وفعلاً عندما نعود الآن إلى ما تركه العرب في هذا المضمار سنجد أنفسنا أمام تراث مهمّ. هذا التّراث أثار الانتباه إليه منذ عصر النّهضة، لكنّ ذلك لا يتناسب وما عرفه هذا اكتراث من إنتاج ضخم. لذلك لا يُمكننا إلاّ أن نقول إنّ دراسة هذا التّراث ما تزال قليلة ومحدودة. ومعنى ذلك أنّ بعض ذيول التصوّرات القديمة حول ما نُسمّيه بالسّرد العربيّ ما تزال تفرض نفسها بإلحاح. ومجمل هذا التصوّر أنّ هناك ديوانًا وحيدًا تركه العرب هو الشّعر، وما عداه من الأنواع والفنون فلا يرقى إلى الشّعر وأنّ هناك فرقًا شاسعًا ما بين التصوّر والواقع([8]).

    – في التصوّر: إنّ بعض الأقوال المأثورة يكون لها تأثير سحريّ في تاريخ الأمم والشّعوب، فتحدّد صيرورة الأمّة بكاملها وتوجّه مسارها إلى وجهةٍ خاصّة، أحقابًا وأجيالاً. ومن بين الأقوال الّتي كان لها دور خاصّ في الثّقافة العربيّة نجد تلك الّتي تُقرّر أنّ الشّعر ديوان العرب. لقد فهمت هذه المقولة فهمًا حرفيًّا خاصًّا، وصارت منذ أن أطلقت في صدر الإسلام تُمارس ذلك التّأثير السّحريّ الّذي وسم الثّقافة والأدب العربيّين بسمةٍ خاصّة ظلّت تُلازمه أمدًا طويلاً من الزّمان. وبمقتضى ذلك انصبّت الأنظار على الشّعر، وانصرفت أو كادت تنصرف عمّا عداه من الخطابات الّتي أنتجها العربيّ في تاريخه الطّويل.

    إنّ السّرد واحدٌ من تلك الخطابات الّتي تأثّرت سلبًا بآثار تلك المقولة، ونفوذها السّحريّ، فغدت بمنأى عن الاهتمام النّقديّ والتنظيريّ في المجهودات الّتي ترك لنا العرب من خلالها تُراثًا مهمًّا وهائلاً. وبالمقابل، وهُنا يمكن المفارقة، فقد ظلّ العرب ينتجون السّرد ويتداولون كلّ ما يتّصل به، ويندرج في إطاره من أخبار وحكايات وقصص وسِيَر([9]).   

    لقد انصبّ الاهتمام على الشّعر باعتباره ديوان العرب، لكنّ ديوانًا آخر ظلّ يُزاحمه المكانة نفسَها على الصّعيد الواقعيّ، بل إنّنا نجده في أحيانٍ عديدة تبوّأ مكانةً أسمى، سواء من حيث الإنتاج أو التلقّي. نُشير هنا باقتضاب إلى المساجلات الّتي تمّت بصدد الشّعر والنّثر، والمفاضلات الّتي أُثيرت بينهما منذ القرن الثّالث الهجريّ. لكنّ المعرفة الأدبيّة القائمة على التّقليد الثّقافيّ السّائد لم توله ما يستحقّ من العناية والاهتمام. فظلّ أبدًا مجالاً مشرّعًا للإبداع وإن بقي يُقابل بالإهمال، وأحيانًا بالازدراء. وهناك أدبيّات كثيرة ومصادرات عديدة ونوادر تُحكى حول القاصّ في مُختلف المصنّفات العربيّة القديمة.

    – في الواقع: رغم كلّ هذه المصادرات والنّوادر ظلّ ذلك الدّيوان (أقصد السّرد) فارضًا نفسَه، ومضمارًا أصيلاً أبدع فيه العربيّ، وعلى مدى عصورٍ طويلة، نصوصًا في مُنتهى البراعة والحسّ والجمال، ولقد وصل العديد منها إلى مستوى العالميّة، وصار إنتاجًا إنسانيّ البُعد والنّزعة، وعلى درجةٍ سامية من الإبداع الإنسانيّ الرّفيع، ونذكر هنا على سبيل المثال فقط “ألف ليلة وليلة”، أو اللّيالي العربيّة كما تُعرف بذلك في الغرب.

    مفهوم السّرد عند سعيد يقطين:

    ويعتبر الباحث سعيد يقطين السّرد واحدًا من القضايا والظّواهر الّتي بدأت تستأثر باهتمام الباحثين والدّارسين العرب، ويرى أنّ العرب مارسوا السّرد والحكي، شأنهم في ذلك شأن الأمم الأخرى في أيّ مكان، بأشكالٍ وصور مُتعدّدة([10])، لكنّ السّرد كمفهوم جديد، لم يتبلور بعد بالشّكل الملائم، ولم يتمّ الشّروع في استعماله إلاّ مؤخّرًا كظاهرة نقديّة، بـ”التّناصّ” كمفهوم جديد في الدّراسة الأدبيّة الحديثة، وهو نتاج – ويُقارن ظاهرة الوعي بالسّرد والتطوّر الحاصل في اللّسانيّات، وفي العلوم الأدبيّة الحديثة، جاء هذا المفهوم ليُحدّد ظاهرة نصيّة ويُبرّرها في الوعي النّقديّ([11]). لكنّ ممارسة التّناصّ، قديمة قدم النّصّ، كيفما كان جنسه أو صورة إبداعه وغير بعيد عن التصوّر الّذي عرضه بارت للسّرد، ويستعير يقطين مفهومًا للسّرد يستخلصه من مجموع القراءات في الدّراسات الغربيّة فيراه نقلاً للفعل القابل للحكي، من الغياب إلى الحضور، وجعله قابلاً للتداول، سواء أكان هذا الفعل واقعيًا أم تخييليًّا، وسواء تمّ التداول شفاهًا أو كتابة([12]). ويعتبر السّرديّات فرعًا من علم “البيوطيقا”، لكنّ خصوصيّتها جعلتها تطمح إلى السّعي لأن تكون علمًا كلّيًّا لأنّ ذلك يُمكّنها من التفتّح على السّرد عامّة، ويتّسع مجالها ليشمل الاختصاصات التّي اهتمّت بالمادّة الحكائيّة، حتّى تتجاوز الاهتمام بالخطاب، لتدرس النّصّ من حيث أنماطه المختلفة، وتفاعلاتها النّصّيّة المتعدّدة([13]). وقد يؤولُ بها ذلك إلى الانفتاح على مُختلف المناهج العلميّة، وبناءً على ما سبق يحصر سعيد يقطين تجلّياتها في:

    1. سرديّات القصّة: تهتمّ بالبنية الحكائيّة من زاوية تركيزها على ما يُحدّد حكائيّتها، ويُميّزها من الأعمال الحكائيّة الأخرى المختلفة والّتي تنضوي جميعها ضمن جنس السّرد، ولا يتجسّد أيّ عمل حكائيّ إلاّ إذا توفّرت فيه المقولات الآتية:
      1. الأفعال.
      1. الفواعل.
      1. الزّمان والمكان.

    فالأفعال يقوم بها فواعل (شخصيّات) في زمان ومكان مُعيّنين.

    2- سرديّات الخطاب: إذا كان الاهتمام في سرديّات القصّة مُنصّبًا على المادّة الحكائيّة، فإنّ سرديّات الخطاب تركّز على ما يُميّز بُنية حكائيّة عن أخرى من حيث الطّريقة الّتي تُقدّم بها كلّ مادّة حكائيّة، فقد تتشابه المواد الحكائيّة، لكن شكل تقديمها يختلف باختلاف الحكايات وأنواعها([14]).

    ويتجلّى الفرق بين سرديّات القصّة، وسرديّات الخطاب في ما يأتي: الشّكل – المقولات – القصّة – الخطاب – الفعل – الحدث – السّرد – الفاعل – الشّخصيّة – الرّاوي.

    وإنّ فعل الشّخصيّة (الحدث) في القصّة يقدّم في الخطاب من خلال فعل آخر (السّرد) الّذي يضطلع به فاعل آخر هو الرّاوي([15]). وباختلاف الفعلين وفاعليهما يختلف زمان القصّة وفضاؤهما عن زمان الخطاب وفضائه. وتمكّننا قراءة العلاقة بين القصّة والخطاب من تحليل المقولات الآتية:

    أ- الزّمان: وفيه يتمّ التّمييز بين زمن القصّة وزمن الخطاب.

    ب- الصّيغة: وتتّصل بالأفعال الكلاميّة الّتي تضطلع بها الشخصّيات والرّاوي؛ ذلك أنّ الشّخصيّات تقوم بالحدث، وتتبنّى ما يصدر عنها من “كلام”، شأنها في ذلك شأن الرّاوي. وإذا كان الاهتمام بالشّخصيّة في القصّة مركّزًا عليها وهي تفعل، فإنّ العناية في الخطاب توجّه إلى ما يصدر منها من كلام، بحيث يوضع كلامها إزاء فعل الرّاوي (السّرد). وهكذا تبرز لنا العلاقة بين القصّة والخطاب صيغتين أساسيّتين هما: العرض الّذي يتمّ من خلال أقوال الشّخصيّات، والسّرد الّذي يتولاّه الرّاوي([16])، وقد تضطلع به بعض الشّخصيّات وهو الموقع الّذي يحتلّه السّارد في علاقاته بالشّخصيّات، وبعالم القصّة بوجه عام، ويُعتبر vision – الرّؤية المفهوم الّذي عوّض وجهة النّظر أو المنظور في الدّراسات التي سبقت السّرديّات.

    ج- السّرديّات النّصّيّة: تهتمّ بالنّصّ السّردي باعتباره بنية مجرّدة أو مُتحقّقًا من خلال جنس أو نوع سرديّ مُحدّد، وهي تُعنى به من جهة “نصيّته” بحيث يسمح لها ذلك بوضعه في نطاق البنية النّصّيّة الكبرى للنّصوص، كما أنّها تُعاين الفعل النّصّيّ من خلال الإنتاج والتلقّي، وتربط كلاًّ منهما بفاعل (الكاتب – المؤلّف) و(القارئ – السّامع) وتضعهما في زمان وفضاء معيّنين([17]).

    لذا تسمح النّصوص السّرديّة الّتي تُشكّل مادّة النّقد في مشروع النّاقد سعيد يقطين بملاحظة عنايته بنصوص كانت خارج مدار الاهتمام، كما هو الحال مثلاً مع “سيرة” “سيف بن ذي يزن” أو الحكاية العجيبة، وباقي النّصوص التّراثيّة المعروفة. وقد كشف هذا المسار عن نفسه من خلال مجموعة من دراساته المبكرة ككتابه “الرّواية والتّراث السّردي: من أجل وعي جديد بالتّراث” (1992)، وبعدها “ذخيرة العجائب العربيّة: سيف بن ذي يزن” (1994) و”الكلام والخبر: مقدّمة للسّرد العربيّ” (1997) وغيرها. عن انصرافه إلى النّصّ السّرديّ القديم، وقد بيّن يقطين أنّ السّرد العربيّ غنيّ ومتنوّع، لكنّ الدّرس الأدبيّ ظلّ مشدودًا إلى الشّعر، وحتّى عندما يتمّ تناول بعض النّصوص القصصيّة كان يُنظر إليها في نطاق النّثر العربيّ، لذلك ومن خلال البحث في الرّواية، يظهر لنا أنّ تخصيص مفهوم جامع لمختلف التجلّيات القصصيّة والحكائيّة العربيّة تحت اسم “السّرد يُمكن أن يُعطي رؤية جديدة لجنس عربيّ أصيل، ساهم فيه العرب بقسط وافر. ويكفي ذكر اللّيالي العربيّة للدّلالة على ذلك.

    مكانة السّرد العربيّ:    

    وقد حقّق انصراف سعيد يقطين إلى السّيرة الشّعبيّة غايتين وهما: – لفت الانتباه إلى المهمل من النّصوص ومحاولة كشف سحرها، إضافةً إلى إعادة النّظر في الأجناس الأدبيّة الّتي ظلّت عندنا مُختزلة في التصوّر الأرسطيّ. وفي إطار ذلك تبيَّن أنّ السّرد العربيّ (الخبر) يحتلّ موقعًا مهمًّا في “الكلام” العربيّ، بل أعادت النّظر في الأجناس الغربيّة بالذّهاب إلى أنّ السّرد يحتلّ مكانة هامّة في الشّعر الّذي ظلّ يُنظر إليه على أنّه “غنائيّ”، وقد نجم عن ذلك إبراز الرّاوي كصوت ثقافيّ آخر كان يُزاحم الشّاعر([18]). ومن دون هذين الصّوتين في ترابطهما لا يُمكننا الحديث عن الأدب العربيّ، لذلك اعتبر “السّرد” ديوانًا آخر مارسه العرب، وهو لا يقلّ أهمّيّة عن الشّعر الّذي ظلّ يُعتبر الدّيوان الوحيد المعترف به لعدّة قرون. ولم يكن النّصّ السّرديّ القديم، هو الوجهة الوحيدة لدى يقطين، لأنّ الرّواية، أيضًا، كانت حاضرة من خلال أولى أبحاثه المنشورة الّتي سبقت اهتمامه بالتّراث: “القراءة والتّجربة… حول التّجريب في الخطاب الرّوائيّ الجديد في المغرب” (1985م)، ثمّ “انفتاح النّصّ الرّوائيّ… النّصّ والسّياق” (1989)، وغيرهما من الأبحاث والدّراسات والمقالات([19]).

    وعن ذلك يقول يقطين: إنّ الرّواية العربيّة حديثة بالقياس إلى أنواعٍ أخرى سرديّة مارسها العرب منذ القدم، ولم تبدأ في فرض نفسِها لتصبح ديوان العرب الجديد إلاّ بعد أن انفتحت على السّرد العربيّ القديم، فاستفادت منه على مستوى الموضوعات والتقنيّات، وكلّما تطوّرت الدّراسات السّرديّة العربيّة بالاشتغال على النّصوص غير المتناولة، واستفاد الرّوائيّ العربيّ من المتن السّرديّ العربيّ في غناه وتنوّعه للإجادة في الرّواية وفي تميّزها.

    ويرى سعيد يقطين أنّ الرّواية العربيّة الآن تشهد اهتمامًا متزايدًا من الكتّاب والنّاشرين، ويُمكن أن يُشكّل هذا الاهتمام عاملاً مطمئنًا على مُستقبلها([20]). ويُضيف أنّه من دون عمل الرّوائيّين على تطوير تجاربهم بالاستفادة من التّجارب السّرديّة العربيّة القديمة، والانفتاح على النّصوص الرّوائيّة العالميّة، وتطوّر الدّرس السّرديّ العربيّ، والتّعامل مع الواقع العربيّ بطريقةٍ ديناميّة، لا يُمكننا سوى الحديث عن تراكم كمّيّ، وإنّ التّراكم الكمّيّ الّذي تعرفه الرّواية في العديد من الأقطار العربيّة غير قادر على التحوّل إلى كيف يضع الرّواية في المقام الّذي ينبغي أن تحتلّه على المستوى العالمي. ويعزو ذلك إلى تعقّد الأوضاع والقضايا الّتي تشغل الإنسان العربيّ، “فما زال الرّوائيّ العربي غير قادرٍ على تجديد رؤيته إلى هذا الواقع وتقديمه بكيفيّة متطوّرة”، والرّواية من أقدر الأنواع السّرديّة على تطوير الوعي بالواقع العربيّ، وتمثيله بكيفيّة تستدعي التّجديد والبحث وإعادة النّظر.

    علاقة النّصّ الأدبيّ بالتكنولوجيا:

    وما يُلفت الانتباه في مشروع سعيد يقطين هو الانتقال في السّنوات الأخيرة إلى دراسة النّصّ الأدبيّ وعلاقته بوسائط جديدة كالحاسوب والإمكانات الّتي تقدّمها التكنولوجيا من خلال كتابيه “من النّصّ إلى النّصّ المترابط”، و”النّصّ المترابط ومستقبل الثّقافة العربيّة”.

    هذا التحوّل يؤكّد أنّ السّرد موجودٌ أبدًا، وهو متعالٍ على الزّمان والمكان. لذلك بدأ بالاهتمام بالرّواية المعاصرة ومن ثمّ انتقل إلى السّرد العربيّ القديم، وظهر له ضرورة الانفتاح على سرد المستقبل الّذي يتحقّق باستخدام الوسائط المتفاعلة. وهذه المراوحة في الزّمان والوسائط تكشف لنا بجلاء أنّ الوعي بالأشكال والتقنيّات على المستوى التحليليّ مهمّ لتطوير النظريّة السّرديّة العربيّة ومن دون ذلك لا يُمكننا تطوير ممارستنا السّرديّة العربيّة يجعلها مفتوحة على التّاريخ والواقع والمستقبل عبر استثمار مُختلف الوسائط.

    نشأة الرّواية:

    ويلفت سعيد يقطين إلى أنّ الرّواية سليلة السّرد الشفاهيّ، ومن خلال استفادتها منه، تستثمر التّجربة السّرديّة في عمقها التّاريخيّ، كما أنّها في الوقت نفسه وفي انفتاحها على المستقبل من خلال التّعامل مع الوسائط الجديدة تطوّر إمكاناتها لتصل الماضي بالمستقبل “ألا ترى الآن العديد من التجارب السّرديّة المعاصرة تنقل عوالم الأساطير القديمة لتضعها في نطاق عوالم مستقبليّة تتّصل بغزو الفضاء، وتوظيف تكنولوجيا جديدة بدل الكائنات “الخرافيّة” العتيقة. ونحن ما نزال في روايتنا عاجزين عن تطوير عوالمنا السّرديّة الّتي تزخر بها اللّيالي والسّير الشّعبيّة وحكايات الأولياء والصّالحين، لتُصبح مجالات للاشتغال في رواية المستقبل”([21]).

    تطوّر النّقد الأدبيّ:

    من هُنا، لا بُدّ للدّراسات السّرديّة أن تنفتح على علامات مُتعدّدة يشتغل بها السّرد، مثل الصّورة والحركة، و”أن تكون قادرة على تحليل السّرد حيثما وجد، بغضّ النّظر عن علامات تحقّقه. ولعلّ هذا يُسهم في جعل الدراسات السّرديّة ترتبط بمختلف الإنتاجات الّتي تتضمّن السّرد مثل السّينما والمسرح وكلّ الإنتاجات التي تستعمل اللّغة إمّا من خلال الكتاب أو الحاسوب أو في الفضاء الشّبكيّ أو عبر وسائل الاتّصال الجماهيري. ومع تطوّر الوسائط تغيّر مفهوم “الأديب” والكاتب كما تغيّر مفهوم “الأدب”. ولعلّ هذا من الأسباب الّتي جعلت الدّراسات السّرديّة تتطوّر بالمقارنة مع غيرها من الدّراسات الأدبيّة. لذلك لا بدّ للنّقد أن يتطوّر بدوره ليلامس مُختلف هذه الإتّجاهات أيًّا كانت علاماتها ووسائطها، لينفتح على ما هو لغويّ وصوريّ، وأدبيّ وغير أدبيّ، وبذلك تُصبح له وظيفة جديدة تتلاءم مع تطوّر النّصوص، ومع تبدّل أشكال الإنتاج وصوره. وبذلك يُمكنه أن يلعب دورًا جديدًا في الحياة.

    إلاّ أنّ بلوغ هذه الغاية في التّحديد المنهجيّ والغائيّ، يتطلّب إضاءة على مفهوم النّصّ كما يتصوّره لا كما هو سائد في التصوّرين القديم والحديث، حيث التّركيز على أنواعٍ معيّنة، وإقصاء أخرى بدعوى أنّها لا تُشكّل (نصًّا) نموذجيًّا يستجيب لمعايير نقديّة وبلاغيّة معياريّة، محدّدة سلفًا، وبالتالي يُصنّف ضمن (اللاّنصّ) وتأكيدًا لهذا المنحى وسيرًا على منهجيّة علميّة، ويقدّم يقطين دلائل على هذا التصوّر ممثّلة قديمًا بـ”البُرهان” لابن وهب، وكتاب “القصاصين والمذكرين” لإبن الجوزي، وحديثًا بـ”كتاب المغازي وأحاديث القصّاصين” لمحمّد عبده، و”الإيديولوجيّة العربيّة المعاصرة” لعبدالله العرويّ، و”تكوين العقل العربي” و”التراث والحداثة” لمحمد عابد الجابري([22]).

    وكلّ التصوّرات سارت في اتّجاه إقصاء السّير الشّعبيّة واعتبارها (لا نصّاً) مستندة في ذلك إلى مبدأين مركزيّين: – الأوّل يكمن في الملائمة النّصّيّة المنطلقة من النّصّ الدّيني الّذي تُقاس عليه مشروعيّة النّصّيّة أو اللاّنصّيّة، والثّاني: يتجلّى في المنهجيّة المنطلقة من الفصل بين ما يُسمّى ثقافة عالميّة وثقافة شعبيّة حيث يتمّ استبعاد السّيرة الشّعبيّة من دائرة (النّصّ) لأنّها تقوم حسب تصوّرهم على الكذب واللاّعقل والحكي والقصّة والخرافة، ممّا يتنافى والخلفيّات التي يستندون إليها في عمليّة التّقييم للنّتاج السّرديّ المسمّى سيرة شعبيّة، والّتي لا يراها هؤلاء سوى في نتاجات مُجتزئة ونصوص مقتطعة عن سياقاتها وتقاطعاتها مع نصوص سرديّة أكبر وأشمل، شكّلت مواضيع هامّة في دراسات العرب في أواخر القرن السّابع عشر مثل: سيرة عنترة – سيف بن ذي يزن – الظّاهر بيبرس – وسيرة التّيجاني وغيرها([23]).

    ويُضيف سعيد يقطين قائلاً: إنّه وإذا كانت السّيرة الشّعبيّة ونظيراتها من النّصوص العربيّة السّرديّة ظلّت مُهملة ومُلغاة من دائرة التّقليد الأدبيّ العربيّ الكلاسيكيّ، إلى بدايات القرن العشرين (محمّد عبده) وإلى عصرنا الرّاهن (الجابري – العروي…) فإنّ الغرب على النّقيض انتبه إلى قيمة هذا “اللاّنصّ”، واعتبرها “نصًّا” قيِّمًا ثمينًا يستحقّ أن تتحمّل المشاق من أجل العثور عليه. وقد أقدم البحّاثة الفرنسيّ “كالان” على إنجاز التّرجمة الكاملة للّيالي (1704-؟؟؟)([24]). وقد حظيت “سيرة عنترة” أيضًا بمكانة خاصّة في الغرب، واعتبرت مُنافسًا حقيقيًّا لليالي من حيث غِنى مضمونها وبراعة تأليفها([25]).

    إلى ذلك، لم تقلّ مكانة “سيرة سيف بن ذي يزن” عن مكانة “سيرة عنترة” سواء من حيث التّرجمة أو الدّراسة، وقد سبقوا العرب إلى ذلك، وقد ظهر ذلك من خلال كون نصوص السّيرة الشّعبيّة شبه منعدمة في المكتبات العربيّة العامّة والخاصّة، وما نزال نعتبرها “لا نصًّا” برغم الدّراسات الموجودة، وأنّ أيّ باحثٍ عربيّ في السّيرة الشّعبيّة ستعترضه صعوبات جمّة، ولا سيّما إذا كان عنده همّ الإطّلاع أو البحث في أكبر عدد ممكن فيها.

    من هنا فإنّ “سيرة الظّاهر بيبرس” بأجزائها الخمسين، ومجلّداتها الخمسة غير موجودة. وما هو متوفّر هو فقط مُلخّص السّيرة في مجلّد واحد، غير أنّ هذه السّيرة مترجمة إلى اللّغة الفرنسيّة بالشّكل الكامل([26]).

    أمّا “سيرة سيف التّيجان” فإنّها من السّير المجهولة وغير المتناولة من قبل كلّ الّذين اهتمّوا بالسّيرة. وقد عُثر على ترجمة لها إلى الفرنسيّة من قبل د. بيرون (Dr. Perron) تحت اسم “claive des couronnes” (1812).

    يتّضح لنا من خلال هذه الإشارات الدالّة أنّ “اللاّنصّ” العربيّ كثير ومُتعدّد، ورغم تغيّر بعض التصوّرات بصدده فإنّ السّمة السّائدة، عن قصد أحيانًا، وعن غير قصد في بعض الأحايين، تُبيّن لنا بما لا يدع مجالاً للشّكّ أنّ التمييز بين “النّص” الجدير بالتّداول والاهتمام، و”اللاّنصّ” الّذي يُقابل بالإهمال والتهميش ما يزال قائمًا في ممارستنا الثّقافيّة ووعينا الثّقافيّ. وإذا كان الغرب قد سبقنا إلى الاهتمام بالعديد من هذه “النّصوص”، وثمنها التّثمين المناسب لأسباب فنّيّة أو إيديولوجيّة، فإنّ تخلّفنا عن إدراك ما أدركه الغرب، من خلال اهتمامه بأنواعٍ مُعيّنة من النّصوص العربيّة – حسب رأيه – يجعلنا دائمًا عاجزين عن فهم الذّات العربيّة من خلال مُختلف تجلّياتها وأنواع إبداعها، وقاصرين عن استيعاب الذّهنيّة والشّخصيّة العربيّة بما يخدم تطلّعاتنا ورهاناتنا المستقبليّة. ويرى أنّ الغرب قد سبقنا ليس فقط إلى فهم العالم الّذي نعيش فيه، بل سبقنا أيضًا إلى فهم ذواتنا من خلال اهتمم علمائه وباحثيه بتراثنا وواقعنا.

    وفي هذا السّياق يُمكن أن نجد الجذور الأولى للتّمييز بين “النّصّ” و”اللاّنصّ” في الثّقافة العربيّة في مرحلة جمع النّصّ الأكبر (القرآن الكريم). فعندما أقدم الخليفة “عثمان بن عفّان” على حرق باقي الصّحائف الّتي تضمّنت سورًا وآيات قرآنيّة، واعتمد نسخة محدّدة، كان بذلك يضع الأسس التّمييزيّة الأولى الّتي يتمّ بمقتضاها الإجماع على “نصّ” محدّد وموحّد. وكذلك كان الأمر مع الحديث النّبويّ في زمن الرّسول (ص)، وكذلك كان الأمر مع الحديث النّبويّ في زمن الرّسول (ص)، حيث أحرقت الأحاديث المجموعة خشية اختلاطها بالنّصّ القرآني، باعتباره “النّصّ الأكبر”([27]).

    ومع التطوّر التّاريخيّ تمّت مراعاة ضبط النّصّ الجدير بالتقدير وإهمال غيره من النّصوص الّتي لا ترقى إلى المكانة الخاصّة بالنّصّ وذلك في تدوين الحديث والشّعر. وإنّ المعايير المعتمدة في ضبط نصّ الحديث النّبويّ، وتمييزه عن غيره من النّصوص الموضوعة (اللاّنصّ) هي نفسُها الّتي سار عليها علماء اللّغة والشّعر في ما بعد.

    ويُضيف: قد ظلّ هذا التّمايز قائمًا إلى أوائل القرن الماضي حينما دخلت المطبعة وعرفت السّيرة الشّعبيّة طريقها إلى النّشر تمامًا كباقي الكتب المنتمية الثّقافة العالمة، وظلّت تستقطب جمهورًا واسعًا، إلاّ أنّ الفقهاء والعلماء ظلّوا ينتقدونه ويدينونه. ولكن هذه النّظرة، بُعيد الحرب العالميّة الثّانية، إلى السّيرة الشّعبيّة، وإلى رواتها وجمهورها، قد تغيّرت لدى فئة من الدّارسين والباحثين، وخصوصًا في مصر، وراحوا يدافعون عن “نصّيتها”، ويدعون إلى ضرورة إيلائها ما تستحقّ من العناية والاهتمام، على غرار باقي النّصوص العربيّة([28]).

    خاتمة:

    لقد تضاربت تصوّرات الباحثين حول موضوع النّشأة والمؤثّرات بين قائل: إنّ شكل الرّواية مستحدث لم يُعرف في تاريخ الأدب العربيّ، وإنّه غربيّ دخل إلى الأدب العربيّ، كما دخل كثير من المعطيات الثّقافيّة العربيّة، وليس ثمّة ضير في استعماله، فالأشكال لا هُويّات لها، وتتعدّد تبعًا لتعدّد الحواضن الثّقافيّة، وبين قائل: إنّ الرّواية تطوّرت عن المرويّات السّرديّة القديمة، وإنّها خطت بها على سبيل التطوّر الطبيعيّ خطوة إلى الأمام، وبين قائل: إنّها نتاج عمليّة الدّمج والتفاعل واللّقاء الّذي تمّ بين الثّقافتين العربيّة والغربيّة في النّصف الثّاني من القرن التّاسع عشر.

    وفيما تأسّى بعضهم على غلبة العناصر الغربيّة في تحديد شكل الرّواية، وانحسار العناصر العربيّة الأصليّة، رأى آخرون أنّ وسيلة التّعبير مشاعة، وأنّ هذا الشّكل الّذي تطوّر في الغرب، وأثبت صلاحيّته، قد لاقى قبولاً لدى روّاد الرّواية العربيّة، فأخذوه دون ممانعة، فمنح هذا الشّكل شرعيّته في الأدب العربيّ الحديث.


    [1]– إيلي أنطون، البناء الرّوائيّ ودلالاته عند يوسف حبشي الأشقر، ص 16.

    [2]– سمر خليفة، باب السّاحة، ط (1)، دار الآداب، بيروت، 1990، ص 17. 

    [3]– لاسل أيركرو منى، قواعد النقد الأدبيّ، ترجمة محمد عوض، ص 118. 

    [4]– سعيد يقطين، الكلام والخبر، مقدّمة للسّرد العربيّ، المركز الثّقافي العربيّ، المغرب، 1997، ص 80.  

    [5]– م. ن. 

    [6]– م. ن. 

    [7]– سعيد يقطين، الكلام والخبر، مقدّمة للسّرد العربيّ، المركز الثّقافي العربيّ، الدار البيضاء، المغرب، 1997، ص 81.  

    [8]– سعيد يقطين، السّرد العربيّ، قضايا وإشكالات، علامات، ج 29، مجلد 8، سبتمبر 1998م، ص 121.  

    [9]– سعيد يقطين، السّرد العربيّ، قضايا وإشكالات، علامات، ج 29، مجلد 8، سبتمبر 1998م، ص 121.  

    [10]– م. ن.، ص 122.   

    [11]– سعيد يقطين، السّرد العربيّ، قضايا وإشكالات، علامات، ج 29، مجلد 8، سبتمبر 1998م، ص 222.  

    [12]– م. ن.  

    [13]– م. ن.، ص 223.  

    [14]– م. ن.، ص 224.

    [15]– سعيد يقطين، الكلام والخبر، ص 225.   

    [16]– م. ن.  

    [17]– م. ن.، ص 226.   

    [18]– سليمان الحقيوي، سعيد يقطين: مستقبل كتابتنا في السّرديّات القديمة، الرّباط.   

    [19]– سليمان الحقيوي، سعيد يقطين: مستقبل كتابتنا في السّرديّات القديمة، الرّباط.   

    [20]– سعيد يقطين، تحليل الخطاب الرّوائيّ، المركز الثقافيّ العربيّ، الدار البيضاء، المغرب، ص 6.    

    [21]– سعيد يقطين، تحليل الخطاب الرّوائيّ، المركز الثقافيّ العربيّ، الدار البيضاء، المغرب، ص 7.    

    [22]– عبد الرحمن بن الجوزي، القصّاصين والمذكرين، تحقيق: محمد بسيوني زغلول، دار الكتب العلميّة، بيروت، 1986م.     

    [23]– سعيد يقطين، إنفتاح النصّ الروائي (النصّ السياق)، المركز الثقافيّ العربيّ، المغرب، ط1، 1989م.     

    [24]– ليتمان، ألف ليلة وليلة، دار الكتاب اللبناني، 1982، ص 36.     

    [25]– المرائي (ناجية غافل)، سيرة عنترة في الدراسات الاستشراقيّة، مجلة التراث الشّعبي، عدد11، 1977، ص 45-60.     

    [26]– جورج بوهاس وجاك باتريك، ترجمة سيرة الظاهر بيبرس، دار السندباد، باريس، 1985، (لم تكتمل بعد).    

    [27]– سعيد يقطين، الكلام والخبر: مقدّمة للسّرد العربيّ، المركز الثقافيّ العربيّ، الدار البيضاء، المغرب، 1997، ص 76-77.     

    [28]– م. ن.، ص 79.     

  • الأساليب الفنية للصور البيانية في خطب نهج البلاغة – د. عطيه أربابي وأ.سید أبو الفضل قدمكاهي

    خلاصة

    تشهد لنا دراسة نهج البلاغة بجمال الصور البيانية التي تستند إلى أسلوب نقل الحقائق و مواجهة المشاهد بشكل ملموس، الأمر الذي يتسم بالجمال في الأجواء المتضادة أو تجسيد العناصر الحيوانية و المادية، والتي تجعلنا ندرك المفاهيم كلما كانت أكثر حيوية و دينامية. و من هذا المنطلق، تبلغ المفاهيم ذروة جمالها و تأثيرها بكيفية ترتيب الأجزاء و الأشياء في الكلام و الخيال الإنساني بالإضافة إلى الألوان الباردة و الحارة[1] في ارتباطها بالشخصيات الرئيسية في النقاط الذهبية للوحة الفنية.

    يحاول الفنان تثبيت التوازن في الصور المبتكرة و استعمال مختلف الأساليب في التصوير البياني و تركيب و تجسيد جماليات هذا العمل البديع، الأمر الذي يعود إلى الظروف السائدة في مرحلة التصوير. ويجدر بنا هنا أن نشير إلى ملاحظتين غاية في الأهمية: 1- التصميم الخارجي للأشياء و العناصر، 2- نوع التلوين غير المباشر للعناصر التي تؤدي إلى تجسيد المفاهيم في الذهن الفضولي للمخاطب و تصويرها بشكل مناسب، لتمزج روح المخاطب بالروح الجميلة و الطاهرة للفنان و كلامه الجميل و الملهم و يفتح أمامه أبواب السعادة و الهداية.

    الكلمات المفتاحية: الأساليب الفنية، نهج البلاغة، التصوير البياني، الذهني – التخيلي.

    تعريف الفن

    ﴿هُوَ اللَّهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى﴾‏([2]).

    يتضمن الفن نوعاً من المعرفة الباطنية و السماوية يرتبط بنوع من المعرفة الذاتية العرفانية و شهود الباطن، حيث يدرك الفنان الشهود ليتوصل إلى معرفة العالم. و من هذا المنطلق، يعبر باللغة و الإطار الفني عما يراه في جمال الوجود.

    آية الله خامنئي: الفن أسلوب بيان معبر و دقيق و نافذ و خالد. التعبير و الدقة و النفوذ و الخلود يساعد على فهم معنى الفن. يجب على كل رسالة و دعوة و ثورة و حضارة و ثقافة أن تدخل ضمن إطار الفن، و إلا فلن تسنح الفرصة لها للانتشار و الخلود، و لن يكون هناك فرق بين رسائل الحق و رسائل الباطل[3].

    و يقول كروتشه[4] في تعريف الفن: الفن نوع من شهود الله في ظهور الجمال[5]، وهذا التعريف مستوحى من الأسس العرفانية.

    تعريف الأسلوب التصويري

    فيمايلي أحد أكثر التعاريف كمالاً لأسلوب التصوير البياني: وجهة نظر بعض الفنانين في التعبير عن أفكارهم و أساليب إبداع أعمالهم و هذه الأعمال مستوحاة من العوامل الخارجية و الجميلة و نوع معين من المعرفة في مكان أو موقف محدد.

    ولذلك فإن الأسلوب أو سياق الفنان في ابتكار عمل فني أو تصوير بياني بأسلوب أو تقنية جديدة مستوحاة من العقل المبدع و غير مسبوقة، يسمى الأسلوب الفني و هو يبين طريقة إبداع العمل الفني أو تقنية إيجاد العمل و النظرة الخلاقة و الجمالية للفنان إلى العمل ذاته و العمل النهائي و النص و المعرفة الباطنية مما يمكن له التأثير على نظرة المخاطب بشكل واضح.

    الأساليب الفنية في نهج البلاغة

    • الواقعية (Realism)

    تشير الواقعية إلى التعبير عن الحقائق الموجودة و العينية دون تدخل المشاعر و الأحاسيس الإنسانية بشكل مستقل عن ذوق الفنان و أسلوب، و هي تشبه عدسة الكاميرا التي تصور الوقائع الموجودة بشكل حيادي. انتشرت الواقعية في القرن التاسع عشر و يبذل أنصارها قصارى جهدهم في التعبير عن الحقائق الاجتماعية الموجودة[6].

    سوف نشير في هذا القسم إلى أقوال لأمير المؤمنين عليه السلام و التي تضع المخاطب أمام بحر من الحقائق و تصور ما يحدث بشكل واقعي و حقيقي و تجعل وجوده و تنفيذه للمستمع أمراً ملموساً و متجسداً و قابلاً للإدراك. و لذلك يدخل المخاطب إلى قلب الكلام و يحاول إدراك المفاهيم و المفردات التي تعبر عن الحقيقة:

    «ینْحَدِرُ عَنِّی السَّیلُ، وَ لا یرْقَی إِلَی الطَّیرُ»[7]؛

    يشير أمير المؤمنين عليه السلام في هذه العبارة إلى ذروة عالية مزينة بالثلوج تشق المياه الدافقة طريقها كسيل عات حتى تصل إلى سهل واسع و ترويه و تقدم له البركة و السعادة من ينابيع و أنهار لا تنتهي، تعجز الطيور عن التحليق إلى ذروته و ليس لها من مأوى و ملجأ سوى سفوحه، و يأتي أمير الكلام من هذه الذروة التي لا تعادلها في ارتفاعها ذروة أخرى، ليكون منبعاً للخير و البركة للبشرية بأكملها، و يشير إلى أن الجبال الأوتاد بحاجة إلى ذروة تخفف سرعة الرياح العاتية و تلتقطها و تحولها إلى مطر يروي الأراضي العطشى و يملؤها بالماء.

    إن هذا التصوير البياني البديع للجبال و الينابيع و المروج المحيطة بها و الطيور التي تحلق في السماء، لوحة فنية حقيقية و واقعية يمكن تسجيلها بواسطة عدسة الكاميرا بشكل غاية في الوضوح و الشفافية.

    «تَخالُ قَصَبَهُ مَدارِىَ مِنْ فِضَّة، وَ ما اُنْبِتَ عَلَیها مِنْ عَجیبِ داراتِهِ وَ شُمُوسِهِ خالِصَ الْعِقْیانِ وَ فِلَذَ الزَّبَرْجَدِ. فَاِنْ شَبَّهْتَهُ بِما اَنْبَتَتِ الاَرْضُ قُلْتَ: جَنِىٌّ جُنِىَ مِنْ زَهْرَةِ كُلِّ رَبیع وَ اِنْ ضاهَیتَهُ بِالْمَلابِسِ فَهُوَ كَمَوْشِىِّ الْحُلَلِ، اَوْ مُونِقِ عَصْبِ الْیمَنِ. وَ اِنْ شاكَلْتَهُ بِالْحُلِىِّ فَهُوَ كَفُصُوص ذاتِ اَلْوان قَدْ نُطِّقَتْ بِاللُّـجَیـنِ الْمُكَلَّـلِ»[8]؛

    لوحة فنية جميلة و بديعة مكونة من تراكيب مبتكرة من الألوان تدفع بذهن المخاطب إلى التركيز على هذه الأدوار، لكي يكتشف و يدرك مهارة الفنان في التصوير البياني و اعتماده الدقيق على الواقعية. إنه فنان محترف و ماهر يقوم بتركيب أزهار الربيع على أجنحة طاووس بهي الطلعة ليضع القارئ أمام حديقة من الأزهار و البراعم و ينقل مهارته و يعبر عنها في منتهى الوضوح.

    صورة بيانية بهية و جميلة من الألوان الباردة و خاصة الأخضر و الأزرق و أخيراً الفضي. أجنحة الطاووس المفرودة كقرص الشمس أخضر اللون يعكس الشمس الجميلة لأصحاب المذهب، وهذا ما يزيد من جمال العمل الفني. طوق جميل مرصع بالياقوت و الزبرجد و عنق جميل أزرق اللون جعل الطاووس أميراً مدللاً بملابس من الحرير.

    طاووس تشبه أجنحته البيضاء الحرير الشرقي المفروش على الأرض، يشكل جواً من الرؤى و الأزهار و البراعم الحمراء التي تسير عبر مجموعة من الألوان الخضراء، مما يعبر عن الحس الفني و الذهن الخلاق للفنان في إيجاد هذا الأثر البديع.

    «لایخالِفُ سالِفَ اَلْوانِهِ، وَ لایقَعُ لَوْنٌ فى غَیرِ مَكانِهِ. وَ اِذا تَصَفَّحْتَ شَعْرَةً مِنْ شَعَراتِ قَصَبِهِ اَرَتْكَ حُمْرَةً وَرْدِیةً، وَ تارَةً خُضْرَةً زَبَرْجَدِیةً، وَ اَحْیاناً صُفْرَةً عَسْجَدِیةً.([9])؛

    ومن أجمل ما تتضمنه هذه المجموعة، لوحات أمير المؤمنين عليه السلام الجميلة في سلسلة الطاووس، والتي تمثل اختيار قسم جزئي من عمل فني رائع يصور دور الألوان، حيث تمكنت هذه التحفة الفنية من التحف الأدبية من تقديم مزيج من الألوان إلى ذهن المخاطب و ناظريه يجعله يطيل النظر إليها ليتابع الحركة الدقيقة للفرشاة و التركيب المحترف للألوان و الحركة المموجة التي يمكن لها أن تخلق المزيد من الهدوء و السكون في فكر المخاطب، وتعبر عن حركة الفرشاة الدقيقة في مختلف أجزاء هذا النسيج الفني و الفريجة من نوعها في هذا المجال، لأنها مزجت بين فن التصوير الواقعي و المينياتور الشرقي.

    أما الألوان الباردة، فهي مستوحاة إلى جانب بعضها البعض من فن الظلال الداكنة الخضراء و الزبرجد المذهب، مما يؤكد على النظرة الحكيمة للفنان و يعبر عن مزج اللون الأصفر و الأخضر و تعيين الحد بين الأخضر و الأزرق بشكل جيد، وهو أسلوب في تركيب الألوان تجلى فيما بعد في الفن الإيراني الشرقي بشكل كامل. يتحرك اللون الأزرق من سمته الهادئة إلى القوة ثم يمتزج باللون الأصفر الذهبي ليعبر عن أكثر الألوان المركبة محورية لدى الفنان. هذا الأسلوب في الرسم أسلوب فريد من نوعه و يتمتع بقيمة استثنائية. و رغم أن اللون البيج الذهبي يمتزج مرة أخرى باللون الأساسي، أي الأخضر، ليجعل الناظر يطيل النظر إليه حتى نهاية المسير، لكن هذه التفاصيل في العمل الفني في ريشة الفنان الدقيقة، أمر يدعو للعجب. إنها صورة بيانية لم يتمكن من الوصول إليها سوى القليل و النادر من الفنانين.

    • الرومانسية (Romanticism)

    تعبر الرومانسية عن تجسيد المشاعر و العواطف بشكل بارز و عميق مقابل العقل. إن ما يتضمنه هذا الأسلوب بشكل عام يتمثل في نزعة الإنسان إلى الخيال و الرؤى و الأحداث التاريخية و الأراضي المجهولة و يمكن استعمال هذه المشاعر بشكل إيجابي أو سلبي لوضع المخاطب أمام مجموعة من الجماليات على الجانبين؛ و لذلك فإن الرومانسية تعتبر عن تجسيد و خلق إثارة و شعور لطيف في المخاطب[10].

    ظهر هذا الأسلوب في أواخر القرن الثامن عشر الميلادي و قد توجه بمعظم حالاته إلى الأعمال الشاعرية و العاطفية. و لذلك فإن الرومانسية التي ترى بأن الإحساس للإحساس و العواطف للعواطف تلعب دوراً هاماً في التعبير عن الأعمال الفنية الحديثة.

    و يتضمن كلام أمير المؤمنين عليه السلام التعبير عن أي موضوع يلامس المشاعر الإنسانية و يثيرها، وذلك حتى يلم المخاطب الشريان الحيوي للإحساس و الشعور و يدرك مفهومه و يندمج بالموضوع، و سوف نشير إليه.

    «وَ لَقَدْ بَلَغَنى اَنَّ الرَّجُلَ مِنْهُمْ كانَ يَدْخُلُ عَلَى الْمَرْاَةِ الْمُسْلِمَةِ وَالاْخْرَى الْمُعاهَدَةِ فَيَنْتَزِعُ حِجْلَها وَ قُلْبَها وَ قَلائِدَها وَ رِعاثَها، ما تَمْتَنِعُ مِنْهُ اِلاّ بِاِلاْسْتِرْجاعِ وَ الاِسْتِرْحامِ، ثُمَّ انْصَرَفُوا  وافِرينَ، ما نالَ رَجُلاً مِنْهُمْ كَلْمٌ، وَلااُريقَ لَهُمْ دَمٌ.  فَلَوْ اَنَّ امْرَءاً مُسْلِماً ماتَ مِنْ بَعْدِ هذا اَسَفاً ما كانَ بِهِ مَلُوماً، بَلْ كانَ بَلْ کانَ بِهِ عِنْدِی جَدِیراً»[11]؛

    أفراد مصابون و أطفال مضرجون بالدماء و نساء و بنات مظلومات، صورة بيانية تحمل الكثير من المشاعر في التعبير عن هذا المشهد. يلجأ أمير المؤمنين عليه السلام بهدف التأثير على المخاطب و إثارة مشاعره و إحساساته و غيرته الدينية إلى تصوير لوحة فنية كلامية تثير مشاعر المخاطبين. تصور هذه اللوحة امرأة مشردة يغمرها الاضطراب في جو مضطرب بثوب ممزق و شعر تعمه الفوضى و وجه مضرج بالدماء نتيجة لهجوم وحشي من قبل أهل الذمة. إن ما نستشفه من هذه اللوحة الفنية البديعة ليس سوى جو رمادي من الألوان و المصائب النازلة على أضعف الأفراد. إن هذه الصورة البيانية التي ترتجف لها القلوب تريد إثارة الغيرة العربية النائمة و إيقاظها، تريد إثارة غضب المسلمين لكي يتمكن أمير المؤمنين عليه السلام من تشكيل جيش من الأفراد الضعفاء في ذلك العصر، لعله يكون مرهماً على الجرح الذي سببته هذه المصيبة العظيمة.

    «اللَّهُمَّ قَدِ انْصَاحَتْ جِبَالُنَا، وَ اغْبَرَّتْ أَرْضُنَا، وَ هَامَتْ دَوَابُّنَا، وَ تَحَیرَتْ فی مَرَابِضِهَا وَ عَجَّتْ عَجِیجَ الثَّكَالَى عَلَى أَوْلاَدِهَا، وَ مَلَّتِ التَّرَدُّدَ فی مَرَاتِعِهَا، وَ الحَنِینَ إِلَى مَوَارِدِهَا»[12]؛

    صحراء جافة و حرارة لاذعة، أرض وعرة و مليئة بالشقوق، أغنام هزيلة تكاد عظامها تكون مرئية و نوق منهكة من التعب و كأنها فقدت أولادها و هي تعاني من شدة العطش و المصاعب و الجفاف. كل ذلك جزء من صورة بيانية جافة و عديمة الروح و تسرب ذهني يستشفه المخاطب من التعبير عن كلام أمير المؤمنين عليه السلام، حيث يمكننا أن نسمعه و هو يردد كلمة “اللهم” كبارقة أمل و الوضع في منتهى اليأس و الخيبة التي تعبر عنها السحب الداكنة في هذه الصورة البيانية بشكل واضح، مما يشير إلى جمال تعابير أمير المؤمنين عليه السلام في الاستسقاء. إن الألوان الداكنة و الغامضة في خلفية اللوحة هي ألوان مخنثة تظهر بشكل واضح و السماء الزرقاء تتخلى عن لونها الأزرق لأشعة الشمس الحارقة ذات الألوان الأصفر و الأحمر و أحياناً البرتقالي لكي تنقل الشعورباليأس بشكل دقيق[13]. تنقل هذه اللوحة مفاهيم الجفاف و الأمل سوية في نهاية البساطة. يصور أمير المؤمنين عليه السلام أشجار النخيل الجافة ذات الأوراق المحترقة في منتهى الجمال.

    «قَلَّ یا رَسُولَ اللّهِ عَنْ صَفِیتِكَ صَبْرى، وَ رَقَّ عَنْها تَجَلُّدى، اِلاّ اَنَّ لى فِى التَّاَسّى بِعَظیمِ فُرْقَتِكَ، وَ فادِحِ مُصیبَتِكَ مَوْضِعَ تَعَزٍّ. فَلَقَدْ وَسَّدْتُكَ فى مَلْحُودَةِ قَبْرِكَ، وَ فاضَتْ بَینَ نَحْرى وَ صَدْرى نَفْسُكَ. فَاِنّا لِلّهِ وَ اِنّا اِلَیهِ راجِعُونَ»[14]؛

    إن أكثر لوحات الفنان الشهير و الشهيد أمير المؤمنين عليه السلام تأثيراً، لوحة فراق بين زوج سماوي و إلهي. لوحة يغمرها الحزن الذي ألقى بظلال ثقيلة عليها. الأسود و الرمادي يملآن جو اللوحة لأن الفنان تمكن من تركيب العناصر في اللوحة بشكل احترافي مبيناً وحدته بين الخلق و مقدماً لنا لوحة فنية بديعة يغمرها جو ميت من الجمادات والعناصر ذات الألوان المخنثة، مما يشير إلى أهمية الموضوع. تعتبر اللوحة بوضوح عن تشييع جثمان التمت حول تابوته مجموعة قليلة العدد من الأفراد، و أطفال يعضون على أكمامهم و المقبرة و التابوت أمامهم في منتصف الليل و انعكاس لذكريات الماضي في أزقة بني هاشم الضيقة.

    باب منزل محترق، طفلة باكية. لوحة تمكنت من نقل الشعور الحقيقي للفنان تجاه ألم الفراق. إن الأنوار التي تسلطها السماء على الجثمان المدفون في هذا الليل، تزيد من جمال اللوحة ولذلك فاللوحة تمثل الشعور بألم فراق حبيب انتقل إلى رحمته تعالى و تبين إيماناً قوياً بالحقيقية الأبدية التي تعبر عنها الألوان و الأدوار.

    «فَلَقَدِ اسْتُرْجِعَتِ الْوَدیعَةُ، وَ اُخِذَتِ الرَّهینَةُ»[15]؛

    يحمل هذا التصوير البياني الماهر، و رغم أبعاده الصغيرة، مفاهيم كبيرة و قصة طويلة تتخللها الارتفاعات والانخفاضات.

    لوحة مليئة بالمشاعر و الأحاسيس و الآلام التي يمكننا أن نستشف من خلالها الكلام المخفي و الظاهر بشكل دقيق و جيد، إنها لوحة مليئة بالشكوى، نلاحظ فيها ارتجاف يد الفنان في كل آثار ريشته البديعة. لوحة عروج ملكوتي يسافر الراحل فيها بجناح مكسور إلى سماء فتحت له ذراعيها. و يحكي هذا الطيران حكاية العودة إلى الملكوت لحمل وديعة من الأرض و إعادتها إلى مكانها الأصلي. تمثل اللوحة الفنية البديعة رحلة سيدة إلى السماء وهي ترتدي ثوباً من البياض و تشق طريقها عبر السحاب إلى الملكوت الأعلى ليرشدها أهل الملكوت إلى مبدأ النور. و يشير تحليق الطيور حولها إلى الملائكة التي هبت لاستقبالها و إعادة هذه الأمانة الثمينة إلى صاحبها.

    • الرمزية (Symbolism)

    يتمثل الأسلوب الرمزي في التعبير عن الحقائق الموجودة في المجتمع بشكل رمزي و غير مباشر لتجسيد الأعمال الفنية و الصور البيانية باستعمال الرموز و العناصر غير الغريبة عن المخاطب الذي يتمكن من إدراك قصد الفنان، و رغم أن الفنانين الرمزيين يسعون للتعبير عن مشاعرهم بواسطة الرموز، لكن هذه الرموز تؤثر بشكل جيد في ذهن المخاطب[16].

    إن استعمال الرموز في التعبير عن الكلام لأجل إيصال المفهوم الكامل في أقصر تعبير ممكن يقترن ببحر من الكلام و المفاهيم و التعاليم، قد قدمه أمير المؤمنين عليه السلام بالتمام و الكمال في نهج البلاغة.

    «وَ اِنَّهُ لَیعْلَمُ اَنَّ مَحَلّى مِنْها مَحَلُّ الْقُطْبِ مِنَ الرَّحى، ینْحَدِرُ عَنِّى السَّیلُ، وَ لایرْقى اِلَىَّ الطَّيْرُ »[17]؛

    ومن التصاوير الرمزية، بروز عمل فني برمز أو قيمة أو شخص ما كمركز للاهتمام. إنه فنان تمكن من إضافة كل شيء إلى لوحته الجميلة بدقة. لوحة تمثل طاحونة حجرية تتموضع في محور اللوحة في النقطة الذهبية و دوران الطاحونة حول محورها يؤكد على المحور و كأنه عمود خيمة لا تساوي الخيمة أي شيء دونه.

    لقد تمكن الفنان بشكل جيد من تجسيد الطاحونة كرمز للوجود و قطب يقع مركزه في محور دوران العالم. لقد ترك الفنان ريشته تفرض تأثيرها بالتصميم و الألوان و هي ترسم حول الطاحونة كمية من الحبوب مما أضفى على اللوحة روحاً جديدة حيث يؤدي دورانها إلى ازدهار العمل و توفير الرزق، هذه الولاية عجلة خلق الوجود و محور و عالم يمتد و يتحرك بواسطتها «السبب المتّصل بین الارض و السماء»[18]. و لذلك فإن عدم قبول ولاية أمير المؤمنين عليه السلام يؤدي إلى زوال الطاحونة و خروجها عن محورها الرئيسي و التسبب بصدمات و أضرار لعجلة الوجود، حيث تمكن الفنان من تصوير هذا الأمر باستعمال الأسلوب الرمزي بشكل جميل و أنيق. في الخطبة 119، نلاحظ لوحة مشابهة يصور فيها الفنان خطر زوال قطب الطاحونة بشكل جيد حيث تحتك قطعتا الطاحونة ببعضهما البعض و للمحور المركزي حكم التوجيه و الإرشاد و التوازن[19].

    «تَزُولُ الجِبَالُ وَلاَ تَزُلْ! عَضَّ عَلَى نَاجِذِكَ أَعِرِاللهَ جُمجُمَتَكَ، تِدْ فی الاَرْضِ قَدَمَكَ، ارْمِ بِبَصَرِكَ أَقْصَى القَوْمِ، وَغُضَّ بَصَرَكَ وَاعْلَمْ أَنَّ النَّصْرَ مِنْ عِنْدِ اللهِ سُبْحَانَهُ»[20]؛

    يصور أمير المؤمنين عليه السلام هذه اللوحة الفنية الجميلة في معركة الجمل عندما يودع راية المعركة في يد ابنه محمد حنفية. عندما يريد أمير المؤمنين عليه السلام أن يرسل جندياً إلى ساحة المعركة، ينقل إلى أعين المخاطب أسطورة من الشجاعة و الجرأة و البطولة حتى يقوم المخاطب برؤيتها بشكل واضح و تترسخ في ذهنه. محارب مغوار يركز أنظاره على العدو بقامته العالية، و يضغط على أسنانه من شدة الغضب و يضرب رجله بالأرض كثور غاضب. إن تصوير المحارب ذي القامة الضخمة يشمل اللوحة بأكملها و يضفي رمحه نوعاً من الأبهة عليها ولا يرى في صفوف العدو سوى الضعف و الهزالة و هو يراقب شجعان ساحة المعركة من بداية الجيش إلى نهايته في حدقتي عينيه. لقد أضفت الألوان النقية و العميقة و ملابس الحرب نوعاً من الجمال على هذه اللوحة الفنية الرائعة.

    «كَاَنِّى بِكِ یا كُوفَةُ، تُمَدِّینَ مَدَّ الاَدیمِ الْعُكاظِىِّ، تُعْرَكینَ بِالنَّوازِلِ، وَ تُرْكَبینَ بِالزَّلازِلِ. وَ اِنّى لاَعْلَمُ اَنَّهُ ما اَرادَ بِكِ جَبّارٌ سُوءًا اِلاَّ ابْتَلاهُ اللّهُ بِشاغِل، اَوْ رَماهُ بِقاتِل»[21]؛

    و في وصف الكوفة، يمكننا أن نشير إلى لوحة تصور ساحة مدينة مدخلها معلوم و تصور جماعات متنوعة و سيوفاً مستعدة للحرب و نساءً و أطفالاً في خضم من الخوف و الرعب و المنازل تتعرض للنهب و السرقة و الضعفاء يتعرضون للموت. لا أحد يرحم أحداً و اللصوص يستغلون الفرص فيسرقون المال و يسبون النساء. الكوفة من مصاديق مدن البلاء و المصائب و اللعنات و هي رمز للخيانة منذ قديم الزمان و معروفة بالقتل و إراقة الدماء و لم ينعم أهلها طوال التاريخ بأي نوع من الهدوء. إن ما نلاحظه في هذه اللوحة الفنية المثيرة، قابل للتقسيم إلى ثلاثة بنود مستقلة:

    1. إن نوع تصميم هذه اللوحة الفنية و الذي يتضمن الكثير من الخطوط و الانكسارات العديدة و ازدحام العناصر، يشير إلى الحوادث المريرة و الاضطراب السائد في هذه اللوحة.
    2. إن الألوان المختلفة التي تحتوي عليها اللوحة و وجود أفراد مختلفين بملابس و أوجه مختلفة، يشير إلى الاضطرابات و التحولات التي شهدتها المدينة طوال التاريخ و لا زالت تشهدها حيث تمكن الفنان من استعمال الألوان الباردة و الساخنة و المكملة في منتهى الدقة و الكمال.
    3. بدأ التصميم الفريد لعمارة المدينة من بداية اللوحة و استمر حتى نهايتها خاضعاً للعديد من التغييرات بريشة الفنان الماهرة و الألوان القاتمة واللامعة مما يشير إلى مرور الزمن و تناوب الأجيال.

    وتستند كافة الحالات المذكورة أعلاه إلى كلام مولى المتقين و أمير المؤمنين عليه السلام و في النهاية يبين أنه لن يتعرض أحد للظلم إلا إذا قضت إرادة الله بذلك.

    «وَ لَقَدْ كانَ الرَّجُلُ مِنّا وَ الاْخَرُ مِنْ عَدُوِّنا یتَصاوَلانِ تَصاوُلَ الْفَحْلَینِ، یتَخالَسانِ اَنْفُسَهُما اَیهُما یسْقى صاحِبَهُ كَأْسَ الْمَنُونِ»[22]؛

    إن اللوحة الجميلة لحرب الرجل إلى رجل، من سمات الحروب العربية و تتميز بصورها البيانية الرائعة و الفريدة من نوعها؛ و لذلك لا يمكننا أن نغض النظر عنها بسهولة و نتجاهل ببساطة التفاصيل التي قدمها الفنان لنا. وتعتبر خلفية اللوحة من أهم النقاط التي يجب التركيز عليها هنا، لكي نتمكن من النظر إلى الجو الذي يقدمه الفنان و بيئة المعركة و المحاربين. إن الجو الساخن و السحاب و تلألؤ أشعة الشمس الغارب يضفي المزيد من الجمال على اللوحة ويزيد من الإثارة في اللوحة. و نلاحظ في اللوحة الأشخاص المحيطين بالمحاربين و أعينهم تكاد تخرج من مكنها و هم يراقبون الفائز النهائي و ينادون مع كل صوت و يدورون مع كل حركة، تتحرك أيديهم مع حركة زميلهم المحارب و تارة يجلسون وطوراً يقفون. إن تصوير هذا الجو عمل في غاية الصعوب لا يقدر عليه سوى من لديه الخبرة العميقة في ساحات الحروب و المبارزات الثنائية.

    إن الإنسان مثل شجرة ذات ثمار و محاسن، مفيد، و يمكن للجميع أن يستفيد منه. و قد يكون الإنسان مثل شجرة مصابة بالآفات و لا يمكن لأحد أن يستفيد منها، بل و تسبب الأضرار كذلك. و لذلك يطلق على هذا النوع من الناس مصطلح الشجرة غير المثمرة أو المثمرة و نلاحظ هذه المصطلحات في الأمثال و العبارات الرائجة و المتداولة. إن التصوير الرمزي لهذه العلامة يمعنى كمال الأصالة و النبع الذي يروي الأرض. لقد تمكن الفنان المعروف في هذه اللوحة من تصوير الشجرة الطيبة المتمثلة رحمة العالمين في رسول الله عليه الصلاة و السلام في هذا السهل الواسع المتمثل في الخلق؛ لأنه يصف الطهارة الكاملة للرسول و آل بيته مستنداً إلى آية التطهير و بين هذا التصوير البياني و الآية الكريمة التالية ارتباط استوحاه أمير المؤمنين عليه السلام من اللوحة القرآنية ﴿أَلم تَرَ كَیفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَیبَةً كَشَجَرَةٍ طَیبَةٍ أَصلُها ثابِتٌ وَ فَرعُها فِی السَّماءِ[23]﴾.

    و بناءً على ما تقدم ذكره، سنتطرق الآن إلى الصور البيانية لهذا الفنان العظيم و التي ترسخت في أذهان البشر من الماضي إلى المستقبل. عبر هذه السهول العظمى وبين هذه الأشجار الرائعة (الرسل و الأولياء)، تتموضع أفضل و أجمل الأشجار و أكثرها شموخاً و ثمراً، شجرة خضراء متألقة بأغصان طويلة و كثيفة و مقاومة و جميلة ليس فيها أي انحناء او اعوجاج، يمتد ظلها ليشمل العالم بأسره و تتساقط من عظمتها ثمار غنية باتجاه الأرض لتصل إلى يد الطالبين. الجميع ينعم بثمار هذه الشجرة الطيبة و يتظللون بظلها. يضعنا الفنان أمام لوحة تصور جذور هذه الشجرة الطيبة الضاربة في أعماق تراب الوجود الصافي، و جذعها القوي الذي يمتد من بدء الخليقة و حتى أوراق الحاضر و ثماره الغنية مما يدفع لسان حال المخاطب إلى امتداح هذا الفنان و استحسان عمله و الإعجاب به كثيراً.

    • الانطباعية (Expressionism)

    وتعني الإثارة و ظهور رد فعل من قبل المشاعر الباطنية للإنسان حيث يلجأ الفنان إلى هذه الأسلوب الفني لأجل إيجاد الإثارة الشديدة و الانطباع الكبير داخل المخاطب. يمكننا تمييز الانطباعية عن سائر الأساليب الفنية من خطوطها المكسرة و المزدحمة، و هذا الأسلوب الفني متداول منذ أولى الأعمال الفنية البشرية. ربما يمكننا أن نشاهد هذا الأسلوب بشكل واضح لدى الفنانين الإيرانيين و الشرقيين بشكل واضح و جلي. و لذلك فإن الانطباعية أسلوب للتعبير عن الحالات الباطنية للإنسان و البيئة الخارجية التي تستوحي من الطبيعة المحيطة بها. هذه الحالات تشمل الغضب و الدموع و العديد من الحالات الباطنية المعقدة، رغم أن هذا الأسلوب يبين كذلك الانطباعات الباطنية و النفسية للفنان ذاته[24].

    و يسعى الفنان ليضفي المزيد على الإثارة الناجمة عن الكلام التصويري و يؤثر على المخاطب ليجعله كالمسمار واقفاً في مكانه محدقاً بعظمة اللوحة الفنية الموجودة أمامه بحيث يصعب أن يخرج هذا المخاطب من حالة التأثير التي يخضع لها.

    «فَما راعَنى اِلاّ وَالنَّاسُ كَعُرْفِ الضَّبُع اِلَىَّ، ینْثالُونَ عَلَىَّ مِنْ كُلِّ جانِب، حَتّى لَقَدْ وُطِئَ الْحَسَنانِ، وَ شُقَّ عِطْفاىَ، مُجْتَمِعینَ حَوْلى كَرَبیضَةِ الْغَنَمِ»[25]؛

    إن الصور البيانية التي يقدمها الفنان لنا واصفاً كل ما رآه و حدث أمامه بلغة التعبير و بفرشاته الشهيرة، تشكل لوحة من الحالات المختلفة التي تنقل الهجوم و الفرح بشكل مقترن إلى ذهن المخاطب.

    رجل مغوار في اللوحة، يقف في النقطة الذهبية على يمينها و يتجلى بشكل واضح، يعبر وجهه عن تعب الأيام و إرهاق السنين و تتجسد الجرأة في عينيه لتفرش بساطاً على شفاه طفل و تجلس البسمة عليه. العمامة التي تسقط عن الرأس و الاضطراب الناجم عن الوصال أمر واضح على الوجه. إن الألوان الساخنة التي يستعملها الفنان تضفي شعوراً مثيراً على اللوحة. جماعة من الناس بقامات مختلفة، نساء و فتيات ينظرن من بعيد. إن ما يزيد من جمال اللوحة هو الأفراد الذين يزيدون من ازدحام اللوحة و هم يحاولون الوصول بأيديهم لأجل البيعة ملتمسين ما يريدون من مركز اللوحة. إن وجود شابين بين هؤلاء الناس يدل على أن نظر الفنان الثاقب لم يغفل حتى عن أبعد النقاط المختفية و ذلك لكي يتمكن من وصف هجوم الناس و ضغطهم بشكل جيد. إن الزاوية التي تبين لنا تمزق لباس هذا الأسد القوي، واضحة من الطرفين تجعل الجميع يحبسون الأنفاس.

    و يكمن جمال هذه اللوحة الرائعة في تنوع ألوان الملابس التي تبين الفروقات الطبقية بين الناس و الأقوام المختلفين. أما الإثارة فهي ناجمة عن وصال البيعة التي كانوا ينتظرونها حيث يتضح من اللوحة شغفهم و تزاحمهم على أداء البيعة، كما نلاحظ بوضوح الشرايين النافرة الناجمة عن هذا الضغط و الإثارة في اليدين حيث صورتها ريشة الفنان بدقة و مهارة، وهنا يمكننا القول أن هذه اللوحة انطباعية تماماً.

    «كَأَنِّى بِمَسْجِدِكُمْ كَجُؤْجُؤِ سَفینَة، قَدْ بَعَثَ اللّهُ عَلَیهَا الْعَذابَ مِنْ فَوْقِها وَ مِنْ تَحْتِها، وَ غَرِقَ مَنْ فى ضِمْنِها»[26]؛

    تبين اللوحة الانطباعي المذكورة الشعور المضطرب و الإثارة العميقة للراوي و الفنان الذي يترك مصير الناس في كناية جميلة و مبتكرة لريشته الماهرة و الدقيقة، لترسم لوحة واسعة تجعل أنظار المخاطب في ذهاب و إياب بين بدايتها و نهايتها. محيط متلاطم الأمواج، يظلل بإحدى أمواجه العاتية سفينة، و يدار فوق سطحها أمطاراً غزيرة من المياه.

    تصور اللوحة سفينة موجودة في قلب هذه العاصفة و التي أصبحت جدرانها هشة من كثرة ما لطمتها الأمواج و تكسرت صواريها و تمزقت أشرعتها، و أفراداً معلقين بالصواري و الأشرعة يمسكون بأصابعهم بحواف الأخشاب المكسرة لجدران السفينة لعلهم يعثرون على بارقة أمل في العدم. كما تصور اللوحة نساءً يحتضن أطفالهن و هن في حسرة و شعرهن مبلل، خائفات من غرق أطفالهن و أعينهن اغرورقت بالدموع و يكدن يلفظن أنفاسهن الأخيرة.

    البعض يواجه الأمواج و هم عائمون و البعض الآخر تتطاير أرواحهم و تتلاقف الأمواج جثثهم و كأن بعض الأيدي تمتد باتجاه السماء لتطلب الرحمة الإلهية و حدوث المعجزة حيث نلاحظ أمواج البلاء تحل عليهم من السماء و الأرض.

    «وَ اسْتَحَرَّ الْمَوْتُ، قَدِ انْفَرَجْتُمْ عَنِ ابْنِ اَبى طالِب انْفِراجَ الرَّأْسِ. وَ اللّهِ اِنَّ امْرَءاً یمَكِّنُ عَدُوَّهُ مِنْ نَفْسِهِ یعْرُقُ لَحْمَهُ، وَ یهْشِمُ عَظْمَهُ، وَ یفْرى جِلْدَهُ، لَعَظیمٌ عَجْزُهُ، ضَعیفٌ ما ضُمَّتْ عَلَیهِ جَوانِحُ صَدْرِهِ. اَنْتَ فَكُنْ ذاكَ اِنْ شِئْتَ، فَاَمّا اَنَا فَوَاللّهِ دُونَ اَنْ اُعْطِىَ ذلِكَ ضَرْبٌ بِالْمَشْرَفِیةِ تَطیرُ مِنْهُ فَراشُ الْهامِ، وَ تَطیحُ السَّواعِدُ وَ الاَقْدامُ»[27]؛

    يمكننا أن نعتبر اللوحة الموجودة أمامنا شاشة عرض حقيقية لحجم كبير من الأدرينالين في دم المخاطب، مما يشير في الحقيقة إلى إثارة مضاعفة. تروي اللوحة حكاية القتال و عشاق الجهاد. للوهلة الأولى، يشير التركيب الجميل للفنان إلى حضور أسد القتال في ساحة المعركة و يضعه في مركز اللوحة لكي يتمكن من تصوير القريب و البعيد و كافة جوانب الأمر. لقد استعمال الفنان تركيب الألوان الساخنة في التعبير عن الاضطراب في هذه اللوحة البيانية بشكل جيد. كما قام الفنان بتصوير الحركات التي يقوم بها االمحارب بالسيف و الرمح و عبر عن مرونة جسمه و تمكن من جذب انتباه المخاطب الدقيق و منحه الشعور الحقيقي و كأنه في ساحة الحرب يتابع المجريات.

    و فضلاً عن تصوير المحارب المغوار و هجوم العدو الغدار، تصور اللوحة عدداً من الجنود و هم يهربون و عدداً آخر يتراجع و ينسحب من الساحة، و كأنهم يتخلون عن قائدهم خوفاً على أرواحهم. كلما ابتعدوا عن هذا الأسد يتعثرون و يقعون و سيوف العدو المكار تنال منهم حظاً عظيماً و تستولي على أموالهم و جثثهم تتمزق تحت حوافر الخيل. لا أحد يجرؤ على مواجهة قائد ساحة المعركة حتى يدخل إليها.

    إن ما نستشفه من هذه اللوحة هو أن الساحة حول حيدر الكرار عليه السلام أصبحت خالية من المحاربين، و منهم أنصاره ضعيفو الإيمان و أعداؤه الجبناء، و لذلك نلاحظ اللون المخنث يطغى على هذا الجو. و تصور اللوحة كذلك كيف يضرب السيف الجمجمة فيسحقها و يجعلها زبدية تملؤها الدماء و العظام. تعبر اللوحة بكافة تفاصيلها عن الإثارة المتمثلة في هروب الأنصار الذي يدعو للاشمئزاز و خوف الأعداء الشديد و رقص السيف العلوي في ساحة الحرب مما يمنح الشعور بالشجاعة و البطولة في قلب أنصار أمير المؤمنين عليه السلام.

    «وَ عَضُّوا عَلَى النَّواجِذِ، فَاِنَّهُ اَنْبى لِلسُّیوفِ عَنِ الْهامِ. وَ اَكْمِلُوا اللاّْمَةَ، وَ قَلْقِلُوا السُّیوفَ فى اَغْمادِها قَبْلَ سَلِّها، وَ الْحَظُوا الْخَزْرَ، وَ اطْعُنُوا الشَّزْرَ، وَ نافِحُوا بِالظُّبا، وَ صِلُوا السُّیوفَ بِالْخُطا»[28]؛

    اللوحة المشار إليها أعلاه، لوحة انطباعية لاحظنا ما يشبهها في الأسلوب الواقعي حيث تمكن الفنان فيها من وصف موضوع ثابت بأسلوبين مختلفين ليثبت براعة الفنان. يبين أمير المؤمنين عليه السلام حالة المحارب الذي يكز على أسنانه و يظهر غضبه بأسلوب المحارب و يدرع ملابسه القتالية بالفولاذ لكي يظهر جسمه أكبر و أضخم و يوقع الرعب في قلوب الأعداء. ومن جهة أخرى، عندما يركز على تفاصيل المقاتل نلاحظ حالة إمساك قبضة السيف و الضغط عليها بشكل يبرز شرايين اليد. قبضة السيف تدور و السيف يخرج من غمده مما يشعر بالمخاطب بأن الهجوم قريب.

    الخطوط المكسرة للرماح و التي تجول من الأسفل إلى الأعلى و من اليسار و اليمين، تشعر المخاطب بأن العبور عبرها أمر مستحيل و أن موت العدو حتمي. إن حركة السيف و رقصه في الهواء تجعلنا نسمع صوت ضربات السيف عبر خطوط الملونة في معركة تميز فيها الألوان الساخنة الجيش المنتصر عن جيش لا لون له.

    «كَانّى بِهِ قَدْ نَعَقَ بِالشّامِ، وَ فَحَصَ بِرایاتِهِ فى ضَواحى كُوفانَ، فَعَطَفَ عَلَیها عَطْفَ الضَّرُوسِ، وَ فَرَشَ الاَرْضَ بِالرُّؤُوسِ.قَدْ فَغَرَتْ فاغِرَتُهُ، وَ ثَقُلَتْ فِى الاَرْضِ وَطْاَتُهُ. بَعیدَ الْجَوْلَةِ، عَظیمَ الصَّوْلَةِ. وَ اللّهِ لَیشَرِّدَنَّكُمْ فى اَطْرافِ الاْرْضِ حَتّى لا یبْقى مِنْكُمْ اِلاّ قَلیلٌ كَالْكُحْلِ فِى الْعَینِ»[29]؛

    تعبر هذه اللوحة عن ظهور السفياني و حركاته هو و أنصاره. صورة بيانية بديعة لمدينة لا تحميها أبراجها و تحيط بها رايات سوداء و حمراء؛ مدينة من الموتى و القتلى يأخذون أطفالها مكبلين بالأصفاد و نساءها و بناتها سبايا عاريات. إذا نظرت إلى الأرض جيداً فسوف ترى الرؤوس المقطوعة المضرجة بالدماء و التراب و الموضوعة كالبلاط تحت أرجل المهاجمين. جيش يطوق أنحاء المدينة و أفراده مسلحون حتى أسنانهم يراقبون المدينة من فوق المرتفعات و الأبراج و الصخور و المآذن مما يمنع أي شخص من العبور من هذا المكان الذي يستحيل فيه حتى على الذبابة أن ترفرف و تطير.

    سيوف حادة تضغط بحدقها و غضبها على الأعناق و تجعل الموت سيد الموقف. تضفي هذ اللوحة الشعور بالخوف لدى المخاطب و تصور بدقة حزن و مأتم و مصيبة و يأس و ذل من نجا من المصيبة. إن الرايات التي تصورها اللوحة تمنح الشعور بالتسلط على العناصر الموجودة.

    «فَاحْذَرُوا عِبادَ اللّهِ عَدُوَّ اللّهِ اَنْ یعْدِیكُمْ بِدائِهِ، وَ اَنْ یسْتَفِزَّكُمْ بِنِدائِهِ، وَ اَنْ یجْلِبَ عَلَیكُمْ بِخَیلِهِ وَ رَجِلِهِ. فَلَعَمْرى لَقَدْ فَوَّقَ لَكُمْ سَهْمَ الْوَعیدِ، وَ اَغْرَقَ لَكُمْ بِالنَّزْع  ِ الشَّدیدِ، وَ رَماكُمْ مِنْ مَكان قَریب»[30]؛

    إن الصور البيانية التي يقدمها لنا أمير المؤمنين عليه السلام، عرض انطباعي بلون و تركيب مختلف و مشاهد منقطعة النظير يزيد من إثارة اللوحة. و تصور اللوحة كذلك شيطاناً يجذب صوته الموسيقي الساحر البشر مما يجعل من الصعب التمييز بين الرجال والنساء و يضعنا أمام صورة يسيطر فيها ذوو الملابس السوداء بسيوفهم و رماحهم و غضبهم على الموقف و هم مستعدون للهجوم مما يلقي الرعب في قلب أي كان.

    الجنود الذين يرتدون الأسود، وجوه من اللحم والدم تزيد من ثقل الصورة وتمنح الشعور بالهجوم الشامل مما يزيد من إثارة الموقف. و تصور اللوحة على رأس هؤلاء شيطاناً يسيطر على الموقف و ينفث ألسنة اللهب من وجهه، يضع سهماً كبيراً على قوسه وأظافر يده تضغط عليه بشدة و كأنه أمام الهدف و لا يخشى أن يخطئه. لوحة مليئة بالإثارة في كافة أنحائها.

    إن الألوان التي استعملها الفنان في الإشارة إلى الأبنية و الشياطين و جيشهم، قريبة من بعضها و تتمايز عن الناس الحاضرين. تركيب يراعي الفنان فيه التوازن جيداً و يسعى ليضع الشيطان الرئيسي في مكان مناسب و قريب من الهدف. كما أن الرعب و الخوف و الهرب و الازدحام يزيد من إثارة اللوحة.

    «وَ دَلَفَ بِجُنُودِهِ نَحْوَكُمْ، فَاَقْحَمُوكُمْ وَلَجاتِ الذُّلِّ، وَ اَحَلُّوكُمْ وَ رَطاتِ الْقَتْلِ، وَ اَوْطَاُوكُمْ اِثْخانَ الْجِراحَةِ، طَعْناً فى عُیونِكُمْ، وَ حَزّاً فى حُلُوقِكُمْ، وَ دَقّاً لِمَناخِرِكُمْ، وَ قَصْداً لِمَقاتِلِكُمْ، وَ سَوْقاً بِخَزائِمِ الْقَهْرِ اِلَى النّارِ الْمُعَدَّةِ لَكُمْ»[31]؛

    عندما كنتم تشاهدون لوحة الشيطان المذكورة أعلاه، كان يرمي الناس القريبين منه بأربعين سهماً، و رؤية هذه اللوحة أمر لا بأس به حيث تبين إغواء الشيطان و قدرته على السيطرة على البشر و تسلط هذا العاصي أكثر من اللازم.

    يطلق الشيطان سراح الإنسان من جو عبادة الله و يخرجه من بساتين العبودية و يسمم ينابيع العشق النقية بسم العصيان و يقود الإنسان إلى صحارى الحقد و النفاق حتى يمد يده إلى ما تبقى منها من مستنقعات الحياة الدنيا.

    بضرباته المستمرة و المثيرة، يجرحه و يطيح به أرضاً، حتى لا يتمكن من الحركة ﴿قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ﴾[32]ويطلق سهامه الملوثة بسم الوسوسة و الهوس و يغطي بها نظر الإنسان «النَّظَرُ سَهمٌ مَسْموُمٌ مِنْ سِهامِ اِبلیس».[33]

    يقع الإنسان في مسيرته في فخاخ الشيطان التي ينصبها له و يضع فيها خنجر الذنوب و المعصية على حنجرته و يضغط بيديه المخضبتين بالدماء على جمجمته و يضرب جدار الظن و التهمة ليخرج حطام عظام الأفكار البيضاء و لا يترك في رأسه سوى السواد. و يصبح جسم الإنسان المسلوب كضبع جائع تسيطر عليه مخالب الوسواس و تقوده إلى جهنم التي تمتد ألسنة لهبها منذ مدة طويلة بحيث ترى من بعيد.

    السوريالية

    السوريالية أو الفواقعية ” فوق الواقع ” يمكن أن تكون مزيج من فوق الواقع و الحلم ، حيث يمكن للفنان تحويل الآثار الحقيقية الموجودة إلى مركب غير واقعي . الأمر البارز في هذا النهج هو الشعور التخيلي القوي أو فوق الواقعية التي يعجز الآخرون عن فهمها و لا يستطيعون ذلك و لا القدرات البشرية الإحاطة بها [34].

    بين الخطابات لا يمكن العثور إلا على القليل من الآثار في هذا النوع من نهج الفواقعية كما في باقي أنواع النهج . و لكن الشيء المتوفر هو ما تم أخذه عن المعرفة الإلهية و قدرات الإمام السابع ، التي يجهلها الآخرون ، تماماً كما هو الحال عندما يرسم الفن مشهداً في الذهن يجعل الجمهور في حالة استغراب بحيث لا يستطيع تجاهله ، وكذلك لا يستطيع لمسه أو تصوره بعقله و معرفته المحدودة .

    «ثُمَّ فَتَقَ مَا بَینَ السَّمواتِ الْعُلا، فَمَلاَهُنَّ اَطْواراً مِنْ مَلائِكَتِهِ. مِنْهُمْ سُجُودٌ لایرْكَعُونَ، وَ رُكُوعٌ لاینْتَصِبُونَ، وَ صافُّونَ لایتَزایلُونَ، وَ مُسَبِّحُونَ لایسْاَمُونَ، لایغْشاهُمْ نَوْمُ الْعُیونِ، وَ لا سَهْوُ الْعُقُولِ، وَ لا فَتْرَةُ الاَبْدانِ، وَ لا غَفْلَةُ النِّسْیانِ. وَ مِنْهُمْ أُمَناءُ عَلى وَحْیهِ، وَاَلْسِنَةٌ اِلى رُسُلِهِ، وَ مُخْتَلِفُونَ بِقَضائِهِ وَ اَمْرِهِ»[35]؛

    إن تصوير نهج فوق الواقع ، استطاع إظهار الحقائق المخفية وراء الستار ، و أن يجلب تلك الحقيقة إلى الذهن من كلام الأمام السابع  بشكل جميل . إن اللوحة الجريئة للهيبة النورانية للملائكة على هيئة بيضاء اللون بأجنحة بيضاء ، هي تصميم استثنائي و فريد في جمال القوام و الحجم و توازن الجسم مع جناحين رائعين الذي تمت إضافته إلى تناسب القوام ، و كما تم عرض صباغ من اللون الأبيض ، حيث استطاع الرسام من خلال الأصبغة اللازوردية و اللون البني المصفر ، و في النهاية إضافات خضراء صغيرة ، صباغ ملونة ، بحيث أن دقة ريشة الأستاذ بالإضافة إلى دقته في الرسم الكريستالي ،يضفي جمالاً على منظر الصورة . كما سعى الرسام إلى التعبير عن قصده و غايته من خلال   الإيحاءات المادية لهذه العناصر ، و دورها في جلب انتباه الجمهور و تأثيرها على العالم المادي.

    إن صياغة تركيب الحركة  الدورانية لهم في العالم الكوني قد أضاف إلى اللوحة نوع من الحركة المذهلة ، و ذلك لأن الرسام تعمد إبراز بيئة في مركز اللوحة ، تمنح تأثيراً من النظرة التركيبية للرسام . بالرغم من أن بعضهم في وضعية السجود و البعض الآخر في وضعية الركوع ، بحيث أن الشيء الذي يظهر في الصورة هو أنهم لم يكلفوا بأمر سوى هذا العمل . و في هذا الصدد ، نرى بعضهم الآخر بجناحين مبسوطين أو منقبضين في حالة صعود و هبوط لمقابلة الأنبياء و تنفيذ الأوامر الإلهية ، مما يضيف جمالاً مضاعفاً على هذا العمل الإبداعي .

    «ثمَّ جَمَعَ سُبْحانَهُ مِنْ حَزْنِ الاَرْضِ وَ سَهْلِها، وَ عَذْبِها وَ سَبْخِها، تُرْبَةً سَنَّها بِالْماءِ حَتّى خَلَصَتْ، وَ لاطَها بِالْبِلَّةِ حَتّى لَزُبَتْ، فَجَبَلَ مِنْها صُورَةً ذاتَ اَحْناء وَ وُصُول، وَ اَعْضاء وَ فُصُول. اَجْمَدها حَتَّى اسْتَمْسَكَتْ، وَ اَصْلَدَها حَتّى صَلْصَلَتْ، لِوَقْت مَعْدُود، وَ اَجَل مَعْلُوم. ثُمَّ نَفَخَ فیها مِنْ رُوحِهِ فَمَثُلَتْ اِنْساناً ذا اَذْهان یجیلُها»[36]؛

    إن الصور الفنية لخلق الإنسان الذي يقوم الملائكة بعجنه من مزيج الماء و الطين، و باستخدام الطين اللزج، يقومون بصب و بنحت الجسد البشري ، كما أنه قام برسم و تصميم انحناءات الجسم الإنساني و تفاصيل الجسم البشري ، في نحت هذا التمثال الجميل حيث منحه مظهر جسد جميل في غاية الدقة و الكمال ، تم تلوينه بلون موحد متجانس و ناعم ، لقد تم استخدام فكر و تصميم فريد من نوعه لا سابق له ، حيث تم إشغال أيدي الملائكة في الصناعة و الصياغة الفنية لذلك الجسد بصبر و فن ، و يقومون بنحت قوام الجسم ، و من القسم الذي يشمل شكله الدائري أجزاء و عناصر ، يصنعون جزء من أجل الرؤية و جزء من أجل السمع و الهمس ، كما قاموا بإظهار أصابعه ، و من أجل إضفاء منظر جيد على عقد و أشكال الأصابع ، تم رسم خطوط بصباغ أخضر على سطح الأصابع  تسمى عروق، مما أضاف على جمال هذا الخلق تناغماً و انسجاماً في هذا الوصف .

    ” في الليلة الماضية رأيت الملائكة في الحانة يجبلون طين الإنسان و يصبونه في القوالب ” [37]

    «وَ اَنْشَأَهُمْ عَلى صُوَر مُخْتَلِفات، وَ اَقْدار مُتَفاوِتات، اُولى اَجْنِحَة تُسَبِّحُ جَلالَ عِزَّتِهِ»[38]؛

    إن الصورة الإبداعية التي تتراءى في الذهن من خلال هذا الكلام ، تشير إلى صورة مركبة تتشكل من مجموعة من  الأجزاء المتغيرة ، التي تزيد الخطوط المنحنية بجمال تام ، و تنقل إلى عقل و عين المشاهد أناقة و نعومة روح الفنان برفقة مشهد إبداعي .

    لوحة اندمجت فيها الألوان الباردة و الدافئة إلى حد كافي ، حيث أن وجودها جنباً إلى جنب بهذا الشكل الجيد يستدعي الإيحاءات الروحية . لقد تم إيجاد تناغمات لونية بيضاء ، التي من خلال دمجها مع الألوان الأخرى تنقل الصفاء و الصدق و النقاء الداخلي للعمل ، لينشأ في مخيلة المشاهد تصور عن أسطورة التسليم و العبودية و الطاعة . من جهة أخرى ، تم رسم و تلوين حالة الأعين و تدلي الأجزاء و الأطراف بكل تواضع ، من أجل إظهار حالة التسبيح الإلهي . إن نظرة الفنان التي تم إسقاطها على لوحة الرسم من خلال خطوطه الدقيقة الناعمة و المعقدة ، تظهر حكاية الطيران في روح و جسد الملائكة . و ذلك لأن الأجنحة الطويلة و الواسعة ، ستجتاز خلال طرفة عين مسافة كبيرة ، و ستكون وسعة الكون تحت أجنحتها العريضة و الواسعة ، قطرات صغيرة و تافهة في العين .

    • التحليل

    نظراً لمساحات الصورة  وحالاتها و ظروفها المكانية ،  فإن الوصف الكلامي له أهمية كبيرة . بما أن أكبر استخدام صوري من قبل الإمام السابع كان بطريقة التعبير عن الموضوع أمام المخاطب ، لذلك يبدو أن جميع الأنماط المرئية تم استنباطها من الشرح المرئي لكلامه ، تمت في مكان و زمان مناسبين .

    إنه يرى أن النمط الواقعي أو الحقيقي أكثر ألفة بالنسبة للروح النقية للإنسان و قد حاول غالباً استعمال هذا النهج في إعداد أعماله ، و في الخطوة الثانية كان يستخدم طريقة الإثارة ، الممزوجة مع روح اللغة العربية و الشروط الزمانية للحروب المتتالية . أنماط الرمزية و العاطفية و في النهاية الفواقعية ” فوق الواقع ” تأتي في المراتب التالية بعد الصور المستنبطة من كلامه .

    الجدول رقم 3ـ1: أساليب التصوير الفني في خطب نهج البلاغة

    إن الصور البيانية المستنتجة من كلام أمير المؤمنين عليه السلام تتعلق بفترة حكومته عليه السلام ونظراً لعددها الكبير يمكننا القول بجرأة أن أمير المؤمنين عليه السلام لجأ إلى مختلف أساليب التصوير الفني في خطب نهج البلاغة لأجل ترسيخ الكلام في روح المخاطب.

    إن استعمال مختلف أساليب التصوير الفني في خطب نهج البلاغة حسب نوع المخاطب و زمن التصوير و تقييم حاجة المخاطبين، فقد كان عليه السلام يسعى لرد الشبهات و إصلاح ما انحرف عن مسيرته الرئيسية. و فضلاً عن فقد حدثت ثلاث معارك كبيرة في عهد أمير المؤمنين عليه السلام بين المسلمين و أغلب الصور البيانية ترتبط بهذه المرحلة.

    ولذلك فإن أساليب الواقعية و الانطباعية ذات استعمال أكبر في هذه الصور البيانية. إن بيان وقائع الحاضر و المستقبل و كل ما يمكن للمخاطب أن يرممه في ذهنه بما في ذلك نظرة أمير المؤمنين عليه السلام، يساعد على إدراك أفضل من قبل المخاطب لهدايته إلى الصراط المستقيم.

    النتيجة

    نستنتج من دراستنا لكلام أمير المؤمنين عليه السلام و الصور البيانية الموجودة فيه أنه عليه السلام لجأ إلى أساليب التصوير الفني و استعملها بشكل جيد لنقل المفاهيم و ترسيخ كلامه؛ و لذلك نشهد أساليب مركبة من الكلام و الصور البيانية التي تشمل المكان والزمان بشكل جيد.

    ورغم أن أغلب هذه الأعمال تعود إلى عهد أمير المؤمنين عليه السلام، لكنه عليه السلام كان يسعى إلى تقديم كلام يشمل هذه الأساليب الفنية المختلفة لتصوير الحقائق و المظاهر العاطفية و تمييزها عن المؤشرات الرمزية و المثيرة إضافة إلى نقل حوادث و وقائع فواقعية ذات نظرة جديدة إلى المخاطب.

    إن دراسة الصور البيانية الموجودة في نهج البلاغة، تشير إلى أن أمير المؤمنين عليه السلام لجأ إلى قدرة التصوير البياني ساعياً لترسيخ كلامه في ذهن المخاطب على المدى الطويل و القصير بما يتناسب مع الجو الموجود في الصورة البيانية بحيث يترك ريشته الماهرة والسحرية ترسم الصورة البيانية المناسبة للموضوع. لقد تمكن أمير المؤمنين عليه السلام بدقة ذهنه من ابتكار صور بيانية مختلفة و صغيرة لكنها مليئة بعالم من المفاهيم و المقاصد، مستفيداً من أساليب التصوير الفني لجعل عالم الخيال قابلاً للتصوير بألوان مختلفة. إن الأعمال المتأثرة بالعوامل الجغرافية حوله و الأحداث التاريخية والمحلية، تحتوي على سوابق ثقافية تلفت نظر المخاطبين حيث نلاحظ من خلال البحث فيها نسبة التأثر بالأساليب الفنية على مسير الهداية و السعادة أو الشقاوة والتعاسة.


    [1] الألوان الباردة (الأزرق، الأخضر، الفيروزي و الفضي) وهي تتمتع بخواص مهدئة. الألوان الساخنة (الأحمر، الوردي، الأصفر، الذهبي و البرتقالي) وهي تشير إلى مشاعر و أحاسيس مختلفة تتراوح بين التفاؤل البحت إلى العنف الشديد. يمكن للألوان المذكورة أن تمنح الإنسان حالات نفسية مختلفة مثل الإثارة أو الغضب. الألوان المركبة (بارد/ساخن) مثل الأرجواني و السوسني و البنفسجي وما شابهها، مهدئة و مثيرة. الألوان المخنثة مثل البني و البيج و الحليبي و الرمادي و الأبيض و الأسود تجعل الإنسان ينتبه إلى سائر الألوان الموجودة إلى جانبها، وبعض الألوان مثل الأسود والبني والبرونزي والذهبي والبيج ألوان ساخنة بينما يعتبر الأبيض والحليبي والفضي والرمادي من الألوان الباردة.

    [2]. سوره الحشر/ 24.

    [3]. الفن من وجهة نظر آية الله خامنئي، طهران، دار الثقافة الإسلامية، 1994م.

    [4] بندتو كروتشه، أكبر فيلسوف إيطالي معاصر من مواليد 1866م إيطاليا.

    [5] رحماني، مهري، مقالة تحليلية على وجهة نظر بندتو كروتشه و الفن الشهودي، مجلة دنياي سخن العدد 82 عام 1998م

    [6] موسوعة الفنون/ روئین باکباز، اصول الفلسفة و المدرسة الواقعية، المجلد 1، الصفحة 81

    [7] نهج البلاغة صبح صالح، الخطبة3.

    [8]. الخطبة 165.

    [9]. الخطبة 165.

    [10] سیدحسیني، رضا، المدارس الأدبية۱. ج. الأول. الطبعة 10. طهران: دار نكاه للنشر، 1992م ، صفحة 163 و 164.

    [11] الخطبة 27.

    [12]. الخطبة115.

    [13] ایتن، جوهانز،رنج ایتن، مترجم، محمد حسین حلیمي، دار جاب و انتشارات، 2015م، الطبعة 14

    [14]. الخطبة202.

    [15]. الخطبة 202

    [16] سیدحسیني، رضا، المدارس الأدبية۱. ج. الأول. الطبعة 10. طهران: دار نكاه للنشر، 1992م ، ج2، صفحة 532 ،531

    [17]. الخطبة3.

    .[18] دعاء الندبة.

    [19]. وَ اِنَّما اَنَا قُطْبُ الرَّحى تَدُورُ عَلَىَّ وَ اَنَا بِمَكانى، فَاِذا فارَقْتُهُ اسْتَحارَ مَدارُها، وَاضْطَرَبَ ثِفالُها. هذا لَعَمْرُ اللّهِ الرَّأْىُ السُّوءُ.

    [20]. الخطبة11.

    [21]. الخطبة 47.

    [22]. الخطبة56.

    [23]. ابراهیم/ 24.

    [24] سید حسیني، رضا؛ المدراس الأدبية، طهران، نكاه، 2005م، الجزء الثاني، ص 712-707-702.

    [25]. الخطبة3.

    [26]. الخطبة13.

    [27]. الخطبة34.

    [28]. الخطبة 66.

    [29]. الخطبة 138.

    [30]. الخطبة192.

    [31]. الخطبة 192.

    [32]. سوره حجر/ 39.

    [33]. محمّد باقر، مجلسي، بحارالانوار، بیروت، مؤسسة الوفاء، 1403، ج 104، ص 38.

    [34]أنوشه, حسن ( مشرف ) , موسوعة الأدب الفارسي ( موسوعة الأدب الفارسي 2 ) , طهران , مؤسسة الطباعة و النشر في وزارة الثقافة و الإرشاد الإسلامي , 1997 , الطبعة الأولى , ص 836

    [35]. الخطبة1.

    [36]. الخطبة 1

    [37]غزليات حافظ الشيرازي

    [38]. ، الخطبة91.

  • المناخ الثقافي ومدى تطوره في ستينيات القرن الماضي – د. علا آغا

    المقدمة :

    المسار التاريخي للأدب والرواية:

    تنوعت موضوعات الفكر والآثار الأدبية ,  بتنوع أصحابها وموضوعات الحياة التي تناولتها , وقد مثل الأدب دوراً مهماً في تعميق فهمنا للحياة , لا لأنه يطلعنا على عالم  الرؤية الخارجي فحسب , بل على العالم الداخلي للفكر والشعور , بالإضافة إلى أنه استجابة فنية لما يخالج النفس من نوازع واهتمامات ,فهو يضع نفسه في خدمة المجتمع , ويأخذ على عاتقه إبراز توجهات العصر , والتعبير عن قيمه , ومبادئه . 

    وقد تأخر ظهور النثر القصصي في الآداب العالمية عن الشعر , لذي سبقه , والرواية كانت آخر الأجناس الأدبية ظهوراً , كما كانت أقلها خضوعاً للقواعد , وأكثرها تحرراً من قيود النقد الأدبي . وكان أول ظهور لها , في الأدب اليوناني في حدود القرن الثاني للميلاد , وكان ذا طابع ملحمي , حافل بالسحر والمغامرات . 

    أما الأدب اللاتيني فقد ظهرت القصة عنده , في نهايات القرن الأول الميلادي , وقد اعتمدت في مضمونها على الهجاء , ووصف العادات والتقاليد , ولم تخل من المغامرات , كما كانت تكشف عن الكثير من أحوال الطبقات الإجتماعية    . 

    ونهضت القصة ذات الطابع الشعبي في أوربا في العصور الوسطى , وتميزت بحكايات الحب , والفروسية , ومنها بدأ التأثر العربي بمجال القصة والحكايات . 

    ونهضت نهضتها الحقيقية في أواخر القرن الثاني عشر , وتطورت موضوعاتها , وأخذت تهتم وبشكل مباشر , بالقضايا الإجتماعية , وتطرح المشكل الشعبية . وبذلك قامت القصة بأخطر دور للأدب في الحضارة الحديثة , عندما وضعت القواعد والأسس , لمجتمع متطور متحدث . 

    ومن أهم المراجع التي رافقتني , 100عام من الرواية النسائية العربية ,وهو للدكتورة بثينة شعبان صادر من دار الآداب بيروت , 1999, له أهمية خاصة , فهو ينقلنا عبر صفحاته 241, إلى أهمية إسهام المرأة العربية في نشوء الرواية , وارتقائها , ومواكبتها للمنعطفات الكبرى في تاريخ المجتمع العربي , فهي تعالج روايات النضال , وموقف المرأة منه , سيما وأنها كانت تخوض حربين في وقت واحد, حرباً ضد الإستعمار إلى جانب الرجل , وحرباًالكبت والقمع التي يفرضها المجتمع على المرأة . 

    النهضة الثقافية عند العرب :

    أدى العرب دوراً قيادياً عظيماً على المستوى العالمي , وتمثل هذا الدور بنهضة كبرى شملت العلوم , والثقافة , والحضارة . وقد مالت شمس هذه النهضة إلى الغروب إبان حكم العثمانيين , اللذين استبدوا بالبلدان العربية , فاستنزفوا خيراتها وشجعوا سياسة التجهيل والتراجع . وانسحب هذا التردي السياسي والإقتصادي على المستويات الأخرى ؛  ومن بينها المستوى الإجتماعي ,

    والأدبي . قال الفيلسوف الفرنسي فولتين لما أدهشه الفساد والتأخر في مصر عندما زارها ” الجهل عام في هذه البلاد ” 1. 

    وبالتالي انحسر دور العرب بعد هذا الركود وبشكل عام وعلى كافة الصعد . وبعد قيام النهضة الغربية الحديثة بهر العرب بمنجزات هذه الحضارة ورضخوا لهيمنتها ,على الرغم من غربتها عنا , وعن أفكارنا, وقيمنا, وديننا , حتى أن  بعضهم أصبح أسيراً لهابأفكارهم وميولهم , وعقائدهم , ” وتبدو ملامح هذه الهيمنة في محاولة الغرب لبسط نفوذه في مختلف المجالات بهدف إدخالنا ـ نحن العرب ـفي منظومته القيمة , وهي محاولات تمتد إلى رغبته في تحطيم مقوماتنا الحضارية , والعقيدية , لتحل محلها المقومات الغربية ” 2.

    هكذا يمكن القول إن هذه المحاولات الإستعمارية , كانت تجري بشكل منظم ومدروس بما يشبه الغزو , لتشل حياتنا السياسي , والإجتماعية , والثقافية , لطمس كل ما هو حضاري في أمتنا , إذ ” تعكس طبيعة اللقاء بين المجتمع العربي المتخلف , والحضارة الغربية وما تركه هذا اللقاء من آثار مادية وروحية , على المجتمع ” 3العربي , الذي بات يعيش مرحلة البحث عن وجهه الحقيقيفي ظل ماضٍ مجيد وحاضر قائم مرفوض , ومستقبل يهدد بالكثير من المآزق الإجتماعية ,والثقافية , والحياتية . 

    وجاءت كارثة العرب في فلسطين , لتطم الشرق العربي من أسسه وقواعده . وقد عكست هذه الكارثة بوضوح , نواحي الضعف الذي كان المجتمع العربي غارقاً فيه, حيث عاش هذا المجتمع سنوات طويلة من الغليان , لكن دونما أية نتيجة . 

    “فقد تعرضت الأنظمة العربية , إلى مواجهات عنيفة مع الشعب وخاصة الكتّاب منهم *, والذين جاءت كتاباتهم صورة واضحة لمشاكل الأمة , وهمومها , في ظل إحتلالات متكررة , وحكومات فاسدة , أثرت تأثيراً في الوضعين السياسي والإجتماعي , وفي الوضع الإقتصادي أيضاً ” 4. 

    وجاءت حرب 1967مع الإسرائيلين , خير زلزال هزّ العالم العربي ولم تكن نتيجة الحرب مجرد هزيمة عسكرية مذلة للعرب , بل كانت انهياراً لأنظمة , ومؤسسات , وأفكاراً , وأيدلوجيات أيضاً ” وأسهمت التناقضات المريرة التي سادت بعد الحرب ,في تمزيق المفكرين والكتّاب العرب , ودفعهم إلى أحد إتجاهين : إما أن يقبلوا بالوضع الراهن , بعد يأسهم في إصلاحه ….أو انهم يكرسون أنفسهم لأعمالهم الإبداعية ,هاربين إلى عوالمهم المنعزلة , بعيداً عن الواقع وقضاياه الملحة ” 5.وكان لهذا المناخ الكئيب , تربة خصبة لجيل من الكتّاب اللذين عبروا عن إحباط , وخيبة أمل , ورفض تام للماضي . أما الكاتبات اللواتي كنّ أقل انخراطاً بشكل مباشر , بما يجري على جبهة الحرب , وأكثر اهتماماً بمضاعفاتها على المستويين

    الإنساني , والإجتماعي ,فكنّ أكثر اهتماماًبهذه المضاعفات , ودرس العوامل التي أدت إليها , ومدى تأثيرها في الظرف الإنساني . 

    فكانت الروائيات يحللن ,وينتقدن الواقع الإجتماعي والسياسي , ويستحضرن رؤيا جديدة , من أجل البقاء السياسي , والإزدهار المستقبلي , للأمة بكاملها . 

    ونجد أن رد الفعل العربي كان ذا وجهين : 

    الأول: خيبة أمل بالحكومات العربية , التي ضللت الجمهور . 

    الثاني : تصميم التغلب على الهزيمة النفسية , والعمل من أجل مستقبل أكثر إشراقاً ….

    وقد أطلق على جميع الأعمال الأدبية التي كتبت عن حرب 1967 اسم “أدب النكسة وتنعكس الروح السياسية الأدبية , التي لم تعترف كلياً بالواقع في أدب هذه الفترة ” 6

    وتظهر روايات الحرب النسوية , والتي طالت وبعمق مصير بلادهن , وشعوبهن , وكذلك جميع التفاصيل البالغة الدقة لمعاركهن الخاصة ضد الظلم , والتمييز , ولم يكنّ أبداً على هامش الحياة الإجتماعية , والسياسية , لا سيما في أكثر الأحداث أهمية في تاريخ الوطن العربي . وتجدر الإشارة إلى أن ” روايات الحرب النسائية تختلف كثيراً عن روايات الحرب التي كتبها الرجال , ويمكن تلخيص الفارق , بأن الرجال يركزون في رواياتهم عن الحرب , على خط الجبهة , وساحة الوغى , باعتبارها مركز الحياة , الذي يحاولون تغطيته , بينما تنسج النساء نسيجاً واسعاً من العلاقات , يلعب فيه حدوث الحرب دوراً أساسياً” 7. 

    وكانت الروايات خير صورة صادقة استطاعت أن تنقل انا الحياة الإجتماعية , والسياسية بكل رؤىء ثاقبة وواضحة *.

    وبالتالي نستطيع القول : أن المشاكل القطرية , التي عاناها الوطن العربي , وطبيعة معالجتها , من قبل الأنظمة العربية كانت وما تزال , هي الأخرى معوقاً رئيسياً من معوقات التقدم العربي .

    والأمة العربية لاتزال حتى الآن تمرّ بمخاض تاريخي طويل , وطريقها إلى التقدم هو عبور هذه المرحلة , حيث العمل الجاد من الخضوع للنظرة السطحية في فهم الواقع الذي تعيشه , قاضيةًعلى الأسباب المباشرة والغير مباشرة على أسباب الهزائم التي منيت بها . 

    وعوامل التردي مهما كان حجمها , أضعف من أن تهزم الفعل الإنساني , الذي تبقى قدرته أساس كل تغيير , فالأمة العربية هي حقيقة تاريخية , لا تحتاج إلى إثبات  , وطريق الأمة إلى النهوض , والإنبعاث هو طريق الوحدة , والققضاء على الفساد السياسي والإجتماعي , والتي تقع جلّ هذه المسؤلية , على المجتمع العلمي والثقافي , فهو وحده القادر على نشل المجتمع العربي من تخلفه , وفوضويته , والعمل الجاد على إعداد القوى البشرية , باعتبارها المدخل

    الرئيسي إلى نجاح كل تنظيم اقتصادي , واحتماعي ,وذلك عن طريق زيادة المعارف , والمهارات , والقدرات , لدى جميع أفراد المجتمع , بقصد تنميتها , ومن الطبيعي أن يأتي التعليم في رأس طريق التطور , والتنمية , فهو المصدر الأساسي , والأداة الأولى لتطور المجتمع , ويقترن العلم وبشكل مباشر بحرية الأفراد , ورفض كل ما يمت بصلة إلى الإستعباد والتخلف . 

    ويمكن أن يضاف إلى هذا : نكبة فلسطين وما خلفته من آثار على جميع المستويات . سعى النهضويون العرب , الغيارى على مستقبل هذه الأمة , إلى إنقاذ القيم الحضارية التي تقوم عليها العلائق في المجتمعات العربية ومواجهة سيل جارف من الثقافات الغربية , القائمة على أسس ومفاهيم حضارية تختلف عما تمتلكه مجتمعاتنا . 

    وقد حاول المثقفون العرب , اللذين حملوا هموم أمتهم , أن يواحهوا هذا المد الغربي , فأنؤا بعض الحركات , والهيئات , والجمعيات , التي نادت بحرية الإنسان , والعودة به إلى قيمه الأصيلة , يدفعهم إلى ذلك شعور بالذات الحضارية , والمسؤلية القومية . ولا يمكن إنكار المأزق الحرج الذي وجد المثقفون أنفسهم فيه . فهم بين طموح مشروع لبناء مستقبل الأمة على أساس حضاري , وبين واقع مؤلم حيث يتفشى الجهل , وتتنامى سلطات الحكام الذين يفتشون عن مصالحهم الضيقة . 

    وأدت الرحلات والترجمات والرحلات العلمية دوراً في انتشارالفكر والفلسفات الغربية في بلادنا , والتي تقوم بمعظمها على إرساء نظرة جديدة إلى الكون والمجتمع والإنسان , آخذة بالحسبان تطور المجتمعات ورقيها على اسس علمية منظمة . ولم تشذ الساحة اللبنانية عن الساحات العربية في مواكبتها لهذه التطورات ؛بل ربما كانت سباقة إليها , وفي أكثر من مجال .وقد يكون ذلك لتأثر اللبنانين المبكر بالفكلر الغربي , كما قد يكون للعلاقات المميزة التي ربطت لبنان بأوربا الغربية منذ قرون . 

    وكانت الفلسفة الوجودية من أهم الإتجاهات الفكرية , والفلسفية التي أثرت في الواقع الفكري والثقافي . وتركت بصماتها على بعض جوانب الأدب العربي عموماً , واللبناني خصوصاً. وربما يكون من الضروري إلقاء نظرة سريعة على التيار الوجودي , وتأثيره في الفكر والثقافة العربية . 

    الوجودية , هي طريقة في التفلسف تنطلق من الإنسان لتبحث في وجوده , وأبعاد هذا الوجود ,ولتهتم بالدور الحقيقي المنوط به في هذا الكون . وهي , وإن ابتعدت قليلاً عن الصور الذهنية المجردة وما هية الاشياء ؛ إلا أنها , كتيار فلسفي يفلسف الذات الإنسانية قي قلقها من حراء هذا الوجود , أكثر من تركيزه على الموضوع , ” فالفيلسوف الوجودي يفكر بانفعال عاطفي , كمثل الذي اندمج كلياً في الوقائع العقلية للوجود ” 8 . 

    ولعل الحربين العالميتين اللتين حدثتا في النصف الأول من القرن الماضي , وما سببتاه من كوارث , وفواجع مثلتا هزيمة كاملة للإنسانية ؛كانت بمثابة المشجع لظهور هذه الفلسفة . وكان للتطور الإقتصادي المتسارع , الذي رافق التطور العلمي ومنجزاته الهائلة أثر مهم في تشييئ

    الإنسان , وإلحاقه بالسلعة التي ينتجها , فصار ” يغذي , ويسلي جيداً ولكنه مع ذلك سلبي , ومن الناحية الإنعالية لا حياة فيه , فبانتصار هذا المجتمع الجديد سوف تختفي الفردية , والحياة الخاصة ” 9. 

    ويعتبر ” كير كيجور ” من أهم المفكرين الوجوديين , وهو” أول فيلسوف أوربي يحمل لقب المفكر الوجودي ” 10. ولا بقل قيمة عنه كل من ” هيدجر “و” سارتر ” و” كامو ” الذين ساهموا في ترسيخ أسس هذه الفلسفة . وهم وإن ناهضوا المفاهيم السطحية في المجالات السياسية , والأدبية , والأخلاقية , والدينية , كما فعل ” كيركيجور “عندما هاجم الأوضاع الكنسية في الدانمارك ” ففي اليوميات التي كتبها في السنوات الأخيرة , رأى المسيحية شيئاً فشيئاً على أنها نبذ للعالم ” 11. لا يقل الفيلسوف الألماني” نيتشه “أهمية في نظراته الوجودية , والتي دعا من خلالها إلى القوة ونبذ الأديان . وقد أطلق لقب العدميين على فريق من الفلاسفة الوجوديين , والتي لاقت أفكارهم , وأرائهم صدىً مقبولاًفي صفوف المثقفين العرب ,بفعل التأثر الفكري والثقافي بالغرب .ووجد التيار الفلسفي الوجودي مناصرين ومؤيدين له على الساحة اللبنانية والمصرية , بشكل خاص . فالوجودية ” تتأرجح في استنتاجاتها السيلسية , بين مناصرة الحركة الإشتراكية , التي جاءت تجربة جديدة مستحدثة , وحاولت بعض البلدان العربية اعتناقها  , وبين مناصرة الليبرالية في ما يتعلق بالحريات الفردية أصيلة في الشرق “12

    ومن هنا فإن المثقف العربي أهتم بكثير من جوانب هذه الفلسفة , . ورأى فيها ما يدعم ثورته على الجهل , وعلى التعصب الديني , الذي وقف عائقاً أمام إنطلاق الإنسان إلى آفاق رحيبة من الحرية , والتقدم , والتطور. ولما كانت الحرية من الثوابت الأساس في التيار الوجودي ؛ كان طبيعياًأن يميل المثقفون العرب إلى الإعتماد على هذا التيار في نضالهم . و لقد رأى المثقفون العرب في الوجودية أساساً لنظرية الرفض الشامل العنيف …لذلك لم يهتموا بأسس المذهب الوجودي كثيراً, بقدر ما تلقوه كدعوة خلقية يجب الإنصياع لها , حيث يمارس الفرد حريته المطلقة ويعبر عن مختلف آرائه , وأفكاره دون قيد يعوقه. ولم تسلم النظرية الفلسفية الوجودية من النقد , خصوصاً في البلاد العربية . ففي مصر تعرضت لهجوم الكتّاب والصحافيين ”  ولكن هذا الهجوم تناول النظرية بسطحية لا تتناسب والروح العلمية في النقد , فأهملت الظروف والأسباب التي أسهمت في تكوينه ” 13.واتخذت الفلسفة الوجودية ملامح واضحة في الحياة الثقافية اللبنانية , بدعوتها إلى تحقيق إنسانية الإنسان من خلال إظهاره ككائن حرّومسؤول عن نفسه , ومصيره , وإزالة كل المعوقات التي تتعارض مع التوجهات الإنسانية ؛ولما فيها من حض على العلم , ومحاربة التخلف , والجهل, والفقر في المجتمع . هذه النظرات التي تنطوي على المساهمة في التغيير الإجتماعي , والسياسي,ساعدت على إظهارهاالترجمات العديدة لكبار مفكري الوجودية كسارتر , وسيمون دي بوفوار , وغيرهما , وتقبلها كثيرون من المثقفين اللبنانين , نظراً لأهميتها . 

    اتسعت الساحة اللبنانية للمذاهب الإشتراكية , والشيوعية على الصعيدين الفكري , والثقافي . ولعل أهمها المذهب الإشتراكي القائم على النظرية الماركسية , ذات الأساس المادي الجدلي . هذه النظرية التي تولي الإنسان عناية فائقة , من خلا وجوده كعضو في جماعة يتكامل بها ويتحقق وجوده من خلالها , وبها “فهي تصوغ الإنسان كله في قالب خاص , من حيث لون تفكيره , ووجهة نظره إلى الحياة , وطريقته العلمية فيها ” 14, وكانت الفلسفة المادية من ركائز النظرية الماركسية , فهي لم تكن من نتاج ماركس وحده , إنها تراكم الفكر البشري منذ قرون مديدة , واتخذ شكل نظرية ” استكملت خطاها على يد هيجل الفيلسوف المثالي المعروف …وجاء كارل ماركس إلى هذا المنطق , وتلك الفلسفة فتبناهما  وحاول تطبيقهما جميع ميادين الحياة ” 15.

    وتعتمد النظرية الماركسية على فهم متكامل لتطور الإنسان , من خلال التاريخ , والصراع الطبقي الذي حكم المجتمعات البشرية منذ نشوئها , وإيلاء المجموعة الأهمية المطلقة , لأنها هي الغاية من النضال السياسي والإجتماعي أينما كان . ولا تعترف هذه النظرية بالمثالية , وتقلل من دور القيم المعنوية , بدءاً من إنكار وجود الخالق , لأنها لا تؤمن بالماورائيات , وهي تسعى إلى ” إفناء الفرد في المجتمع , وجعلها آلة مسخرة لتحقيق الموازين العامة التي يفترضها ” 16. تغلغلت النظرية الشيوعية في أوساط المثقفين , الذين ينتمون إلى الفئات الشعبية بشكل عام . وحاول بعض هؤلاء المثقفين تنظيم الجماهير , صاحبة المصلحة الحقيقية في التغيير , داعين إلى اعتماد العنف , والثورة في مواجهة الطبقات المستفيدة من الأنظمة , وحاولت أيضاً توحيد الفئات التي تجمعها المصالح الموحدة , لمواجهة الظلم , والإستبداد .وقد عجزت هذه الأفكار التحررية عن الوصول إلى غاياتها , وربما لأن الداعين إليها ” لم يضعوا أيديهم على سبب الفساد الحقيقي ليقضوا عليه ” 17؛ أو لأن هناك أسباباًأخرى عميقة ليس هذا مجال الإفاضة فيها . 

    تواجد تيار ثالث في بلادنا في الستينيات من هذا القرن , وهو التيار القومي العربي , والذي يرى “أن الناطقين بالضاد يشكلون أمة , وأن هذه الأمة يجب أن تكون مستقلة , ومتحدة , ولم يتضح هذا التيار , ويكتسب قوة سياسية إلا في القرن الحالي ” 18 . 

    شكل العرب وحدة سياسية في تاريخهم القديم , وكانوا يعتزون بانتمائهم إلى عروبتهم . وتجلى هذا الإعتزاز في الكتابات , والأشعار , التي حفظها لنا التراث العربي . 

    ومع تزايد الشعور القومي منذ مطلع القرن العشرين ,عمل الإستعمار الغربي على رسم الحدود بين لأجزاء الوطن الواحد , وغذى النزعات الإقليمية, سعياً وراء قطع الجذور المشتركة بين أبناء المجتمع العربي وبالتالي تفتيته , وتقسيمه , ونهب خيراته , ” وقف الإستعمار الغربي في وجه التيار القومي , الذي كان يسعى لأن يجمع العرب في كيان سياسي مترابط يصعب خرقه

    “19 ,ويمكن القول إن هذه الأمور قد حسمت على الساحة اللبنانية , والعربية , لصالح نهج نهج قومي عربي , يقول بوجود رابطة بين مجموعة من البشر, و” بأن هذه الرابطة هي من القوة , والأهمية بحيث تفرض على هذه المجموعة تكوين مجتمع سياسي , تتمتع فيه الحكومة بسلطة خلقية بمقدار ما تعبر عن إرادة هذا المجتمع وتخدم مصالحه ” 20, توزعت على الفكر القومي العربي مجموعة من المخاوف , عند الأقليات الدينية , “والتي رأت في القومية العربية خطراً على وجودها “21. 

     وقد أقر ” الميثاق الوطني “في لبنان عام 1943والذي عزز الوحدة الوطنية , ورسم اتجاهاً موحداً بين ” الذين يؤمنون بلبنان مستقل متصل بالغرب , ومعظمهم من المسيحين , بين الذين يؤمنون بأن لبنان على تمتعه بكيان منفصل , إنما هو جزء من العالم العربي ومعظمهم من من المسلمين “22.واستقرت الأمور السياسية بنتيجة هذا الحل .

     بناءعلى ما تقدم , يمكن القول إن تلك الأوضاع الفكرية , والإيدلوجية , قد شكلت أرضية لواقع ثقافي أدبي ,  تميزت به مرحلة الستينات من هذا القرن . وإذا صح القول : إن الأدب مرآة للأوضاع الفكرية , والإجتماعية , والثقافية لبلد ما , فإن الواقع الأدبي اللبناني ـوالروائي ـ تحديداً في مرحلة الستينات , قد حاول وبكثير من الصدق أن يعبر عن هموم المجتمع , ومشكلاته . 

    وإذا أريد للرواية العربية أن تفخر بشيئ , فإنها تفخر بطرحها الوجودي لمأساة الإنسان العربي ومحنته , الغريب في أرضه , المقهور في حياته , والذي تسهم الحكومات ….في سحقه والبطش به , لكن كل هذا العذاب المأساوي , يحمل في داخله , بذور الوعي , والإنبعاث والتجدد ,مطروحة ضمناً في قضية … .

    فالرواية العربية أخذت تتعامل مع القضايا الحيوية بجد , وقد عنيت بشكل خاص في الظرف الإجتماعي , وقد أخذ الروائي ينظر إلى الفرد بصفته إنساناً يحمل الكثير من الهموم , والمشاكل الإجتماعية , والسياسية , التي قد تختلف , مع بقية المجتمعات . ومن هذا الجو العام للرواية العربية ,أخذ  الكاتب على عاتقه تحدي الواقع المزري, والتركيز على الإنسان , بصفته الإنسانية .

    ولعل الأدب النسوي , استطاع أن يكون له جانباً من هذه الرؤية الإجتماعية في تلك المرحلة . 

     وضعية المرأة على ضوء ما هو سائد في المجتمع اللبناني : 

    خضعت المرأة العربية , عبر تاريخها الطويل , لظلمين : أولهما تمثل في ظلم المجتمع لها, عندما جعلها أسيرة عادات وتقاليد بالية , نتيجة الجهل , والفقر الذي عم أرجاء البلد . 

    وثانيهما : ظلم الأسرة المباشر لها , والذي جعلها أداة , وليس فرد له من الحقوق ما له . وقد تعالت الأصوات في البداية ,وبشكل خجول, محاولة إنصافها . ومع مرور الزمن وانتشار

    الوعي والعلم تطورت هذه الدعوات وبشكل مجد, إلا ” أن تطور مكانة المرأة العربية نحو مزيد من التحرر من من القيود الإقتصادية , والإجتماعية , والسياسية , كافة لا يتم بمعزل عن التغيير الشامل , وإزالة أشكال الإستغلال في المجتمع ككل  ” 23 . وعاشت المرأة اللبنانية حالة من الصراع بين المفاهيم الجديدة , التي تأثرت بالظرة الغربية , ودعت إلى التخلي عن كثير من القيم , والعادات الإجتماعية , التي تحد من حرية المرأة , والتي كرستها التقاليد , والنظرة السلفية ؛ وبين رياح التغيير التي هبت وتزايدت . وصارت المرأة موزعة بين القلق, وهاجس التمسك بالعادات القديمة . فهي لازالت في بحث دائم عن مكانتها , ووجودها , ودورها في حركة المجتمع . 

    ونتسائل هنا : هل نجحت هذه الحركات في تقديم الحرية للمرأة بالشكل المطلوب ؟ إن نظرة سريعة إلى واقع الأحزاب السياسية , والتنظيمات المستحدثة , ترى أن موضوع المرأة لم يول الإهتمام الذي يستحق وكانت ” القضايا برمتها موضوعاً ثانوياً ” 24.حيث تميزت بعض هذه الآراء الحزبية بالجرأة والجدة , وهذا ما جعل المرأة تشعر بالقلق , والخوف إزاءها , خصوصاً وأن بعض هذه الأراء لا يتناسب مع واقع المجتمع , وما فيه من قيم وعادات وتقاليد ؛ فهي ذاخرة بالثورة ,والتمرد على الكثير من الجوانب الإجتماعية , والأخلاقية , التي لا تزال موضع التقدير والإحترام عند الكثيرين من المحافظين من أبناء هذا المجتمع .وبالتالي نجد أن الكثير من هذه الأفكار لن تعيش طويلاً , سيما وأنها جاهرت بالعداء لبعض القيم الدينية , التي يتمسك بها الكثر من أبناء هذا المجتمع . 

    والرواية اللبنانية خير صورة حقيقية لهذا المجتمع , لتناولها القضايا وبشكل معمق . فمن غير المناسب لنا أن نتبنى جميع الآراء , والنظريات , التي تفد إلينا من الغرب , لأنها , وإن كانت صالحة وهي تعالج المجتمعات الغربية , فربما لا تتناسب مع واقعنا , ولا تستطيع أن تقدم لنا الحلول الناجعة لجميع المشكلات , التي تعاني منها مجتمعاتنا العربية . والمرأة الغربية قطعت أشواطاً على طريق حريتها , مقابل خسارتها للكثير من إنسانيتها . ” فالمرأة حصلت على حقوق اقتصادية إيجابية , ربما مقابل خسارتها لإنسانيتها سلباً , لدرجة أنها تحولت في العالم المتقدم إلى سلعة تسويقية , وأصبح جسدها اقتصادياً في الإعلان ….” 25. 

    ولا ينكر أحد دور المرأة التربوي في المنزل والأسرة , قبل انخراطها في سوق العمل , لما لهذا الدور من أهمية في تماسك المجتمع وتطوره , وترسيخ القيم الإيجابية فيه . ولهذا ” تصاعدت آراء الحفاظ الأسرة ودور المرأة فيها ,للأهمية المصيرية لهذا الدور, مما يجعل اهتمامها بالمنزل وتربية الأولاد في قمة الإهتمام المجتمعي ,سابقاً الإقتصاد والسياسة ” 26.

    إن أي موقف مسؤول اتجاه قضية المرأة وحريتها , كان لا بد له من أن يأخذ في الحسبان مسألة التوفيق الحقيقي بين واجباتها كزوجة , وأم , ومشاركتها في العمل والإنتاج , بالشكل الذي يتلائم مع وضعها هذا . وقد وقف العديد من المنظمات النسائية العربية في وجه أفكار الغرب

    حول حرية المرأة , ونوع هذه الحرية , وقررت ” أن لا مساواة حقيقية بين الرجل والمرأة في الأقطار , وأن هناك دعوة شرسة لعةدة المرأة إلى المنزل , والتنازل عن حقها في العمل “27 . 

    ومن المعروف أن المرأة بحكم تكوينها الجسدي , لا تستطيع أن تقوم بجميع الأعمال التي يقوم بها الرجل ,خصوصاً تلك التي تتطلب مجهوداً جسدياً . وغني عن القول :إن الأعباء التي يتحملها كل من الرجل والمرأة , تتكامل وتتساند من أجل تطور المجتمع , وتطوره .وإن حرية المرأة , شرط لا بد من توفره كي يماشي تطور المجتمع الحضاري , ذلك أن ” تحرر المرأة ينبع فعلياً من تحرر المجتمع رجالاً , ونساء, ولا يمكن تجزئة الحلول , لـن لا فائدة على على صعيد التطبيق من هذه التجزئة ” 28. 

    وليست القدرة الجسدية هي الفارق الوحيد بين الرجل والمرأة . هناك عوامل أخرى تسهم في تكليف الرجل من الأعباء ما لاتطيق المرأة , كالإستمرارية في التعقل , والإنسجام مع الغريزة يجعلانها دائمة البحث عن الرجل , الذي يساعدها , ويحميها , ويحافظ عليها . 

    وقد برز ذلك في العديد من روايات ذلك العصر , والتي اهتمت بالكثير من الناحية الإجتماعية ,والعلاقة بين الرجل والمرأة , ومدى التوازن بينهما , في ظل ظروف إجتماعية صعبة أوجدتها العادات والتقاليد , والجهل , والفقر, والحروبات القائمة والمفروضة . 

     فقد أسهمت من خلال تعمقها في ميادين الحياة , في المساعدة على دفع عجلة التطور إلى الأمام , من خلال إقبالها على المشاركة في العديد من النواحي الثقافية , والعلمية , والفكرية , حيث سجلت حضورها إلى جانب الرجل . 

    ـ واقع المرأة في المجتمع العربي : يذهب العديد من الباحثين إلى أن ” وضع المرأة هو صورة المجتمع ومقياس رقيه , فبمقدار تحررها , وتطور شخصيتها , يكون تحرر المجتمع  , وتطوره ” 29.

    إن حركة التطور المتصاعدة التي شهدتها المجتمعات البشرية , عززت مكانة المرأة في المجتمع , وقلصت حجم الإستبداد الذي مارسه الرجل عبر مراحل التاريخ السابقة ؛والتطورات الإقتصادية / الإجتماعية قد ساعدت المرأة , إلى حد كبير , في التخفيف من الظلم الذي تعرضت له في السابق . 

    فقد دافعت المرأة , وبقوة , عن حقوقها في المجتمع بوصفها فرداً من أفراده بما عليها من واجبات, وما لها من حقوق . على الرغم من تحملها الكثير من الأعباء , لازالت تعيش تحت سلطة الكثير من القوانين التي يعمل بها , تشوه  , وتفسر بما يضر مصلحتها , والذي قد يكون في الكثير من الأحيان امتهان لكرامتها ” فالمجتمع العربي , أحد المجتمعات النادرة التي ترى فيها سلطة الرجل تامة , وغير منقوصة , في معظم الميادين , رغم الإصلاحات التي أدخلت لصالح النساء منذ عدد من السنين ” 30 . وأمامهذه المشكلة , المزمنة , كان لا بد لها أن تتعلم ,

    كيف تناضل في سبيل حريتها المسلوبة ,أمام الرجل الذي لا يرى حريته إلا في سلب المرأة حقوقها ووجودها , في ظل التخلف والجهل الائد في تلك الحقبة الزمنية . وبالتالي لابد للمرأة أن تختار بين اثنين ” إما أن تغلق بابها عليها , وتنفصل نهائياً عن حركة الحياة والتاريخ …وإما أن تحاول تشكيل حركتها الحياتية بحيث لا تفقد شخصيتها الأصيلة . ” 31

    فحرية الإنسان هي البداية لطريق الخلاص , فالأزمة ليست أزمة حرية المرأة , وإنما أزمة حرية الإنسان رجلاً كان أم إمرأة وذلك ” نتيجة للوضع الطبقي , والإجتماعي الخاطئ, وللإستلاب العام الذي يعاني منه الإنسان العربي , في حريته الإقتصادية , والفكرية , والسياسية “32. وقد دعت بعض الكاتبات إلى الثورة طريقاً للوصول إلى الهدف المنشود . هذه الثورة التي تتسلح بالعلم , والعقل مستوعبة القوانين , والكثير من التعاليم الدينية بقناعة واعية , ومستنيرة بالجوهر الحقيقي للحرية , لا بآلية الرضوخ لها . 

    فقد أدركت أهمية العلم والمعرفة , فأقبلت عليهم بنهم شديد , لتتمكن من الدفاع عن حقوقها وإثبات ذاتها , حيث حققت الكثير من النجاحات الملحوظة . 

    سيما كتابة الروايات , معبرة عن ذاتها ومجتمعها . فجاءت رواياتها متحدثة عن شخصية , أو شخصيات إنتقالية ما بين القديم والحديث , حيث تحمل بين طياتها صورة لإمرأة كتب الشرق والغرب على وجهها ثنائية الهوية الحضارية , وحملت آثار المعركة المتجددة أبداً , مابين التقليد والتجديد , حيث تطلعنا في هذه المعركة ” امرأة أورثتها تناقضات مرحلة الإنتقال ومصاعبها , قلق البحث عن ماهية إنسانية حرة ” 33. 

    هذه المرأة القلقة المضطربة , في رحلة حياتية طويلة , تعيش القلق وهي لازالت تبحث عن إنسانيتها وحريتها , وسط مجتمع لا زال يعيش مناخ العادات , والتقاليد القديمة , والتي لم تعد صالحة لهذا العصر , وسط دعوات كثيرة , تطالبها بالعودة إلى عالمها القديم الخاص بها .  

    حيث تسعى وبعنف بمواجهة قوى التحكم , والظلم لتمثل دورها في الحياة بجدارة , حيث تحصل على بعض المكاسب , مقابل الكثير من الإحباطات والفشل أمام المشكلات والأزمات . 

    إلا أنها أبدعت فناً قصصياً, يتميز بالحساسية في التعبير عن همومها , ومشاكلها , ومشاعرها . جيث استطاعت بما عندها من عمق في الرؤية , عمق ذاتها وتطلعاتها , وأن تغوص إلى أعماق علاقتها بالرجل وبالمجتمع , واستطاعت بصدق أن تصور هموم المرأة , والفتاة العربية , والمشكلات الناجمة عن تطور الحياة الإجتماعية . 

    فقد بحثت الكاتبة العربية في مشكلة المساواة بين الرجل والمرأة , وعلاقة الرجل بالمرأة , ملتفتة إلى المشكلات التي أحدثتها التطورات الحضارية المستجدة , هذه التطورات التي جعلتها تقف إلى جانب الرجل حيناً , وفي مواجهته حيناً آخر . فهي لم تكن بمعزل عن التطورات الإجتماعية , والسياسية , والثقافية , التي اجتاحت البلدان العربية , ـوفي لبنان على وجه

    الخصوص ـ حيث قدمت لنا المرأة في رواياتها بصور عديدة , تندرج تحت عنوان الأسرة  والمجتمع , والعلائق بين الأفراد , فتارة كانت إيجابية بنّاءة , وتارة سلبية متمردة وفوضوية , وجميعهم تحت عنوان البحث عن الذات ,  وسط مجتمع لازال يرزح تحت سلطة التقاليد والتخلف . 

  • حق العودة في القانون الدولي – عصام الحسيني

    عبر التاريخ الإنساني الطويل، كانت النزاعات والصراعات والحروب، من الوقائع التاريخية، وما زالت.

    لقد قامت حضارات في العالم القديم، على أنقاض حضارات أخرى، تستمد شرعية حقوقها من قوتها، ومن حريتها المطلقة غير المقوننة، حضارات تكون فيها الغلبة للقوة، كمعيار لولادة سلطة حاكمة، تلغي كل السلطات الأخرى، أكان ذلك على مستوى الحضارة السابقة، أو على مستوى الجماعة نفسها، أو على مستوى حيزها الجغرافي الخاضع لها، وتعيش خارج إطار المجتمع القانوني. هي سلطة مطلقة، هي سلطة الحقوق الطبيعية اللاقانونية.

    ومع انتقال المجتمعات والحضارات الإنسانية، من حالة الحقوق الطبيعة، إلى حالة الحقوق المقوننة، برز مفهوم الحقوق القانونية الإنسانية المختلفة، والتي عُرفت فيما بعد بال (القانون الدولي العام).

    ومع تطور الفكر الإنساني، ومع تطور الحضارات القائمة، تطور مفهوم الحقوق الفردية والجماعية، للجماعات والمجتمعات الوطنية والدولية، وتم صدرت هذه الحقوق، في مواثيق واتفاقيات ومعاهدات وعهود، كانت الحالة الضامنة لمجتمع أفضل، على المستوى الفردي والجماعي، الوطني والدولي.

    لقد أقرت كل الشرائع الوضعية، حقوق ثابتة لكل المجتمعات الإنسانية، من مدنية وسياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية، وتم صياغتها كحقوق ملزمة للمجتمع الدولي، لا يمكن تجاوزها أو إغفالها أو المس بها، وهي تعرف في القانون الدولي (بالقواعد الآمرة).

    لقد تضمن القانون الدولي لحقوق الإنسان، مجموعة من الاتفاقيات التي ترعى احترام حقوق الإنسان مثل:

    الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، العهد الدولي الخاص بالحقوق الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، وغيرها.

    كما تضمن القانون الدولي الإنساني، مجموعة من الاتفاقيات منها:

    اتفاقيات جنيف الأربعة، والمتعلقة بحماية المدنيين زمن الحرب.

    كما تضمن ميثاق الأمم المتحدة، مجموعة كبيرة من المبادئ العامة، التي تحض على مأسسة الحقوق العامة الإنسانية، ووجوب العمل بها، وحمايتها.

    لقد تحدث ميثاق الأمم المتحدة في الديباجة، عن تأكيد الأيمان بالحقوق الأساسية للإنسان، وبكرامة الفرد وقدره، وبما للرجال والنساء والأمم كبيرها وصغيرها من حقوق متساوية.

    كما تحدث في المادة الأولى الفقرة (1)، عن حفظ السلم والأمن الدولي، وعن قمع أعمال العدوان، وغيرها من وجوه الإخلال بالسلم، وفقا لمبادئ العدل والقانون الدولي،

    وفي الفقرة (2) من نفس المادة، أقر الميثاق بحق الأمم في تقرير مصيرها.

    إن حق تقرير المصير، هو من الحقوق الأساسية للشعوب، وهو يأتي في سياق (القواعد الآمرة) التي يجب احترامها، والعمل بها.

    إن وجود شعب أو أمة تعيش خارج اطارهذا المفهوم، يرتب عملية محاسبة قانونية دولية، على اعتبار انه خالف (قاعدة آمرة) ملزمة.

    وفي مثال عالق في القضايا الدولية، القضية الفلسطينية، وما تحمله هذه القضية،من تداخل لعوامل متعددة، منها الديني والاثني والإنساني والقانوني.

    إن القضية الفلسطينية، تختزن في واقعها، لتراكمات من التجاوزات القانونية بحقها، من الاحتلال، إلى التهجير، إلى الاستيطان، فالتهويد، وخلافا لكل ما نصت عليه حقوق الإنسان.

    لقد قامت المليشيات الصهيونية منذ العام(1947)، باحتلال القرى والمدن الفلسطينية،

    ومارست الإرهاب والتنكيل والقتل الجماعي، ضد الشعب الفلسطيني، مترافقا ذلك مع أكبر عملية تهجير قسري، لمئات الآلاف من الفلسطينيين إلى مناطق مجاورة، لتتشكل مشكلة اللاجئين، والتي تعتبر من أبرز ظواهر قضايا اللاجئين في القرن العشرين.

    لقد فرضت مشكلة اللاجئين نفسها على المجتمع الدولي، مما أجبر بمنظمة الأمم المتحدة، إلى إصدار العديد من القرارات الخاصة باللاجئين الفلسطينيين، وحقهم في العودة إلى ديارهم.

    وكان من أبرز هذه القرارات، القرار رقم (194) الصادر بتاريخ (11 كانون الأول عام 1948)، والذي تحدث في الفقرة في الفقرة (11) عن حق العودة وحق التعويض ” تقرر وجوب السماح بالعودة في أقرب وقت ممكن للاجئين الراغبين في العودة إلى ديارهم والعيش بسلام مع جيرانهم، ووجوب دفع تعويضات عن الممتلكات الذين يقررون عدم العودة إلى ديارهم، وعن كل مفقود أو مصاب بضرر، عندما يكون من الواجب وفقا لمبادئ القانون أن يعوض عن ذلك الفقدان أو الضرر من قبل الحكومات أو السلطات المسؤولة “.

    وإذا كان الهدف الحقيقي من القرار، هو إنشاء لجنة توفيق دولية، تقوم بإجراء الاتصالات مع الأطراف المتصارعة، بهدف التوصل إلى تسوية سلمية، لكنه أكد على حق العودة بشكل قاطع.

    ثم توالت القرارات الدولية، التي تؤكد على حق العودة، ومنها نذكر القرارات التالية:

    القرار الدولي: رقم (394) الصادر عام (1950)، والقرار رقم(494) الصادر عام (1950)، والقرار رقم (513) الصادر عام (1952)، والقرار رقم (2452) الصادر عام(1968)، والقرار رقم(2535) الصادر عام (1969)، والقرار رقم (2963) الصادر عام (1672)، والقرار رقم (3089) الصادر عام (1973)، والقرار رقم (3236) الصادر عام (1974).

    وقرارات مجلس الأمن: رقم(89) الصادر عام(1950)، والقرار رقم (93) الصادر عام (1951)، والقرار رقم (237) الصادر عام (1967).

    وقد اعتبر القانون الدولي، أن قرارات الجمعية العامة، المتكررة بنفس الموضوع، ولمرات متعددة، وبأكثرية موصوفة، تشكل قاعدة عرفية من قواعد القانون الدولي، وهي قرارات لها قوة الزامية، لأنها تعكس راي عام دولي لم يتغير.

    لذلك تعتبر القرارات التي تتناول أحقية حق العودة، الصادرة عن الجمعية العامة، هي بمثابة (قاعدة آمرة) يجب العمل بها، وهي قرارات ملزمة.

    إضافة إلى قرارات الجمعية العامة للأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي، هناك العديد من الإعلانات والمواثيق والعهود الدولية، التي تتحدث عن حق العودة ومنها:

    أ – الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، المعتمد من الجمعية العامة للأمم المتحدة، تاريخ (10) كانون أول، عام (1948):

    حيث ذكر في المادة (13) الفقرة (2) “يحق لكل فرد أن يغادر أية بلاد بما في ذلك بلده كما يحق له العودة اليه”.

    وفي المادة (14) الفقرة (1) ” لكل فرد الحق في أن يلجأ إلى بلاد أخرى أو يحاول الالتجاء اليها هربا من الاضطهاد”.

    وفي المادة (15) الفقرة (2) “لا يجوز حرمان شخص من جنسيته تعسفا أو إنكار حقه في تغيرها”.

    وفي المادة (17) الفقرة (2) ” لا يجوز تجريد أحد من ملكه تعسفا “.

    إن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، قد رسخ حق العودة لكل من يغادر بلاده، طوعا أو هربا، ورسخ حقه في الاحتفاظ بجنسيته وملكه، واي تجاوز لهذه الحقوق، تعتبر خارج إطار الشرعية الدولية.

    ب – اتفاقية جنيف الرابعة، تاريخ (1949):

    والتي تعتبر أحكامها آمرة، لجهة وجوب حماية المدنيين زمن الحرب.

    لقد نصت المادة (49) ” يحظر النقل الجبري الجماعي أو الفردي للأشخاص المحميين أو نفيهم من الأراضي المحتلة إلى أراضي دولة الاحتلال، أو إلى أراضي أي دولة أخرى، محتلة أو غير محتلة، أيا كانت دواعيه”.

    ج – العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، المعتمد من الجمعية العامة للأمم المتحدة، بموجب قرار رقم (2200) الصدر بتاريخ (1966):

    والذي يعتبر ملزما للكيان الصهيوني، لأنه وقع عليه بتاريخ(3\10\1991).

    تنص المادة (12) الفقرة (2)” لكل فرد حرية مغادرة أي بلد، بما في ذلك بلده”.

    وتنص الفقرة (4) من نفس المادة “لا يجوز حرمان أحد، تعسفا، من حق الدخول إلى بلده”.

    إذا ومما تقدم، فان معظم التشريعات الحقوقية الدولية، قد أسست لشرعية حق العودة، وفلسفته كحق يتمتع بالخصائص التالية:

    أولا: هو حق غير قابل للتصرف، وهو من الحقوق الثابتة الراسخة، مثل باقي حقوق الإنسان.

    ثانيا: هو حق ثابت لا ينقضي بمرور الزمن.

    ثالثا: هو حق لا يخضع للمفاوضات أو التنازل.

    رابعا: هو حق لا يسقط أو يعدل أو يتغير مفهومه، في أي معاهدة أو اتفاق سياسي من أي نوع.

    خامسا: لأنه كذلك حق شخصي إضافة إلى كونه جماعي، ولا يسقط أبدا.

    غير أن كل القرارات الدولية الملزمة، التي دعت العدو الصهيوني إلى الاعتراف بحق العودة للفلسطينيين لم يستجاب لها، لثلاثة أسباب:

    الأول: أن العدو الصهيوني وفي تاريخ وجوده، لم يعترف بالقرارات الصادرة عن الأمم المتحدة، إلا بقرارين كان لهما ظروفهما الخاصة، ولم ينفذ منها إلا ما يتناسب مع مصالحه، وهما:

    أ – القرار الدولي رقم (181) تاريخ (1947)، وهو قرار تقسيم فلسطين، والتزام العدو الصهيوني باتفاقية بروتوكول لوزان، القاضية:

    1 – بانسحاب العدو من الأراضي التي احتلها خارج حدود التقسيم.

    2 – استعداد العدو للسماح لأهل فلسطين بالعودة إلى ديارهم.

    لقد تبين بعد ذلك، أن توقيع العدو على بروتوكول لوزان، كان مناورة خادعة لإيهام الدول الأعضاء في الجمعية العامة للأمم المتحدة، بانه سيلتزم بالتسوية التي توصلت اليها لجنة التوفيق الفلسطينية في لوزان، وكان الهدف منها إقناع الجمعية العامة بقبول كيان العدو عضوا في الأمم المتحدة.

    وبعد قبول عضوية كيان العدو في المنظمة الدولية، أعلن أنه لن ينفذ ما تم الاتفاق عليه في لوزان بتاريخ (28\7\1949)، وبعثت وزارة خارجية العدو، بمذكرة رسمية إلى اللجنة الفنية التابعة للجنة التوفيق الفلسطينية تقول فيها ” إن الساعة لا يمكن أن ترجع إلى الوراء، وان عودة أي لاجئ إلى مكان إقامته الأصلية، هو شيء مستحيل “.

    ب – القرار الدولي رقم (425) الصادر بتاريخ (1978)، والذي يقضي بانسحاب العدو من لبنان، والذي نفذه مرغما بعد أكثر من عقدين من الزمن، تحت وقع ضربات المقاومة اللبنانية، وهو لم ينفذ بالكامل لتاريخه.

    الثاني: لأن العدو الصهيوني، عمل على خطة بديلة لعودة اللاجئين الفلسطينيين، وخلافا لما نصت عليه القرارات الدولية، وفي مقدمتها القرار رقم (194) والذي يعتبر مرجعية قانونية أساسية لحق العودة، تقضي بتوطينهم في البلدان التي يعيشون فيها، ومعظمها من البلدان العربية.

    لكن الكيان الصهيوني لم ينجح حتى الأن، بالحصول على قرار دولي، يسمح بالتوطين والالتفاف على حق العودة، والقول ” أنه بعد أكثر من ستين سنة من الالتحاق باللجوء، لا يمكن المطالبة بالعودة.

    لقد تمكن العدو الصهيوني، من زرع فكرة التوطين لدى الكثير من الطبقة السياسية العربية الحاكمة، الملتزمة بمدرسة التسوية، ونظرية السلام، وقونته عبر اتفاقيات ومعاهدات منفردة، ك (معاهدة وادي عربة)، والتي تضمنت في المادة (8) الفقرة (3) دعوة لتوطين اللاجئين:

    ” من خلال تطبيق برامج الأمم المتحدة المتفق عليها، بما في ذلك العمل على توطينهم”.

    وحتى في (اتفاقية أوسلو)، والتي تعتبر بحق (الاغتصاب) الثاني لفلسطين، من خلال الاعتراف بالعدو المغتصب، وشرعية وجوده، نجح العدو في وضع اتفاقية دون طرح موضوع اللاجئين، عبر ترحيل قضايا أساسية إلى الوضع النهائي (القدس، اللاجئين، المستوطنات) البند (5) الفقرة (1و 2 و3).

    الثالث: لان كيان العدو الصهيوني، هو كيان خارج على القانون، بحماية أمريكية، وهو بمثابة محمية عسكرية في الشرق الأوسط، يدير مصالح الغرب الاستعمارية.

    وكيان العدو الصهيوني، هو كيان عسكري له دولة لحمايته، خلافا لكل دول العالم التي تمتلك جيوش لحمايتها.

    لذلك فان الكيان الصهيوني، غير ملزم بتطبيق القرارات الدولية، لعلمه المسبق، بعدم قدرة المجتمع الدولي على محاسبته.

    كل هذه الأسباب الموضوعية، جعلت من العدو الصهيوني، يتفلت من القرارات الدولية، ولا يعترف بحق العودة للاجئين الفلسطينيين، مع ما يملكون من قوة قانونية.

    إن (اتفاقية أوسلو)، إضافة على ما فيها من محرمات، قد فوتت فرصة تكريس حق اللاجئين بالعودة إلى ديارهم، كما فوتت بحث قضية القدس، وكان أجدى بالمفاوض الفلسطيني، أن يلحظها في البند الأول، على اعتبار أن نسبة ما يشكله حجم اللجوء، هو ثلثي عدد الشعب الفلسطيني، وعلى اعتبار أن العدو يسعى إلى الحرب من اجل نيل الاعتراف العربي، وخاصة العربي الفلسطيني صاحب القضية، وهي نقطة كان أجدى بمن اعترف بشرعية الاحتلال، أن يوظف اعترافه بحق العودة، وهو حق أساسي لا يمكن التسامح به أو إغفاله.

    غير أن الشعب الفلسطيني بمعظم شرائحه، في الشتات وفي الوطن السليب، هو شعب مقاوم صابر، لا يتخلى أو يتنازل عن حقوقه المشروعة، ولا يقبل بمشاريع التوطين الصهيونية، ولا يرضى بديلا عن تراب الوطن، أبعد الزمان أم قصر.

    لذلك وبعد (أوسلو)، نشط اللاجئون في التعبير عن أنفسهم، وتأطير مؤسساتهم، الخاصة باللاجئين، والهدف هو الحفاظ على قضية اللاجئين وإبقائها حية في أذهان الأجيال القادمة.

    إن نضال الشعب الفلسطيني، هو نضال الضمير الإنساني، أمام القوة الغاشمة المتفلتة من القانون.

    وتعتبر عملية تهجير الفلسطينيين في القانون الدولي، هي عملية تطهير عرقي، وجريمة حرب، يتحمل العدو الصهيوني مسؤوليتها التاريخية والقانونية والأخلاقية والمادية، كما تتحمل الأمم المتحدة، والغرب الاستعماري، المسؤولية الكاملة عن عدم تنفيذ قرار العودة رقم (194)، الصادر عن المنظمة الدولية.

    كما يتحمل أبطال (أوسلو) المسؤولية الأخلاقية، عن الاغتصاب القانوني لفلسطين، كل فلسطين، وفي مقدمتها قضية حق العودة.

    والمسؤولية الكبيرة يتحملها النظام العربي الرسمي، الذي سارع إلى وضع اتفاقيات مع العدو الصهيوني، متنكرا لقدسية القضية ولأحقيتها، ومتناسيا لجرائم الحرب للعدو.

    إن الشعب الفلسطيني، يملك الكثير من أوراق القوة القانونية، التي تحفظ له حقه القانوني في العودة، وهي مهمة جدا كونها تضع الإطار الواضح للحقوق والواجبات. لكن الحق يحتاج إلى قوة تحميه، وهو ما هو غير متوفر في المدى الزمني المنظور، مما يؤسس إلى مرحلة نضال طويلة الأمد.

    وإذا كانت موازين القوى تميل لمصلحة العدو الصهيوني، إقليميا ودوليا، فان نضال الشعوب يبقى خيارا مفتوحا، ينتقل إلى الأجيال القادمة، وما تحمله من عناصر متغيرة.

    إن الحق يبقى قويا ما دام أصحابه يعتقدون بذلك، وان فترة النضال للشعوب لا تقاس بمدة زمنية محددة، بل بمسيرة متصاعدة، والزمن يكون فيها تفصيل.

    فلسطين حرة، وستبقى حرة، رغم سوط الجلاد، ورغم إرهاب المحتل، ورغم أصحاب النفوس الصغيرة، والعباءات المرتهنة، لأنها ابنة القدس، زهرة المدائن، السجينة.

    حق العودة قادم، مع فلسطين، كل فلسطين، ولو بعد حين.

    المراجع:

    1. الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.
    2. القانون الدولي الإنساني.
    3. إتفاقيات جنيف الأربعة.
    4. القواعد الإنسانية الآمرة.
    5. برتوكول لوزان 1949.
    6. اتفاقية أوسلو.
    7. معاهدة وادي عربة.
    8. ميثاق الأمم المتحدة.

    القرارات الدولية الصادرة عن الجمعية العامة، وعن مجلس الأمن ذات الصلة، ولا سيما القرارات رقم: 194, 394, 494, 513, 2452, 2535, 2963, 3089, 3239, 89, 93, 237, 181

  • صورة الأنا الفلسطينية في رواية «المتشائل» لإميل حبيبي

    • مسعود شكري، د. كبرى روشنفكر، د.خليل برويني، د. فرامرز ميرزايي

    الملخّص

    الصورة الأدبية في أبسط تعاريفها هي مجموعة من الأفکار والمشاعر الّتي تختلج في نفس الأديب بالنسبة إلی شخص أو مجموعة من الأشخاص وهو يحاول تصويرها بواسطة اللغة الأدبيّة، وقد يکون المقصود، الأديب نفسه أو المجموعة الّتي تنتسب إليها ولکن في أغلب الحالات المقصود هو الآخرون، إذن تنقسم الصورة الأدبية بشکل عامّ إلی صورة الأنا والآخر وتتّضح صورة کلّ من الأنا والآخر من خلال دراسة العلاقة الموجودة بينهما والّتي تتبيّن من خلال دراسة النصّ الأدبيّ. وبما أنّ رواية المتشائل كُتبت داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة وتتكوّن خطوطها العريضة من جدلية الأنا الفلسطينية والآخر الإسرائيلي، تُعتبر مجالاً خصباً لدراسات الصورة الأدبية، ومن هنا تمّ اختيارها لدراسة صورة الأنا الفلسطينية من خلال المنهج الوصفي – التحليلي لدراسة النص الروائي. وتشير النتائج إلى أنّ الكاتب قد رسم صوراً متعدّدة للأنا بما فيها الأنا الموالية، والأنا المقاومة، والأنا المتخلفة والأنا المشردة معتمداً علی اللغة الرمزية أحياناً و السخرية أحياناً أخری.

    الکلمات الرئيسة: الصورولوجيا، إميل حبيبي، المتشائل، صورة الأنا.

    1-المقدمة:

    إذا أراد شعب أن يعرف نفسه بشکل جيّد، عليه أن يعرف الشعوب الأخری لتنکشف له نقاط ضعفه وقوّته و علی هذا الأساس يجب علی الشعوب أن يوجد علاقات وسيعة مع الآخرين للمزيد من معرفتهم و بالتّالي المعرفة الأفضل بالنسبة إلی أنفسهم. و يمکن معرفة الآخرين عبر طرق عديدة، و منها دراسة الأدب و الإطّلاع على رؤی النّاس بالنّسبة إليهم وإلی الآخرين، وهذا أساس الدراسات الّتي عرفت باسم دراسات الصورولوجيا([ (أي دراسة الصورة الأدبيّة). فهذه الدراسات تترکّز علی الصورة المتشکّلة للأنا والآخر فی الأدب.

    هذا ويحتوي أدب المقاومة بشكل عام ورواية المقاومة بشكل خاصّ علی مؤشّرات بارزة لجدلية الأنا والآخر بسبب التطرّق إلى علاقة التقابل أو المعاداة بين قوّتين، إضافة إلی وجود رؤی مختلفة بين الطرفين تجاه البعض والإختلاف الفکري الذي يؤدّي إلی ظهور «الأنوات» و«الآخرين» بمختلف أنواعهم. وعلى هذا الأساس «أولت رواية الصراع العربي – الإسرائيلي أهمية كبرى لبناء الشخصية الروائية العربية، وركزت عليها في تطوير الأحداث باعتبارها محوراً بارزاً في النص الروائي، فهي التي تمثل الصراع وتعبر عنه، كما أنها تقوم بالفعل وتشارك فيه، مؤثرة في مساره أو متأثرة به إذا كان خارجاً عنها». (شرشار، 2005: 124) فبالتّالي تجدر رواية المقاومة بالدراسة من زاوية الصورولوجيا والتدقيق في الصور المختلفة للأنا والآخر.

    وتعتبر الشخصية من أهم مكونات العمل السردي لأنها هي الّتي تدير المواقف والأحداث وهناك علاقة وطيدة بينها وبين المكونات الأخرى للرواية بما فيها الزمان والمكان والحوار وتُعدّ مقياساً للحكم على العمل الروائي في أغلب الأحيان، فيتهمّ الباحثون بهذا العنصر بشكل كبير للتحليل الدقيق للنصوص الروائية. وقد اهتمّ أدب المقاومة بشكل عام ورواية الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي بشكل خاص بترسيم الشخصيات الّا أن الهيكل العام لبناء الشخصية لهذا النوع من الرواية يتكوّن من قطبين: شخصية الأنا وشخصية الآخر.

    هذا ومن جانب آخر «فقد أصبح القصّ التقليدي الّذي يقوم على الرؤية الأحادية الجانب غير قادر على استيعاب العلاقات الجديدة، والمتعددة والمتنوعة ومن ثم اختفى دور الراوي العليم بكلّ شيء وارتفع صوت الشخصية لتعبّر عن أفكارها وخواطرها بمنظورها الخاصّ، وبذلك يمكننا أن ننظر إلى هذا التطور بأنّه للتأقلم مع المستجدات الطارئة ولمعالجة أزمة الإنسان المعاصر» (زعرب، 2006: 342) وعلى هذا الأساس قد نشاهد أن هناك بعض الشخصيات لها وظائف متعددة داخل النصوص الروائية، ويمكن القول أنّ شخصية سعيد تندرج ضمن هذه المجموعة من الشخصيات حيث تتراوح وظائفها بين الراوي والبطل السلبي من جانب وبين الأنا الموالية للآخر والأنا المقاومة من جانب آخر إضافة إلى ميزاتها الشخصية مثل السخرية والسفاهة وسِعة الثقافة و …. وإلى جانب هذه الشخصية هناك شخصيات فلسطينية أخرى تقع ضمن دائرة الأنا والّتي سنتطرّق إليها في هذا المقال.

    فتحاول هذه الدراسة التدقيق في ما وراء سطور الرواية للتعرّف علی صورة الأنا الفسطينية الّتي رسمها حبيبي في هذه الرواية لتجيب عن هذه الأسئلة و ما شابهها: ما هي أنواع صورة الأنا الفسطينية في رواية المتشائل؟ وکيف رسم الکاتب صورة الأنا الفسطينية بواسطة اللغة الأدبية؟ وفرضيات البحث هي أنّ الروائي قدّم صور مختلفة للأنا بما فيها المقاومة والموالية وغيرها، وقد استعان بلغة الرمز والايحاء، وابتعد عن اللغة الخطابية المباشرة في رسم صورة الأنا في هذه الرواية.

    2- خلفيّة البحث

    بالرغم من قلّة الدراسات في مجال الصورولوجيا قیاساً بالمناهج النقدية الأخری إلّا أنّ هناك دراسات قيّمة تجدر الإشارة إليها منها کتاب «إشکالية الأنا والآخر (نماذج روائية عربيّة)» لماجدة حمّود. و قد اختارت المؤلّفة في هذا الکتاب ثماني روايات من عدة بلدان عربية و حاولت أن تناقش رؤية «الأنا» العربية ولغتها وموضعها تجاه الآخر وکيفية إيجاد علاقة التفاهم والتعامل مع الآخر في دراسة متأنيّة للروايات. من ميزات الکتاب أنّه يحتوي علی مقدّمة نظرية حول إشکالية الأنا والآخر، وتمتاز دراسة الروايات بتجاوز المستويات الاجتماعية والثقافية والسياسية، و الإهتمام بجماليات اللغة والمکوّنات السردية (العنوان، الفضاء، الاسم، الضمير، الحوار و…).

    و هناک مقال بعنوان «جدليّة الأنا والآخر (رواية المتشائل نموذجاً)» لعيد محمّد الفيومي والّذي يتحدّث الباحث فيه عن القسم التنظيري لقضیة الأنا والآخر بشکل وجیز ويشير إلی أهميّة هذه القضية في واقع فلسطين إشارةً سریعة، کما يشير إلی مکانة رواية «المتشائل» وجوانب التجديد في مضمونها وبنائها. وبعد التطرّق إلی فحوی الرواية، ودلالة العنوان، والشخصيّات، ودلالة الزمان والمکان، یطرح جدلية الأنا والآخر ضمن الأنا الفلسطينية والآخر الإسرائيلي المحتلّ، ونحن نعتقد أنّ جدليّة الأنا والآخر في هذه الرواية قد تشمل الآخر العربي أیضاً کما قد تجعل الأمکنة بوصفها أهمّ محور تنازع بين الفلسطيني والإسرائيلي، ضمن هذه الجدلية. ومن ناحية أخری، یرکّز الدارس في هذا القسم علی المضامين دون التغلغل إلی کنه اللّغة المستعملة وتحليل استخدام المفردات، والتشابيه، والاستعارات، والصفات و … . و من جانب آخر يؤکّد الفيومي علی کيفية تعامل الأنا والآخر بعضها مع بعض أکثر ممّا يؤکّد علی الصورة المرسومة والخصائص الخلقية والفکرية والإنسانية لأيّ منهما علی أساس نصّ الروایة.

    و كتاب «صورة الأنا والآخر فى السرد» لمحمد الداهي يشتمل على ثمانية فصول يختص كلّ فصل بدراسة نص رواية أو سيرة ذاتية من خلال منهج الأنا والآخر. ومن أبرز خصائص هذا الكتاب احتوائه على مقدمة حول الصورولوجيا – وقد استخدم الدارس مصطلح “الصوريات” بدل الصورولوجيا – وتعريفه ويحاول الدارس تقديم منهج لدراسات الأنا والآخر.

    ويحاول كتاب «خصائص الخطاب الأدبي في رواية الصراع العربي – الصهيوني (دراسة تحليلية)» للباحث عبدالقادر شرشار استنباط الصور والتخيلات الّتي تحكم تفكير كتّاب الرواية العربية حول موضوع الصراع العربي – الصهيوني ويهتمّ بمدى تأثير الذاكرة الاجتماعية المتعلقة بالتراث الشعبي أو المحلّي والتراث الاسلامي والواقع المعيش ونمو الفكر الايديولوجي القومي العربي في توجيه النص الروائي العربي في عملية بناء وتصوير الآخر. ولأجل الوصول إلى هذه الأهداف اختار المؤلف عدة نماذج روائية عربية وأجرت دراسته عليها في ثلاثة فصول وخلاصة تنفيذية ومقدمة ومدخل. وقد خصّ الباحث الفصل الأول للكتاب لدراسة خصائص الخطاب الروائي في نص المتشائل اضافة إلى التطرق إليها ضمن الفصلين الآخرين إلى جانب الروايات المختارة الأخرى، ويبدو أنّ سبب اختيار فصل خاصّ لدراسة هذه الرواية هو اعتقاد الباحث بفرادة وتميّز هذه الرواية.

    تتطرّق الکاتبة صبحية عودة زعرب في کتابها الشخصية اليهودية الاسرائيلية فی الخطاب الروائي الفلسطيني (1967-1997) إلی بعض أشهر روايات فلسطينية في الفترة المشار إليها ومنها «المتشائل» لإميل حبيبي. فدَرَست أنواع الشخصية الإسرائيلية في هذه الروايات من الجوانب المتعدّدة مثل الخصائص الجسديّة والفکرية، والتعامل مع الفلسطينيين والقضايا الأخری، کما اهتمّت بالبناء المکاني والزماني، وتقنيّات السرد وتوظيف التراث في الرواية الفلسطينية بشکل عام وفي الروايات المدروسة بشکل خاصّ. وبذلت الکاتبة اهتماماً خاصّاً بأعمال اميل حبيبي ولا سيّما رواية المتشائل، وتری أن الکاتب کان في مرحلة متقدّمة من النضخ في مجال کتابة الرواية کما تعتقد أنّ حياة اميل في ظروف الاحتلال القاسية قد أثّرت علی عمله الروائي وقرّبه من الواقع الفلسطيني إلی درجة کبيرة.

    بالرغم من وجود هذه الدراسات وأمثالها، إنّ الباحث لم يحصل على دراسة مستقلة تدرس صورة الأنا الفلسطينية في رواية المتشائل وبالتّالي يبدو موضوع هذا المقال جديراً بالاهتمام.

    3-الصّورولوجيا

    بعدما توسّعت العلاقات الإنسانيّة وتعرَّف أبناء البلدان المختلفة علی بعضها عن طرق سلميّة کالرّحلات السياحيّة والتجارية أو غير سلميّة مثل الحروب، تشکّلت رؤی عند شعوب بلدٍما تجاه البلدان الأخری وانعکست هذه الرؤی في أدب الشّعوب. و حينما أخذ الأدب المقارن يدرس علاقات الآداب بعضها مع بعض، ظهر فيه فرع من الدراسات باسم «الصورولوجيا» الّذي «يتطرّق إلی صورة الآخر وعناصرها فی الأدب والفنّ. فالصّورولوجيا أسلوب لدراسة صورة البلدان الأخری والشخصيات الأخری في أدب أديبٍ ما أو عصرٍ ما أو مکتبٍ ما، و يهتمّ بصورة الآخر في ثقافة الأنا کما يهتمّ بصورة الأنا في ثقافة الآخر، وبالتّالي نحن نواجه في الصورولوجيا دراسة الصورة بين الثقافات». (نامور مطلق، 1388: 111) إذن السمة الرئيسة للصورولوجيا هي التطرّق إلی اختلاف «الأنا» عن «الآخر» أو اختلاف «هنا» عن «هناک»، وبالتّالي یمکن القول أنّ الصورولوجيا دراسة الإختلاف بين الواقعين في مکانين اثنین (نانکت، 1390: 106) أي واقع «الأنا» الّتي تعيش «هنا» و«الآخر» الّذي يعيش «هناک» ببعده المکاني والثقافي.

    «ليس الصورولوجيا نظريةً أو مدرسة أدبية جديدة و إنّما طريقة لقراءة النّصوص و بعبارة أخری مجموعة من الإرشادات لقراءة صورة «الآخر» فی النّصوص». (نانکت، 1390: 105) يرتبط الصورولوجيا بالعلوم الأخری خاصة علم الاجتماع والتاريخ ارتباطاً وثيقاً لأنّ دراسة الصورة المطروحة فی النصوص تحتاج إلی إدراک الظروف التاريخية والإجتماعية لفترة کتابة النّصوص، (نامور مطلق، 1388: 134-133) کما أنّه يرتبط بالأنواع الأخری للنّقد والنّظريّات – إضافة علی النّقد الأدبي – مثل النّقد النّفسي، والنّقد الاجتماعي، ونقد مابعد الاستعمار ونظريّة التّلقّي. (المصدر نفسه: 123) إذن نحتاج في دراسات الصورولوجيا إلی معلومات عامة عن الظروف الاجتماعية والسياسية والتاريخية لبيئة کتابة النصّ لتساعدنا في الإدراک الصحيح والکشف عن خفايا النصّ.

    هناك علاقة وطيدة بين دراسات الصورولوجيا ومفهوم الصورة ولأجل هذا يجدر التعرّف علی الصورة الأدبية ومغزاها لتبيين وظيفة الصورولوجيا. «يمکننا أن نعدّ الصورة جزءاً من التاريخ بالمعني الواقعي والسياسي، أي جزءاً من الخيال الاجتماعي والفضاء الثقافي أو الإيديولوجي الذي تقع ضمنه، فنتعرّف علی الهوية القومية، کما نتعرّف من خلال نظرتها، علی الآخر الذي يقف في مواجهة الأنا وإلی دور العوامل السياسية والاقتصادية والدينية لهذه المواجهة والعداء». (حمود، 2010: 10) وتأتي أهمية دراسة الصورة من أنّها تعني بمعرفة الصورة الذهنية التي يشکّلها الإنسان عن ذاته وعن الآخرين، لذلک فإنّ أية صورة للآخر هي انعکاس لـ«أنا» سواء أکانت تجسّد اختلافاً (الأنا مقابل الآخر) أم لقاءً (الأنا يشبه الآخر) وبذلک تعدّ الصورة فعلاً ثقافياً، يقدّم تفاعل الأنا مع الآخر أم التعبير عن الذات ونفي الآخر. (حمود، 2011: 107)

    4-إميل حبيبي

    ولد إميل حبيبي في عائلة شيوعية عام 1921م في حيفا بفلسطين وترعرع وعاش هناک حتی وفاته عام 1996م. (يحيی، 2007: 63) بدأ إميل حياته العملية في شرکة تکرير البترول في حيفا، ثم عمل بعد ذلک مذيعاً في إذاعة القدس وبعد الاستقالة من إذاعة القدس، عمل ککاتب فی الصحف السياسية وكتب أول رواياته «سداسية الأيام الستة» عام 1969، وتُعتبر هذه الرواية، الأولی بعد هزيمة حزيران، کما يُعتبر إميل حبيبي ثاني روائي فلسطيني يؤسّس الرواية العربية الفلسطينية المعاصرة بعد غسّان کنفاني. (النابلسي، 1992: 95-93) «دعی إميل فی أعماله الأدبية الفلسطينيين إلی عدم الرحيل من مدنهم وقراهم، علی الرغم من المجازر التی کانت العصابات الصهيونية ترتکبها لحملهم علی الرحيل وسياسة الترحيل الجماعی الذی اعتمدتها الدولة العبرية منذ البداية حتی الآن. و کان التشبّث بالأرض وبالهوية العربية لفلسطين مدار نضاله السياسي ونشاطه الأدبي علی السواء». (حافظ، 1996: 114)

    يُعتبر إميل حبيبي واحداً من ثلاثة أدباء فلسطينيين أقاموا الدنيا ولم يقعدوها وهم غسّان کنفاني ومحمود درويش وإميل حبيبي. (الأسطة، 2008: 44) وتشتمل أعماله القصصية والروائية علی: بوابة مندلباوم (1954)، النورية – قدر الدنيا(1962)، مرثية السلطعون (1967)، سداسية الأيام الستة (1968)، الوقائع الغريبة في حياة سعيد أبي النحس المتشائل (1974)، إخطية (1985)، خرافية سرايا بنت الغول (1991) ونحو عالم بلا أقفاص (1992). تُعتبر رواية «المتشائل» أهمّ أعمال إميل الأدبية واندرجت ضمن قائمة أفضل مئة رواية عربية.

    5-رواية «الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبی النحس المتشائل»

    کتب إميل ثلاث روايات: سداسية الأيام الستة، والوقائع الغريبة في حياة سعيد أبي النحس المتشائل وإخطية.  ولکن روايته الفذّة التي شاع صيتها في آفاق الأدب العربي المعاصر هی « الوقائع الغريبة في إختفاء سعيد أبي النحس المتشائل». نالت الرواية شهرة واسعة و«ترجمت إلی ست عشرة لغة من اللغات الأوروبية و غير الأوروبية» (حافظ، 1996: 115) قد صيغت هذه الرواية بشکل ذکريات کتبها سعيد، الشخصية الرئيسة في الرواية إلی الکاتب، ويسردها الکاتب بشکل حکايات قصيرة في ثلاثة فصول ولکلّ فصل اسم خاص. «لم يسلک إميل حبيبي في هذه الرواية أياً من السبل المطروقة في الرواية العربية أو العالمية، بل أسّس إبداعاً جديداً يقوم علی استلهام التراث الفلسطيني والعربي، وحسن استخدام اللغة، والجرأة فی التعامل معها، والاستعانة بالأمثال والحکايات، ثمّ اللجوء إلی السخرية أو الفکاهة السوداء. وجوهر الرواية هو وصول بطلها «سعيد» إلی حتمية صيغة الفداء والمقاومة المسلّحة». (يحيی، 2007: 64-63) يدلّ عنوان الرواية علی الخطوط العامّة داخل النصّ الروائي حيث يستخدم الکاتب صفة «المتشائل» لشخصيّة سعيد وهي «منحوتة من المتشائم والمتفائل والکاتب يشير في النصّ أنّ صفة المتشائل هي کنية لحقت بعائلة سعيد، فهي ليست وصفاً خاصّاً به، مّما يعمق الدلالة، فسعيد يقف بين حدّين هما التفاؤل والتشاؤم، السعادة والنحاسة، ممّا ينبئ بعالم الرواية الحافل بالإضطرابات والانفعالات المتنوّعة والمختلفة والمندمجة بعضها ببعض لتنعکس علاقة الأنا والآخر. فالکاتب يصف شخصية سعيد منذ البداية ويجسّد الاحساس بهذه الشخصيّة مباشرة قبل الولوج إلی النصّ ويبرز أنّ سعيداً هو مرکز التبئير الحکائي داخل النصّ والّذي تتمحور حوله العلاقة تتجسّد من خلال جدليّة الأنا بالآخر» (الفيّومي، 2011: 870-869) فشخصيّة سعيد الّتي تحمل تناقضات مختلفة وتتراوح بين اليأس والأمل، والخوف والرجاء رمز للأنا الفلسطينية في الرواية وهي في علاقة دائمة مع الآخر الاسرائيلي فی الأراضی المحتلّة. ونظراً إلی أنّ إميل حبيبي کان من سکّان الأراضی المحتلّة وقد عاش في ظروف الاحتلال القاسية، حاول في روايته أن يصوّر کيفيّة احتکاک الفلسطينيين بالاسرائيليين المحتلّين و الصراع الدائر بين الأنا والآخر في وطنه.


  • العلاقات التاريخية بين مصر ولبنان – د. حسان حلاق

    (دراسة مهداة إلى روح الرئيس الراحل جمال عبد الناصر

    بمناسبة مرور مائة عام على ولادته 1918-2018م)

    أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر، في جامعة بيروت العربية، بيروت 2018

    1. العلاقات التاريخية بين مصر ولبنان:

    كانت العلاقات مميزة بين مصر وبلاد الشام منذ فجر التاريخ، لأن بلاد الشام كانت – ولا تزال- مفتاح مصر الشمالي، وأن من يسيطر عليها، يستطيع أن يسيطر على مصر ذاتها وعلى المنطقة برمتها، وأن من يسيطر على بلاد الشام يستطيع وقف الحملات على مصر([.

    أدركت الشعوب القديمة هذه الحقيقة فتوثقت علاقاتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية منذ عهد الفراعنة لا سيما بين فينيقيا ومصر الفرعونية.

    وفي التاريخ الحديث والمعاصر أدرك والي مصر محمد علي باشا أهمية بلاد الشام بالنسبة إلى مصر لا سيما بعد لجوء أعدائه من المماليك إلى فلسطين، بالإضافة إلى عدائه للدولة العثمانية، واستثمار الظروف الدولية التي ساعدت على تنفيذ استراتيجيته حيال بلاد الشام، وقد أشار “كلوت بك” (clot- bey)عام 1840- وهو أحد المسؤلين لدى حكومة محمد علي عن الأسباب الحقيقية لسيطرة محمد علي لبلاد الشام (سوريا) فقال:

    إن ضم سوريا إلى مصر كان ضرورياً لصيانة ممتلكات العزيز. فمنذ تقرر في الأذهان إنشاء دولة مستقلة وجب الاعتراف بأنه لا يمكن إدراك هذه الغاية إلا بضم سوريا إلى مصر. وقد رأينا فعلاً ان شكل البلاد الحربي لا يجعله بمأمن من الغزوات الخارجية خصوصاً على طريق بوغاز السويس، فإذا استثنينا غزوة الفاطميين المغاربة وغزوة الفرنسيين بقيادة بونابارت نجد ان سائر الغزوات جاءت عن طريق سوريا كغزوة قمبيز والاسكندر والفتح الاسلامي وغزوتي الأيوبيين والأتراك، وعليه لا يمكن الاطمئنان إلى بقاء مصر مستقلة إلا بإعطائها الحدود السورية لأن حدودها ليست في السويس بل في طرطوس([.

    بالإضافة إلى أن البلاد السورية فيها أكثر من مليوني نسمة يمكن الاستفادة منهم في التجنيد ودعم الجيش المصري كما ان فيها الخشب والفحم الحجري والنحاس ومعادن كما ان لسوريا موقعاً اقتصادياً واستراتجياً وجغرافياً هاماً([.

    وبالفعل ففي فترة سيطرة محمد علي باشا وابنه إبراهيم باشا على بلاد الشام 1831 -1840 كانت فترة

    مليئة بالتواصل السياسي والعسكري والاقتصادي والاجتماعي والثقافي بين مصر وبلاد الشام ومنها بيروت والمناطق اللبنانية، وقد جرت هجرات متبادلة بين المنطقتين وعمليات واسعة من الزواج المختلط وهناك الكثير من الأسر البيروتية واللبنانية والشامية من أصل مصري، كما أن هناك الكثير من أصل لبناني وشامي. ويكفي الإشارة إلى بعض أسماء العائلات اللبنانية للدلالة على صحة ذلك ولمعرفة أصولها ومنابتها منها الأسر التالية: المصري، الإسكندراني، الدمياطي، الفيومي، الرشيدي، الدسوقي، الصعيدي، الجيزي، التكروري، وسواها.

    كما أن في مصر بعض العائلات اللبنانية والشامية لا تزال تحمل أسماء المناطق التي نزحت منها مثال ذلك أسر: الشامي، الحلبي، الحموي، الطرابلسي، الجبيلي، الطرطوسي، وغيرها من العائلات.

    ولا يزال أهل بيروت ولبنان وبلاد الشام يستخدمون لفظ “مصاري” و”مصريات” للدلالة على النقود المصرية التي كانت متدوالة إبان الحكم المصري وبعده بسنوات عديدة ويستخدم اللفظ اليوم بمعنى المال والنقود([.

    لقد استطاع ابراهيم باشا في فترة إقامته في بيروت ولبنان إحداث تنظيمات عديدة في مجال الحكم والإدارة والاقتصاد والسياسة. غير أن القوى الدولية: الدولة العثمانية، انجلترا، النمسا، روسيا، بروسيا حرصت في تموز (يولية) 1840 على عقد مؤتمر في لندن وإصدار قرارات دولية بضرورة إخراج الحكم المصري من بلاد الشام تخوفاً من إقامة امبراطورية إسلامية قوية تكون بديلاً عن الدولة العثمانية الضعيفة.

    والأمر الملاحظ أنه بعد احتلال الإنجليز لمصر عام 1882 والقضاء على ثورة أحمد عرابي شهدت بيروت نزوحاً كثيفاً من المصريين وزعمائها الوطنين هرباً من الإنجليز، بينما شهدت مصر بالمقابل نزوحاً من بعض سكان جبل لبنان هرباً من العثمانيين واطمئناناً للإنجليز، ومنهم من قام بتاسيس الصحف الأولى في مصر مثل: الاهرام وسواها. ومن بين المصريين المنفيين إلى بيروت وبلاد الشام الشيخ الإمام محمد عبده الذي أقام في بيروت، وأثر تاثيراً فكرياً ودينياً في أهل بيروت حيث درَّس فترة في الجامع العمري الكبير وفي مدارس المقاصد، وأقام علاقات وطيدة مع علماء وعائلات بيروت ومن بين المنفيين ايضاً الشيخ محمد عبد الجواد القاياتي احد قيادات ثورة عرابي، الذي دون مشاهداته في بيروت في كتابه “نفحة البشام في رحلة الشام” ومما قاله عن أهل بيروت:

    “بيروت مدينة اسلامية دينياً وغيرة وحمية، أوروباوية نظاماً وبناءً وحربية، فإنهم مع كثرة مخالطتهم لغير أهل دينهم من وطنين وأجانب في غاية الصلابة والتحفظ على شعائر الدين، ولم يقلدوهم في طول مدة العشرة إلا في مراعاة القوانين والنظمات في المرافعات والمدافعات”.

     ومما قاله الشيخ القاياتي ايضاً في اهل بيروت:

    “ومن الخصال الحميدة في هذه المدينة أنه لا يوجد فيها تجاهر بالمعاصي أَصلاً كشرب خمر وزنى وغير ذلك بالنسبة للطائفة الإسلامية. وأيضاً فالمقاهي الموجودة بها، بل وبغالب مدن الشام لا توجد فيها اشياء من المسكرات أو المخدرات كالحشيش والشيرة والبسط التي عمت بها البلوى في مصر، فذلك مما تغبط عليها أهل بلاد الشام صانها الله مما يشينها وجميع بلاد الشام بجاه النبي عليه الصلاة والسلام”([.

    ونتيجة للعلاقات الطيبة بين مصر وبلاد الشام، فقد ازدادت زيارات المصريين للمنطقة، ومن بين هولاء عبد الرحمن بك سامي الذي قام برحلته الى بيروت والمنطقة عام 1890 “وقد رأيت من الجميع حسن الميل الى المصريين والمحبة لهم وأيقنت أنهم يحسبون أنفسهم مرتبطين وإياهم بعلاقات التابعية واللغة والجيرة والجنسية”. ودونها في كتاب “القول الحق في بيروت ودمشق”.

    ومما قاله عبد الرحمن بك سامي عن موقف البيروتيين والسوريين من المصريين المنفيين من مصر إثر ثورة عرابي: “ومما عددته حسناً لإخواننا السوريين ما بلغني عن ثقة، من أنه لما حدثت الثورة الأخيرة في مصر وهاجر كثيرون إلى بر الشام أفرغوا لهم المحلات وأنزلوهم على الرحب والسعة. وليس ذلك فقط بل أنه لما صدرت الأوامر من الآستانة العلية بطرد بعض المصريين من سورية، التمس الأعيان من دولة الوالي وقتئذ أن يخابر دار السعادة بالعدول عن هذا الأمر، وقال جماعة انهم يكلفون أولئك المطرودين ويتعهدون أنه لا يبدو منهم حركة ولا عذر، وفتحوا لهم صدور المجالس والمحافل واهتموا بأنفسهم، وقد علمت هذا الأمر وتأكدته من الثقات فاحببت ذكره إظهاراً لارتباطنا مع إخواننا السوريين برابطة المحبة والولاء، وان البلادين (البلدين) واحدة كالأخ يلوذ بأخيه وقت الشدائد والضيقات. وزيادة على ذللك أن كثيرين من وجهاء بيروت وأعيانها كانوا يعقدون الجمعيات ويجمعون الأموال ويساعدون بها المحتاجين من ضيوفهم اجزل الله ثوابهم”([.

    ومن الأهمية بمكان القول، أن الأمير محمد علي باشا ( حفيد محمد علي باشا الكبير ) لما زار بلاد الشام وبيروت عام 1908 أشاد بخصال وأخلاق وعلم “البيارته” ومما قاله: “إِن التعليم في مدينة بيروت مما يسر أَنصار العلم وعشاق المعارف ومحبي التقدم والرقي، ولهذا كنت أرى معظم الأهالي يجيدون القراءة والكتابة، وقلما وجدت أهلها ذلك في كل بلاد الشام”([.

    وبالرغم من اشتهار مصر والأزهر الشريف تحديداً استقباله العديد من طلاب العلم من بيروت وبلاد الشام وفي مقدمتهم الشيخ العلامة احمد عباس الأزهري غير أن بيروت شهدت أيضاً قدوم بعض الطلاب المصريين الموسرين للتعلم في الجامعات الأجنبية فيها تحديداً في الكلية السورية الإنجيلية (الجامعة الامريكية) والجامعة اليسوعية. وأشار إلى ذلك الأمير محمد علي باشا الذي استقبل الطلبة المصريين الذين يتعلمون في هاتين الجامعتين، وحثهم على المثابرة وطلب العلم، والقى فيهم خطبة حول العلم والتعليم والعلماء وتبين أن لهولاء التلاميذ المصريين جمعية وقانون تحت إسم “قانون جمعية التلاميذ المصريين في كلية الامريكان”.

    هذا وقد أكد الشيخ أحمد طبارة (1870-1916) في خطبة ألقاها في حفل أقيم على شرف الأمير محمد علي، على العلاقات التاريخية التي تربط مصر ببلاد الشام “ثم أخذ يذكر روابط الوداد وعلائق الاتحاد بين الشعبين المصري والشامي، وأفاض في بيان الأسباب الكثيرة لاتفاقهما وتآخيهما التي ذكر منها أنهما متحدان في اللغة الأصيلة، وأنهما متجاوران، وأن تجارة الشام في مصر من أكثر التجارات وأعظمها رواجاً، وأن كثيراً من أبناء الشام هاجروا إلى مصر واستفادو منها مادياً وأدبياً فوائد جمة. فمنهم من اشتغل بالتجارة ومنهم من استخدم في وظائف الحكومة ومصالحها وغير الحكومة أيضاً، مما لا يسعنا معه سوى الاعتراف بفضل مصر على الشاميين حيث رحبت بهم وفتحت أبوابها في وجوههم، فما زالوا يمرحون في بحبوحة كرمها ونعمتها إلى غير ذلك مما كان صريحاً في اقرارهم بمعروف مصر وفضلها عليهم([.

    وكانت وحدة المصير بين مصر وبلاد الشام تزداد أهميةً وتوثقاً كلما شهدت المنطقة تطورات سياسة وعسكرية، ففي عام 1912 وفي أثناء غزو الإيطاليين لليبيا، توجه وفد من أعيان بيروت إلى مصر لمقابلة الخديوي عباس حلمي باشا، مطالباً بالتنسيق بين مصر وبلاد الشام لتسهيل مرور المتطوعين البيروتيين واللبنانيين والضباط العثمانيين عبر الأراضي المصرية إلى ليبيا للمشاركة في الحرب ضد الإيطاليين، وقد تحقق طلب الوفد.

    وكان نتيجة ذلك ان قام الاسطول الإيطالي بضرب مدينة بيروت قصاصاً من موقف أبنائها، فقتل الأبرياء من السكان، كما قصف الأسطول الإيطالي بعض السفن الراسية في مرفأ بيروت ظناً منه ان هذه السفن تنقل المؤن الى الجيش العثماني في طرابلس الغرب([.

    هذا وتبين الوثائق الدبلوماسية الفرنسية أن الوفد البيروتي الذي سافر إلى مصر والمكون من سليم علي سلام وعبدالله بيهم لم يكن هدفه مقتصراً على مساعدة طرابلس الغرب فحسب، وإنما السعي لإقامة الوحدة بين مصر والبلاد السورية. وقد أرسل “كولوندر” (Coulondre)- وكيل القنصلية الفرنسية في بيروت – تقريراً الى رئيس الوزراءووزير الخارجية الفرنسية في 12 تشرين الثاني (نوفمبر )عام 1912 أشار فيه إلى الأوضاع في البلاد السورية بشكل عام ولبنان بشكل خاص موضحاً أن المسلمين العرب رغم استيائهم من الحكم العثماني غير أنهم لا يزالون يعارضون “حكم الامة المسيحية” المباشر اي حكم الدول الأوروبية أو أعوانها. واضاف “كولوندر” قائلا:

    “فالمسلمون العرب الذين ملوا الخضوع للحكم التركي، ولكن ما زالوا يعارضون حكم الأمة المسيحية المباشر لا بد وأن يتجهوا بكل بساطة نحو مصر أرض الإسلام (Terre de L’Islam)التي يحكمها أمير من عرقهم ودينهم….لهذا السبب فإن فكرة الانضمام إلى بلاد النيل تلقى في سورية أتباعاً كثراً وأنصاراً متحمسين يجهدون في نشر هذه الفكرة التي وإن كانت قديمة لم تكن بعد قد تماسكت فعلياً إلا لسنة خلت”([.

    وتبين الوثائق الدبلوماسية الفرنسية أن وراء مشروع الوحدة بين مصر ولبنان والبلاد السورية كل من سليم علي سلام، عبدالله بيهم، محمد وأحمد كرد علي، سليم ثابت، عزت الجندي، عبد الغني العريسي، رشيد رضا، كما أيد المشروع يومذاك مفتي بيروت الشيخ مصطفى نجا([.

    وهكذا استمرت العلاقات المصرية –البيروتية واللبنانية والشامية تتوطد وتتوثق على مختلف الصعد السياسية والعسكرية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية.

    وبعد سيطرة فرنسا على لبنان وسوريا عام 1918 قامت مصر بدور بارز طيلة فترة السيطرة الفرنسية من أجل حصول البلاد السورية على استقلالها. ومن الأهمية بمكان القول أن أول رئيس للجمهورية اللبنانية في عهد الاستقلال الرئيس بشارة الخوري كان مديناً بوصوله إلى الحكم للقاهرة ولدمشق معاً. فقد عقد في القاهرة في حزيران(يونيه) 1942 اجتماع ضم بشاره الخوري المرشح للرئاسة وجميل مردم بك وزير خارجية سوريا والنحاس باشا رئيس وزراء مصر، ومحمد شرارة باشا وكيل وزارة الخارجية المصرية ومحمد صلاح الدين الأمين العام للخارجية المصرية. وفي هذا الإجتماع أبدى بشارة الخوري للنحاس باشا ولجميل مردم بك استعداده للتعاون مع سوريا والدول العربية وفي مقدمتها مصر. وبعد اطمئنان مصر وسوريا إلى اتجاهاته السياسية وعداه بالدعم. وقد تحقق الوعد فعلاً فكان أول رئيس للجمهورية عام 1943.

    وكان لمصر الدور البارز والأساسي في حل أزمة المرسومين (49) و(50) عام 1943 اللذين أصدرهما الرئيس المؤقت د.ايوب ثابت وزيادة عدد النواب المسيحيين عن عدد النواب المسلمين. فلجأ المسلمون إلى النحاس باشا في شكوى صريحة، وطلبت “الكتلة الإسلامية” الدعم المصري ووقوف مصر إلى جانب المطالب الإسلامية فما كان من النحاس باشا إلا أن أرسل رسالة سرية إلى الجنرال كاترو في 4 تموز (يوليه) 1943 أوضح فيها عدالة المطالب الإسلامية ورفض مصر عدم إقامة التوازن بين اللبنانيين ورفضها للمرسومين (49) و(50) الطائفيين ومما قاله النحاس باشا في رسالته الى كاترو: “ان هؤلاء الزعماء … توجهوا إليَّ لإيجاد حل مرضٍ للقضية التي أثارها القرار الذي ذكرت ويقيني … أنكم تفهمون أنني لا أستطيع الوقوف مكتوف اليدين إزاء نداء الزعماء المسلمين في لبنان، كما أنكم تقدرون ما تركه ذلك النداء من تأثيرفي مصر والبلاد العربية كافة وقد سويت الازمة اللبنانية في تلك الفترة تبعاً لاقتراحات النحاس باشا.

    هذا واستمر التفاهم والتنسيق بين مصر ولبنان وسوريا، ولا سيما في فترة نضال سوريا ولبنان من أجل جلاء القوات الأجنبية عن ارضيهما، وكان التنسيق كاملاً في هيئة الأمم المتحدة إلى أن تم جلاء القوات الأجنبية عن البلدين عام 1946.

    ولما قامت ثورة عام 1952 في مصر كان لها أثر واضح على الأوضاع اللبنانية الداخلية وقررت المعارضة إزاحة الشيخ بشارة الخوري عن الحكم على غرار إزاحة الملك فاروق في مصر. وقد دوّن الرئيس بشارة الخوري في مذكراته “حقائق لبنانية” إثر ثورة تموز (يوليو) على لبنان بقوله: “يقول مثل عامي لبناني” إذا وقعت مأذنة(مئذنة) بمصر خاف من طراطيشها في لبنان”.

    وبالفعل فقد أثرت ثورة عبد الناصر عام 1952 على الأوضاع اللبنانية، وزادت المعارضة تحركاً ونشاطاً ضد الحكم، مما أجبر رئيس الجمهورية على الاستقالة في 18 أيلول (سبتمبر) 1952([.

    وفي عام 1956 وبعد حصول العدوان الثلاثي على مصر من قبل بريطانيا وفرنسا وإسرائيل تداعت القوى اللبنانية لمساعدة مصر مادياً ومعنوياً للاسهام في معركة المصير، وعقد في بيروت في منتصف تشرين الثاني (نوفمبر) عام 1956 مؤتمر لرؤساء وملوك الدول العربية لدعم مصر واتخاذ الاجراءات بنصرتها. وقد قدم رئيس الوزراء يومذاك عبد الله اليافي إلى المؤتمر مشروعاً تضمن وجوب مقاطعة الدول العربية لكل من انجلترا وفرنسا والاستمرار في مقاطعة اسرائيل، غير أن رئيس الجمهورية كميل شمعون وبعض الوزراء رفضوا المشروع، في حين علق الرئيس عبد الله اليافي والوزير صائب سلام بقاءهما في الوزارة على موافقة المجلس على مقاطعة انجلترا وفرنسا، فاذا بالرئيس شمعون يوافق فوراً على استقالتهما. وكان ذللك يعني رفض مشروع دعم مصر في مواجهة العدوان الثلاثي([.

    وبدات مرحلة جديدة بين مصر وبعض الزعامات اللبنانية واشتد هذا التعاون بعد إعلان وقيام الوحدة بين مصر وسوريا في شباط (فبراير) عام 1958 مما مهد لقيام الثورة ضد الرئيس كميل شمعون، ولما تولى الرئاسة اللواء فؤاد شهاب في 23 ايلول (سبتمبر) 1958 تطورت العلاقات الثنائية بين لبنان ومصر بشكل بارز وواضح. ولما وقع الإنفصال بين مصر وسوريا عام 1961 واضطرار الجالية المصرية إلى ترك سوريا، فما كان من أهل بيروت والطريق الجديدة خاصة وجامعة بيروت العربية تحديداً إلا أن استقبلت الوافدين استقبالاً حاراً وأمَّنت لهم المسكن والمأوى، كما جرى تماماً عام 1882 بعد هجرة الإمام محمد عبده وبعض المنفيين المصريين إلى بيروت المحروسة، وقد خرج الكثير من أَهالي الطريق الجديدة من منازلهم لايواء الاخوة المصريين القادمين من سوريا، كما أن البيروتيين لم يدخروا وسعاً في دعم مصر عام 1967 فبعد وقوع النكسة تداعى أهل بيروت ولبنان لجمع المساعدات المالية وتقديمها إلى المجهود الحربي في مصر، وقد تداعى الرجال والنساء والأطفال لتقديم مقتنياتهم الذهبية من حلي وأساور ومشغولات ذهبية قدمت يومذاك للسفارة المصرية في بيروت ولوزارة الدفاع في القاهرة.

    وفي عام 1968 وعلى اثر الازمة السياسية وتفاعل القضية الفلسطينية، ساهمت مصر بقسط وافر في حل المعضلات اللبنانية والعربية إلى وفاة عبد الناصر في 28 ايلول (سبتمبر) عام 1970. وكانت مصر الوسيط الأساسي بين لبنان والمقاومة الفلسطينية ومن ثم عقد اتفاق بينهما عرف باسم “اتفاق القاهرة”.

    وبالرغم من قطع العلاقات السياسية بين الدول العربية ومصر إثر زيارة الرئيس أنور السادات للقدس عام 1977، غير أن مصر استمرت في نشاطاتها الثقافية والتربوية في لبنان والعالم العربي. ولما عادت مصر في أيار(مايو) عام 1989 إلى جامعة الدول العربية نشطت مع سوريا والمملكة العربية السعودية والدول العربية الأخرى لحل الأزمة اللبنانية التي شهدت فعلاً منذ ذلك التاريخ بوادر الحل الذي تجلى باتفاق الطائف الذي عقد بين النواب اللبنانيين في 22 تشرين الاول (اكتوبر) 1989، وكان للرئيس الشهيد رفيق الحريري دور أساسي في التوصل لهذا الاتفاق.

    • العلاقات الثقافية والعلمية بين مصر ولبنان:

    تعتبر العلاقات الثقافية والعلمية والتربوية بين مصر ولبنان علاقات قديمة، وقد توثقت مع سيطرة محمد علي باشا على بلاد الشام. وقد اشتهر عنه إرساله البعثات العلمية إلى فرنسا، وبالتالي فإنه لم يميز بين الشاميين والمصريين، بل أرسل بعض الطلاب السوريين مع البعثات العلمية إلى فرنسا. كما أن مصر استقبلت في معاهدها لا سيما الأزهر الشريف الكثير من الطلاب البيارتة واللبنانيين منذ القرن التاسع وحتى اليوم، وقد خصص لهم مع بقية الطلبة السوريين “الرواق الشامي” من هؤلاء: الشيخ محمد الحوت (1795-1860) والشيخ مصطفى الغلاييني (1885-1944) والشيخ أحمد عباس الأزهري (1853-1927) والشيخ عبد الباسط الأنسي (1867-1940) والشيخ حسن المدور (1862-1914) وسواهم.

    وفي عام 1879 قررت جمعية المقاصد الخيرية الإسلامية في بيروت في عهد رئيسها الثاني حسن محرم بك إرسال خمسة تلاميذ لمدرسة الطب الخديوية في مصر على نفقة الجمعية. وقد اختارت الجمعية يومذاك كلا من التلامذة: كامل قريطم، عبدالرحمن الانسي، سليم سعد الدين سلام، حسن الأسير، محمد سلطاني([.

    وفي عام 1937 قررت جمعية المقاصد الخيرية الإسلامية في بيروت تطوير علاقاتها التربوية مع مصر، فتوجه وفد إلى القاهرة برئاسة رئيس الجمعية عمر الداعوق وعضوية حسن القاضي نائب الرئيس وأنيس الشيخ عضو الجمعية وعبد الله المشنوق مدير ومفتش مدارس الجمعية. وفي القاهرة قابل الوفد الملك فاروق الأول ووضعوه في أجواء أوضاع المسلمين في بيروت ولبنان، مطالبين بالدعم المصري لأعمال الجمعية. وبالفعل فقد ابدى الملك تأييده لخطوة المقاصد، وأوعز إلى وزارة المعارف المصرية التجاوب مع مطالب المسلمين في بيروت. وكان من نتائج هذه الزيارة إبرام اتفاق بين وزارة المعارف المصرية وبين جمعية المقاصد الخيرية الاسلامية نص على تخصيص وزارة المعارف المصرية لكلية المقاصد باستاذين من أصحاب الكفاءة وذلك لتدريس اللغة العربية والأمور الدينية وذلك على نفقة وزارة المعارف، وقبول عشرة طلاب مجاناً في معاهدها العليا، وقبول ست طالبات لاتمام علومهن في دار االمعلمات المصرية، وانتداب وزارة المعارف مفتشة لزيارة مدارس البنات في المقاصد للاطلاع على مناهج التدريس واقتراح ما يلزم من تطوير لها. كما تم الاتفاق مع فضيلة شيخ الازهر الاستاذ محمد مصطفى المراغى على ارسال شيخ من الازهر الى مدارس المقاصد وذلك على نفقة الازهر الشريف. وتم الاتفاق مع فضيلته على قبول بعثة من طلاب جمعية المقاصد في كلية الشريعة الازهرية. وبالفعل ففي عام 1938 ثم ايفاد ثلاث بعثات مقاصدية إلى مختلف الكليات والمعاهد في الجامعات المصرية لا سيما معهد التربية ومعهد دار العلوم وكلية الاداب.

    هذا وقد استمرت بعثات المقاصد إلى المعاهد والجامعات المصرية، ومما كان يشجع على استمرار هذه الخطوة، هو ان وزارة المعارف المصرية كانت قد اعترفت رسمياً بالشهادات المدرسية المقاصدية استناداً إلى اتفاقية عام 1944. واقرت هذا الإعتراف المؤسسات التعليمية المصرية بما فيها الأزهر الشريف، مما حرر المقاصد وطلابها من قيود وهيمنة السلطات التي كانت تتبع سياسة تربوية غبر متوازنة في لبنان. بالإضافة إلى أنه ابتداء من عام 1944 بدات الحكومة المصرية تساهم في مساعدة المقاصد بمبلغ مائة الف ليرة لبنانية سنويا([.

    وبمبادرة من جمعية المقاصد الخيرية الاسلامية في بيروت والأزهر الشريف في مصر، وصل الى بيروت رئيس جامعة الأزهر ا.د.احمد عمر هاشم في تموز (يوليه) 1997، حيث عقد ثلاث اتفاقيات أكاديمية مع جامعات ومعاهد اسلامية على النحو التالي:

    1- اتفاقية مع جامعة بيروت الاسلامية ممثلة بمفتي الجمهورية اللبنانية الدكتور الشيخ محمد رشيد قباني.

    2- اتفاقية مع الجامعة الاسلامية في بيروت ممثلة بالامام محمد مهدي شمس الدين رئيس المجلس الاسلامي الشيعي الاعلى في لبنان .

    3- اتفاقية مع المعهد العالي للدراسات الاسلامية التابع لجمعية المقاصد الخيرية الاسلامية التي كان يراسها الاستاذ تمام سلام.

    وتتضمن هذه الاتفاقيات التعاون الاكاديمي، وإعارات الاساتذة، وتبادل الخبرات والمنشورات، وعقد المؤتمرات المشتركة، وتبادل الرسائل الجامعية، والتعاون فيما يختص المناهج الدراسية….. واستمرت العلاقات العلمية بين مصر ولبنان، فقد حرصت مصر على استمرار تقديم مساعداتها العلمية سواء لجامعة بيروت العربية أو لدار الفتوى في الجمهورية اللبنانية، فقد استمرت جامعة الإسكندرية بارسال خيرة أساتذتها للجامعة، كما استمر الأزهر الشريف بإرسال خيرة علمائه إلى كلية الشريعة في بيروت وإلى مختلف المناطق اللبنانية كأساتذة وعلماء وخطباء. وفي شهر ايلول (سبتمبر) من عام 2008 قدمت جامعة الأزهر خمس عشرة منحة دراسية لطلاب الشرع الشريف في لبنان عبر دار الإفتاء، وذلك للدراسة في مختلف كليات جامعة الازهر على ان يتوزع هؤلاء الطلاب في دراستهم على مراحل الاجازة ومرحلتي الماجستير والدكتوراه. وبذلك قامت مصر بتجديد رسالتها العلمية والثقافية بين مصر ولبنان([.

    • تعاون مصر وجمعية البر والإحسان في تأسيس جامعة بيروت العربية 1960:

    بعد ان تم بناء (مدرسة ) ثانوية البر والإحسان عام 1949، بدأت جمعية البر والإحسان تعمل على وفاء ما ترتب عليها من ديون، وذلك مما راحت تقبضه إيجاراً لمدرستها من الدولة، ومن التبرعات والاشتراكات، واستطاعات بعون الله تعالى وفاء هذه الديون في مدة لم تتجاوز ثلاث سنوات والحمدلله.

    وفي عام 1945 لاحظ أعضاء الجمعية أن أبناء منطقة الطريق الجديدة يتزايدون، وأن عدد المدارس الموجودة فيها ما يزال على حاله، وخشى أن يتشرد هؤلاء الأيتام في الطرقات، كما لاحظوا أن ليس هناك من يفكر في إنشاء مدارس جديدة، فاقترح أحد الأعضاء على الجمعية، وقد أنجزت بنجاح مشروعها الأول، أن تبني مشروع مدرسة جديدة وقال بأن القدر على ما يظهر، يشير إلى جمعيتنا للقيام بهذا العمل الجليل، لكن من أين للجمعية المال لتنفيذه، وقد لا تقل تكاليفه عن نصف مليون ليرة لبنانية، وصندوق الجمعية خاو من المال، والجمعية لم تسترح بعد من عناء المشروع السابق؟ ولا يوجد في صندوق الجمعية سوى (15) ألف ليرة لبنانية، بينما قارب ثمن الأرض المنوي شراؤها (150) ألف ليرة لبنانية.

    وتبين بان مشروع مدرسة البر والإحسان قد ترك للجمعية رصيداً عظيماً من الثقة عند الناس فاذا قامت الجمعية بمشروع جديد فسيكون أيسر تطبيقا من الأول، خصوصاً وأن عضو الجمعية أعد فكرة جميلة لجمع المال بيسر وسهولة وبدون أن يثقل على الناس، بل سوف يقبلون على التبرع بصدر منشرح وقلب مفتوح.ومما أشار إليه مؤرخاً لتلك الفترة قائلاً([:

    “لقد درجنا ودرج غيرنا من الناس على جمع المال من الأغنياء للقيام بالمشاريع، لكن فكرتي تنصب على إشراك جميع طبقات الأمة في التبرع، وتتلخص فيما يلي:

    إن المبلغ المقدر الذي يحتاجه المشروع هو نصف مليون ليرة لبنانية، وهذا المبلغ بطريقة حسابية أخرى يساوي خمسمئة ألف ليرة لبنانية، ومعنى ذلك أننا بحاجة إلى (5000) شخص يدفع كل واحد منهم 100 ليرة فيقوم المشروع، وأعتقد أنه بالإمكان الوصول إلى مثل هذا العدد من الناس بالدعاية الحسنة، والجهد المتواصل، مع العلم أننا لن نطلب من الناس دفع التبرع دفعة واحدة بل نترك للشخص حرية دفعها على أقساط تتلائم مع إمكاناته لأن البناء لن يقوم مرة واحدة بل سيسير تدريجياً، وفي ذلك تشجيع لذوي الدخل المحدود على التبرع([.

    منذ عام 1954 راحت الجمعية تعد العدة وتخطط للعمل فأعلنت عن مشروعها بين الناس بشتى الوسائل: في المساجد وفي المجتمعات والصحف والمنشورات الخاصة، ونفذت فكرة الاكتتاب بمائة ليرة، فاقبل الناس عليها إقبالاً حسناً واكتتبوا بجميع طبقاتهم: سائق سيارة، وصاحب الحانوت، والموظف العادي، ومعلم المدرسة، والتلميذ، والمرأة في بيتها، والتاجر، والملاّك الخ….. وقد شجعهم على ذلك الاقتناع بالمشروع، وثقتهم بالعاملين، وتقسيط الاكتئاب، وقد تخلف عن البذل والعطاء أكثر كبار الأغنياء، الذين هم في شغل عن الخير وأهله.

    وكانت الخطوة الأولى البحث عن الارض الملائمة، وبعد بحث وتفتيش طويلين، وجدت الجمعية ضالتها المنشودة، وهي الأرض التي تقوم عليها جامعة بيروت العربية، فاشترتها من رجل سمح كريم، ولما كان صندوق الجمعية آنذاك لا يوجد فيه سوى (15) ألف ليرة لبنانية، بينما ثمن الارض يقارب (150) ألف ليرة، فقد طلبت الجمعية تقسيط المبلغ إلى أقساط تمتد إلى 18 شهراً، فرفض بادىء ذي بدء، لكن مع الإلحاح والرجاء، وشرح المشروع وأهدافه النبيلة، قبل الرجل إسداء الجميل، ولكنه اشترط لذلك كفالة شخصية من رئيس الجمعية الحاج جميل الرواس، ونائب رئيسها أنذاك الصيدلي إسماعيل الشافعي، وامين صندوقها الحاج راشد حوري، فبكل ثقة واطمئنان أجابوه الى طلبه وقدموا الكفالة الشخصية بطيبة خاطر، ووقعوا السندات الموزعة على 18 شهراً([.

    وخرجوا من لدنه وكلهم عزم وحماس لجمع المبلغ الضخم الذي تعهدوا به حتى لا يتعرضوا للمسؤولية، علماً بأنهم واثقون بأن الله المطلع على نواياهم وإخلاصهم لن يضيعهم وسييسر لهم المال المطلوب، وهذا ما حصل بالفعل فقد جمعت الجمعية ثمن الأرض ودفعته لصاحبه في مدة لم تتجاوز الشهور الثلاثة والحمدلله.

    وما إن تم للجمعية وفاء ثمن الأرض حتى اتصلت الجمعية بأحد كبار المهندسبن وطلبت إليه وضع خرائط للمشروع، وفق مخطط وضعته له، وإذ بالمهندس، وبعد مدة من الزمن، يقدم للجمعية مشروعاً، من الضخامة بمكان، لا يتفق أبداً مع مخطط الجمعية ولا مع ما قدرته له من أموال، وعند الإستفسار عن السبب، أجاب: “بأنكم لن تبنوا كل يوم مدرسة، ورأيت أنه من الأفضل أن تكون مدرستكم عصرية ومتكاملة، وأما المال فلن تعدموا وسيلة لاستدراكه”.

    بحثت الجمعية الموضوع، وقد أعجبت بالخرائط التي وجدتها جملية ورائعة، وعزّ عليها أن ترفضها، فأقرتها مستعينة على تنفيدها بالله القوي العزيز. وبين أعوام 1954- 1960، دامت حركة البناء ست سنوات تجمع الجمعية المال خلالها من الناس وتبني، تارة بقوة عظيمة فيعمل في الورشة مائة عامل أو يزيد، وتارة بضعف فيعمل في الورشة الضخمة هذه عاملان أو ثلاثة، وفي هذا الصدد يقول عمر حوري: “وبينما نحن فيه كان القدر يخطط لشيء لم يكن في بالنا ولا حسباننا كان يسيرنا في أعمالنا في الطريق التي يريد دون أن ندري لانه كان يعد المشروع لأمر مهم كان خفياً علينا وظهر لنا فيما بعد فلقد كان يعده ليكون جامعة تضم عشرات الألوف من الطلاب وليس مدرسة لألف تلميذ”.

    وتم بحث وضع بناء “الكلية” في اجتماعات جمعية البر والإحسان ففي الجلسة (171) من مساء يوم الجمعة في 12 اذار (مارس) 1957 عقد في دار الرئيس جميل الرواس وحضور السادة: خليل الهبري، راشد الحوري، علي الامام، إسماعيل الشافعي، علي العدو، صالح المكوك، عبد الحميد فايد، عمر حوري، الحاج سليم المدهون، وفي هذا الاجتماع “جرى البحث بالإهتمام بتوزيع المنشور الجديد لحض المحسنين الكرام على التبرع لإتمام بناء الكلية الجديدة، بمناسبة قرب شهر رمضان المبارك، فتقرر توزيعه على أبواب الجوامع وعلى المحسنين بواسطة البوسطة”([.

    وفي جلسة الجمعية رقم (172) من مساء يوم الجمعة في 24 أيار (مايو) 1975و عقد اجتماع في دار رئيس الجمعية جميل الرواس وحضور السادة: راشد حوري، اسماعيل الشافعي، عبد الحميد فايد، محيي الدين فايد، عمر حوري، الحاج سليم المدهون، عارف البلعة، وجرى البحث في هذه الجلسة بقضية جمع التبرعات لمتابعة بناء الكلية وحتى لا تتوقف أعمال البناء فأعلن امين الصندوق راشد الحوري “ان الاعمال قائمة والحمدلله بفضل المحسنين الكرام والتبرعات التي تصل إلى العمدة وجميعها مدونة في السجلات الخاصة للكلية المذكورة “([.

    والحقيقة فقد دفعت الحاجة إلى المال الجمعية إلى طرق أبواب الدول العربية تطلب منها العون والمساعدة للمشروع، فماذا كانت النتيجة ؟ حصلت الجمعية من بعضها على مساعدات جزئية ولم يحصل على شيء من الجزء الآخر.

    وكان من جملة الدول التي تم الاتصال بها الشقيقة الكبرى مصر، فارسلت إلى بيروت بعض المسؤولين يستطلعون الخبر، ليفهموا الفكرة والهدف، وليقفوا على حقيقة الأمر، وبعد مقابلات واستفسارات ومداولات مع السفير المصري اللواء عبد الحميد غالب والشيخ فهيم أبو عبيه وقفوا من خلالها على أهداف الجمعية الطيبة ونواياها الحسنة ورغبتها الصادقة في نشر العلم والأخلاق، ورفعوا تقاريرهم إلى دولتهم على رأسها آنذاك المغفور له جمال عبد الناصر (1918-1970) واذا بخير، يتدفق من مصر على المشروع، فقد قررت مصر العزيزة أن تتنباه بكليته وأن تجعل منه جامعة عربية لأبناء لبنان والبلاد العربية المجاورة واستمرت في دعم المشروع علميا وماديا.

    وسافر رئيس الجمعية جميل الرواس ومعه نائب الرئيس إسماعيل الشافعي وأمين الصندوق راشد الحوري عام 1957 إلى مصر، وتشرفوا بلقاء الرئيس جمال عبد الناصر، فقدموا لسيادته شكر الجمعية وشكر لبنان على لفته الكريمة وفضله وعطفه ومحبته بالرغم مما تمر به مصر من مصاعب وأزمات اقتصادية([. فبارك عملهم ودعا لهم بالخير، وخرجوا من لدنه ولسانهم يلهج بالشكر والثناء والدعاء لسيادته ولمصر العزيزة، سائيلين الله أن يوفق مصر ورجالها الأبرار لكل خير وأن ينصرها على أعدائها، وينصر بها العرب والإسلام في كل مكان باذن الله.

    في اجتماع الجمعية بالمغفور له الزعيم الخالد جمال عبد الناصر، استاذنته بأن تطلق على الجامعة اسم جامعة جمال عبد الناصر وفاء وتقديراً له، فابى بإصرار، وقال: “ان عبد الناصر زائل، بينما بيروت والعروبة باقيتان، اطلقوا عليها اسم: جامعة بيروت العربية “.

    وفي 19 تشرين الأول (أكتوبر) عام 1957 وبعد عودة الوفد من القاهرة عقد اجتماع خاص في دار رئيس الجمعية الحاج جميل الرواس وحضور السادة: عبد الحميد فايد، صالح مكوك، علي الامام، راشد حوري، محي الدين فايد، عارف البلعة، خليل الهبري، اسماعيل الشافعي، فؤاد الحصري، وهيب البلعة، عبد القادر فتح الله، عمر حوري، سليم المدهون. وقام نائب الرئيس اسماعيل الشافعي “باعطاء معلومات مفصلة عن رحلة وفد الجمعية الى القاهرة، وما لقيه من ترحيب من المسؤولين في مصر، وما نالوه من وعود كريمة بشأن إنجاز مشروع الجمعية من الناحيتين الإنشائية والتعليمية المقبلة.

    وقد تليت النشرة التي أعدتها الجمعية لنشر نبأ المساعدة المصرية وتعهد الجامعة المقبلة المماثلة في مفاهيمها وطرق دراستها وشهاداتها لأخواتها الجامعات المصرية، فوافق الجميع على الخطة المرسومة فيها وتقرر توزيعها على وجهاء الأمة والمهتمين بهذا الحقل العلمي الشريف”([.

    وبعد عودة الجمعية من مصر، دب النشاط العظيم في لبناء وفي الاعداد والتجهيز، لاستقبال الطلاب، وتم بحمد الله كل ذلك في تشرين الثاني (نوفمبر) 1960، وافتتحت الجامعة بعدد من الطلاب لم يتجاوز عددهم ال (114) طالباً في كلية الأداب و(68) طالبا في كلية الحقوق، ثم أخذ العدد في التصاعد حتى بلغ في العيد العشري للجامعة (16000) طالب.

    لقد باشرت الجامعة عملها في ظل ظروف صعبة للغاية، فعانت من الضغوط السياسية والطائفية في لبنان. وقد أدركت مصر يومها أهداف هذه التحديات الهادفة إلى تحجيم دورها في لبنان والعالم العربي، وبالتالي إلى عزلها ثقافياً والحيلولة دون قيامها بأداء رسالتها العلمية. ونظراً للعلاقات التاريخية التي تربط مصر بلبنان فقد قررت مصر وجمعية البر والاحسان مواجهة التحديات بثبات وعزم، لا سيما حينما طالبت بعض القوى في لبنان باغلاق كلية الحقوق كي تبقى مهنة المحاماة والتعليم العالي حكراً على فئة دون أخرى. وأغرب ما في الأمر أن نقابة المحامين التي كانت تتألف يومذاك من قوى طائفية أعلنت إضرابا مفتوحاً دام تسعة شهور، كما أن الوزير إدوارد حنين استقال من الحكومة من أجل هذا الموضوع محتجاً على فتح كلية للحقوق في جامعة بيروت العربية. وكان مطلب الوزير والنقابة الأول إقفال كلية الحقوق في جامعة بيروت العربية وصولاً إلى إقفال الجامعة بكامل كلياتها الأخرى. وقد فشل الإضراب في حينه بتكاتف القوى الخيرة في لبنان ودعم السياسة المصرية للجامعة.

    هذا، وقد شهدت جامعة بيروت العربية في إطار العلاقات الوطيدة بين مصر ولبنان إِقامة عشر كليات وهي كليات:

    الآداب، الحقوق، التجارة، العمارة، العلوم، الهندسة، الصيدلة، الطب، طب الأسنان، العلوم الصحية، ويتفرع منها أكثر من خمسين اختصاصاً. وفي الوقت الذي كان فيه عدد متخرجي الجامعة عدداً محدوداً عام 1964، فإذا بعدد المتخرجين يقفز في عام 2017 إلى أكثر من مائة وعشرة آلاف متخرج من لبنان والعالم العربي، مما كان لهذه الجامعة أبعد الأثر في تقدم ونهضة لبنان والعالم العربي.

    تحية إلى مصر عبد الناصر، تحية إلى مصر العروبة، تحية إلى مصر الأصالة، تحية إلى الشعب المصري الأصيل الذي أسهمت في بناء جامعة بيروت العربية جنباً إلى جنب مع الشعب اللبناني الأصيل، ومع جمعية البر والإحسان.

  • كلمة العدد – د.هيفاء سليمان الإمام


    وميض من فكرك الخالد –

    من بين الغيوم المتلبدة وبعد مئة عام، ألمح انبثاق وميض من فكرك يشع متحدياً أقبية الجهل وطغيان الغوغاء . مئة عام ولم ينطفئ ذكرك الطيب ولا انمحىسطوع نجم مبادئك المنيرة في سمائنا رغم كبر حجم الردة والتآمر . مئة عام وما زلتفي قلوب الأحرار والشرفاء وميض كرامة وأيقونة عروبة مؤمنة تتدفق في شرايينهم حياة،تدعوهم للبقاء رغم لهيب النار في أيديهم القابضة على الجمر وعلى الزناد. نعم لقدحضرت بعد مئة عام في صوت عهد التميمي الصارخ بالحق في وجه أعداء الله والإنسان،الرافض للذل والهوان، نعم لقد حضرت فوق رأس الطفل الشهيد محمد الدرة لتقول للعالملا لن تقتلوا إرادة شعب احترف الكرامة والعزة والعنفوان . نعم بعد مئة عام يا جمالعبد الناصر حضرت لاءاتك تدوي وتتحدى كل اشكال التسويات والخيانات والتطبيع، بعدمئة عام أراك تضحك في الجنوب وفي الشمال وعلى الجرود بين أبنائك الأبطال الذينأمنوا بما أمنت ، وحملوا السلاح كما حملت ، واستعادوا وما زالوا يصرون على استعادةما أخذ بالقوة بكل ما استطاعوا من قوة ، وقدموا ولم يترددوا يوماً كل التضحيات.بعد مئة عام خرج من بين الصفوف العربية من يعيد لنا الحرية ويرفع رأسنا عالياًويؤكد بوعده وعهده أن زمن الاستعباد قد ولى، وزمن الهزائم انقرض، وزمن الإنتصاراتآت آت . نعم إنهم الأبطال الرجال الذين أخجلوا القهر والموت ببسالتهم، وفرضوا علىالعدو خياراتهم دون قيد أو شرط، ولم يتطلعوا إلى كسب مودة الرأي العام، ولم ولنيترددوا أمام قرارات المجتمع الدولي وقوانينه المهينة المنحازة، بل فرضوا شروطهمعلى العالم وأخضعوه لإرادتهم المؤمنة. والآن اطمئن في عليائك واهنأ واستقر فمثلكيستحق السعادة ومثلك يستحق الوعد والعهد والوفاء . أبا خالد : ” ” إنالمقاومة وجدت لتبقى ولسوف تبقى ” ، هذا ما قلته لنا في يوم من أيام العزةوالشموخ والإباء العربي ، وهذا ما نحيا لأجله ولا نموت إلا عليه ، كيف لا وأنتالذي خاطبتنا بقولك : إن ثمن الكرامة والحرية فادح ولكن ثمن الذل والاستسلام أفدح” . سنحمي إرثك الكبير بأهداب العيون ونحفظ حبك لفلسطين في شغاف القلوب والعقول، فلا يمكن أن نقبل اليأس أو ندعو إليه بل إننا سنزرع الآمال في النفوس لكي تبقىشجرة العروبة المطعمة بتعاليم الإسلام الحنيف خضراء معطاء وارفة الظلال بهيةالجمال .. ولن ننساك يا جمال لأن في نسيانك خيانة لآلاف الشهداء الذين ضحوا بأغلىما لديهم لتبقى جذوة ثورتنا الإنسانية متقدة ” تضيء دروب الأحرار الرافضينللعدوان ، ولأنك كنت أمامنا الأمل والأمل لا يموت . كل عام وأنت بخير أيها الراحلالباقي والغائب الحاضر .. كل عام ونهجك العربي النهضوي التحرري الوحدوي نبراس يشعفي غياهب الظلمات .. كل عام وصوتك العربي الأصيل يصدح في كل جبل و واد ويرجمبالجمرات ألشياطين وأعوان الشياطين . والمجد والخلود للشهداء في أمتك وللأحرارالشرفاء الذين يسلكون الوعر ويدوسون بأقدامهم أشواك الطريق وما بدلوا تبديلا .

  • الإفتتاحية – بقلم الدكتور علي زيتون

    وميض الفكر مجلّة إسمها يحمل برنامجها –

    كانت مجلّتنا تعرف ما تريد، حين اختارت لنفسها اسم ” وميض الفكر”. أرادت أن تبعد عن عالمها العفويّة والارتجال. فالوميض إشارة إلى التخلّق، والتخلّق إرهاصات ما قبل التشكّل والولادة. إستقت هذه المجلّة اسمها من الهمّ الثقافي الذي يشغل بال مؤسّسيها، ويحدّد مجمل سلوكهم وتوجّهاتهم. يعني أنّها ستكون مجافية للعاديّ والشائع، منافية لما يكون بلا طعم ولا لون ولا رائحة. الثقافة عندها عمق وطنيّ قوميّ إنسانيّ. إنّها انتظارات للولادات الجديدة داخل ذلك الحقل.

    وإذا كانت ظروف القائمين عليها لا تسمح بقيامهم بدراسات تستطلع مسار الثقافة العالميّة الحاليّة وما يمكن أن تتمخّض عنه، والتي تتطلّب مؤسّسات أكاديميّة متخصّصة لا قبل لهم بها ، إلّا أنّهم لن يرضوا لمجلّتهم أن تكون رقما يُضاف إلى المجلّات التي لا تحمل همّا أبعد من الشهرة، وأوسع من عمليّة استقطابٍ خلّفتها لهم مرحلة حزبيّة عتيقة لم تعد تسمن ولا تغني.

    ومجلّة ” وميض الفكر” لن تضع لنفسها أهدافا تعجز عن تحقيقها. إنّها تعتزّ بالنخبة الثقافيّة المميّزة التي أخذت على عاتقها أمر تقويم الأبحاث التي ترد إليها. وهي نخبة منتقاة من مفكّرين ينتمون إلى مختلف الحقول المعرفيّة القائمة. فهم القادرون على إعطاء هذه المجلّة غناها وتأمين حقوق اسمها ؛ لأنّهم ممّن وضعوا أصابعهم على جروح الثقافة ، وعرفوا كيف يداوونها. ولذلك ، فإنّنا بفعل هذه النخبة سنجعل من أهداف مجلّتنا أهدافا سامقة من جهة ، وقابلة للتحقّق من جهة ثانية .

    ويعني ذلك أنّ بابها مشرع للمبدعين وحدهم، أولئك الذين اتخذوا من امتلاك ثقافة العصر هدفا محوريّا لهم، ووضعوا نصب أعينهم أن يطرحوا على تلك الثقافة من الأسئلة ما يحرجها. وهؤلاء، وعندما يتجهون إلى القمم التي يبغون ارتيادها، معروفون بطول قاماتهم التعلّميّة تعرفهم نخبة المجلّة المحكّمة من سيماهم، فتشرع لهم أبواب المجلّة.

    ولئن أرادت” وميض الفكر” أن يكون لها برنامج ، فإنّها تعلنه من دون أن تخشى أن ينافسها فيه المنافسون. وهي إذ تعلنه فمن أجل تلك المنافسة المطلوبة. والبرنامج بسيط من حيث الإعداد له، عميق الغور من حيث مراميه .

    1_ ندوة نصف سنويّة تكون أبحاثها مادّة لأحد محاور المجلّة. وموضوع الندوة نتاج للمرحلة الزمنيّة التي تتحيّز فيها، يطرح همومها ويجيب عن أسئلتها الملحّة.

    2_ متابعة ما تصدره دور النشر من جديد، إلى أيّ حقل معرفيّ انتمى هذا الجديد. يوضع بين يديْ مختصّ خبير يرى فيه رأيه، ويبرز ما جاء به من جديد؛ لكي يصبح علامة على الطريق تهدي الباحثين إلى ما يجب أن يتجاوزوه .

    3_ إقامة لقاءات أدبيّة، شعرا ونثرا،لجيل الشباب الذين عُرِفوا بأنّهم ممّن يسيرون على الدرب الصعب ، ونشرما سمق من إبداعاتهم .

    4_ إقامة محاور ذات عناوين معبّرة عن هموم هذا الحقل المعرفي أو ذاك، تُنشر فيها الأبحاث المقدّمة ، والتي نالت موافقة لجنة التحكيم .

    هذا ما تتطلّع إليه مجلّتنا تضعها بين يديْ قرّائها لتكون مادّة للمحاسبة والمحاورة.

    إنّها هموم متعبة، ولكنّها ليست معجزة . كيف لا، وهي مسوّغ وجود هذه المجلّة، مجلّة” وميض الفكر”؟ 

زر الذهاب إلى الأعلى