المناخ الثقافي ومدى تطوره في ستينيات القرن الماضي – د. علا آغا

المقدمة :

المسار التاريخي للأدب والرواية:

تنوعت موضوعات الفكر والآثار الأدبية ,  بتنوع أصحابها وموضوعات الحياة التي تناولتها , وقد مثل الأدب دوراً مهماً في تعميق فهمنا للحياة , لا لأنه يطلعنا على عالم  الرؤية الخارجي فحسب , بل على العالم الداخلي للفكر والشعور , بالإضافة إلى أنه استجابة فنية لما يخالج النفس من نوازع واهتمامات ,فهو يضع نفسه في خدمة المجتمع , ويأخذ على عاتقه إبراز توجهات العصر , والتعبير عن قيمه , ومبادئه . 

وقد تأخر ظهور النثر القصصي في الآداب العالمية عن الشعر , لذي سبقه , والرواية كانت آخر الأجناس الأدبية ظهوراً , كما كانت أقلها خضوعاً للقواعد , وأكثرها تحرراً من قيود النقد الأدبي . وكان أول ظهور لها , في الأدب اليوناني في حدود القرن الثاني للميلاد , وكان ذا طابع ملحمي , حافل بالسحر والمغامرات . 

أما الأدب اللاتيني فقد ظهرت القصة عنده , في نهايات القرن الأول الميلادي , وقد اعتمدت في مضمونها على الهجاء , ووصف العادات والتقاليد , ولم تخل من المغامرات , كما كانت تكشف عن الكثير من أحوال الطبقات الإجتماعية    . 

ونهضت القصة ذات الطابع الشعبي في أوربا في العصور الوسطى , وتميزت بحكايات الحب , والفروسية , ومنها بدأ التأثر العربي بمجال القصة والحكايات . 

ونهضت نهضتها الحقيقية في أواخر القرن الثاني عشر , وتطورت موضوعاتها , وأخذت تهتم وبشكل مباشر , بالقضايا الإجتماعية , وتطرح المشكل الشعبية . وبذلك قامت القصة بأخطر دور للأدب في الحضارة الحديثة , عندما وضعت القواعد والأسس , لمجتمع متطور متحدث . 

ومن أهم المراجع التي رافقتني , 100عام من الرواية النسائية العربية ,وهو للدكتورة بثينة شعبان صادر من دار الآداب بيروت , 1999, له أهمية خاصة , فهو ينقلنا عبر صفحاته 241, إلى أهمية إسهام المرأة العربية في نشوء الرواية , وارتقائها , ومواكبتها للمنعطفات الكبرى في تاريخ المجتمع العربي , فهي تعالج روايات النضال , وموقف المرأة منه , سيما وأنها كانت تخوض حربين في وقت واحد, حرباً ضد الإستعمار إلى جانب الرجل , وحرباًالكبت والقمع التي يفرضها المجتمع على المرأة . 

النهضة الثقافية عند العرب :

أدى العرب دوراً قيادياً عظيماً على المستوى العالمي , وتمثل هذا الدور بنهضة كبرى شملت العلوم , والثقافة , والحضارة . وقد مالت شمس هذه النهضة إلى الغروب إبان حكم العثمانيين , اللذين استبدوا بالبلدان العربية , فاستنزفوا خيراتها وشجعوا سياسة التجهيل والتراجع . وانسحب هذا التردي السياسي والإقتصادي على المستويات الأخرى ؛  ومن بينها المستوى الإجتماعي ,

والأدبي . قال الفيلسوف الفرنسي فولتين لما أدهشه الفساد والتأخر في مصر عندما زارها ” الجهل عام في هذه البلاد ” 1. 

وبالتالي انحسر دور العرب بعد هذا الركود وبشكل عام وعلى كافة الصعد . وبعد قيام النهضة الغربية الحديثة بهر العرب بمنجزات هذه الحضارة ورضخوا لهيمنتها ,على الرغم من غربتها عنا , وعن أفكارنا, وقيمنا, وديننا , حتى أن  بعضهم أصبح أسيراً لهابأفكارهم وميولهم , وعقائدهم , ” وتبدو ملامح هذه الهيمنة في محاولة الغرب لبسط نفوذه في مختلف المجالات بهدف إدخالنا ـ نحن العرب ـفي منظومته القيمة , وهي محاولات تمتد إلى رغبته في تحطيم مقوماتنا الحضارية , والعقيدية , لتحل محلها المقومات الغربية ” 2.

هكذا يمكن القول إن هذه المحاولات الإستعمارية , كانت تجري بشكل منظم ومدروس بما يشبه الغزو , لتشل حياتنا السياسي , والإجتماعية , والثقافية , لطمس كل ما هو حضاري في أمتنا , إذ ” تعكس طبيعة اللقاء بين المجتمع العربي المتخلف , والحضارة الغربية وما تركه هذا اللقاء من آثار مادية وروحية , على المجتمع ” 3العربي , الذي بات يعيش مرحلة البحث عن وجهه الحقيقيفي ظل ماضٍ مجيد وحاضر قائم مرفوض , ومستقبل يهدد بالكثير من المآزق الإجتماعية ,والثقافية , والحياتية . 

وجاءت كارثة العرب في فلسطين , لتطم الشرق العربي من أسسه وقواعده . وقد عكست هذه الكارثة بوضوح , نواحي الضعف الذي كان المجتمع العربي غارقاً فيه, حيث عاش هذا المجتمع سنوات طويلة من الغليان , لكن دونما أية نتيجة . 

“فقد تعرضت الأنظمة العربية , إلى مواجهات عنيفة مع الشعب وخاصة الكتّاب منهم *, والذين جاءت كتاباتهم صورة واضحة لمشاكل الأمة , وهمومها , في ظل إحتلالات متكررة , وحكومات فاسدة , أثرت تأثيراً في الوضعين السياسي والإجتماعي , وفي الوضع الإقتصادي أيضاً ” 4. 

وجاءت حرب 1967مع الإسرائيلين , خير زلزال هزّ العالم العربي ولم تكن نتيجة الحرب مجرد هزيمة عسكرية مذلة للعرب , بل كانت انهياراً لأنظمة , ومؤسسات , وأفكاراً , وأيدلوجيات أيضاً ” وأسهمت التناقضات المريرة التي سادت بعد الحرب ,في تمزيق المفكرين والكتّاب العرب , ودفعهم إلى أحد إتجاهين : إما أن يقبلوا بالوضع الراهن , بعد يأسهم في إصلاحه ….أو انهم يكرسون أنفسهم لأعمالهم الإبداعية ,هاربين إلى عوالمهم المنعزلة , بعيداً عن الواقع وقضاياه الملحة ” 5.وكان لهذا المناخ الكئيب , تربة خصبة لجيل من الكتّاب اللذين عبروا عن إحباط , وخيبة أمل , ورفض تام للماضي . أما الكاتبات اللواتي كنّ أقل انخراطاً بشكل مباشر , بما يجري على جبهة الحرب , وأكثر اهتماماً بمضاعفاتها على المستويين

الإنساني , والإجتماعي ,فكنّ أكثر اهتماماًبهذه المضاعفات , ودرس العوامل التي أدت إليها , ومدى تأثيرها في الظرف الإنساني . 

فكانت الروائيات يحللن ,وينتقدن الواقع الإجتماعي والسياسي , ويستحضرن رؤيا جديدة , من أجل البقاء السياسي , والإزدهار المستقبلي , للأمة بكاملها . 

ونجد أن رد الفعل العربي كان ذا وجهين : 

الأول: خيبة أمل بالحكومات العربية , التي ضللت الجمهور . 

الثاني : تصميم التغلب على الهزيمة النفسية , والعمل من أجل مستقبل أكثر إشراقاً ….

وقد أطلق على جميع الأعمال الأدبية التي كتبت عن حرب 1967 اسم “أدب النكسة وتنعكس الروح السياسية الأدبية , التي لم تعترف كلياً بالواقع في أدب هذه الفترة ” 6

وتظهر روايات الحرب النسوية , والتي طالت وبعمق مصير بلادهن , وشعوبهن , وكذلك جميع التفاصيل البالغة الدقة لمعاركهن الخاصة ضد الظلم , والتمييز , ولم يكنّ أبداً على هامش الحياة الإجتماعية , والسياسية , لا سيما في أكثر الأحداث أهمية في تاريخ الوطن العربي . وتجدر الإشارة إلى أن ” روايات الحرب النسائية تختلف كثيراً عن روايات الحرب التي كتبها الرجال , ويمكن تلخيص الفارق , بأن الرجال يركزون في رواياتهم عن الحرب , على خط الجبهة , وساحة الوغى , باعتبارها مركز الحياة , الذي يحاولون تغطيته , بينما تنسج النساء نسيجاً واسعاً من العلاقات , يلعب فيه حدوث الحرب دوراً أساسياً” 7. 

وكانت الروايات خير صورة صادقة استطاعت أن تنقل انا الحياة الإجتماعية , والسياسية بكل رؤىء ثاقبة وواضحة *.

وبالتالي نستطيع القول : أن المشاكل القطرية , التي عاناها الوطن العربي , وطبيعة معالجتها , من قبل الأنظمة العربية كانت وما تزال , هي الأخرى معوقاً رئيسياً من معوقات التقدم العربي .

والأمة العربية لاتزال حتى الآن تمرّ بمخاض تاريخي طويل , وطريقها إلى التقدم هو عبور هذه المرحلة , حيث العمل الجاد من الخضوع للنظرة السطحية في فهم الواقع الذي تعيشه , قاضيةًعلى الأسباب المباشرة والغير مباشرة على أسباب الهزائم التي منيت بها . 

وعوامل التردي مهما كان حجمها , أضعف من أن تهزم الفعل الإنساني , الذي تبقى قدرته أساس كل تغيير , فالأمة العربية هي حقيقة تاريخية , لا تحتاج إلى إثبات  , وطريق الأمة إلى النهوض , والإنبعاث هو طريق الوحدة , والققضاء على الفساد السياسي والإجتماعي , والتي تقع جلّ هذه المسؤلية , على المجتمع العلمي والثقافي , فهو وحده القادر على نشل المجتمع العربي من تخلفه , وفوضويته , والعمل الجاد على إعداد القوى البشرية , باعتبارها المدخل

الرئيسي إلى نجاح كل تنظيم اقتصادي , واحتماعي ,وذلك عن طريق زيادة المعارف , والمهارات , والقدرات , لدى جميع أفراد المجتمع , بقصد تنميتها , ومن الطبيعي أن يأتي التعليم في رأس طريق التطور , والتنمية , فهو المصدر الأساسي , والأداة الأولى لتطور المجتمع , ويقترن العلم وبشكل مباشر بحرية الأفراد , ورفض كل ما يمت بصلة إلى الإستعباد والتخلف . 

ويمكن أن يضاف إلى هذا : نكبة فلسطين وما خلفته من آثار على جميع المستويات . سعى النهضويون العرب , الغيارى على مستقبل هذه الأمة , إلى إنقاذ القيم الحضارية التي تقوم عليها العلائق في المجتمعات العربية ومواجهة سيل جارف من الثقافات الغربية , القائمة على أسس ومفاهيم حضارية تختلف عما تمتلكه مجتمعاتنا . 

وقد حاول المثقفون العرب , اللذين حملوا هموم أمتهم , أن يواحهوا هذا المد الغربي , فأنؤا بعض الحركات , والهيئات , والجمعيات , التي نادت بحرية الإنسان , والعودة به إلى قيمه الأصيلة , يدفعهم إلى ذلك شعور بالذات الحضارية , والمسؤلية القومية . ولا يمكن إنكار المأزق الحرج الذي وجد المثقفون أنفسهم فيه . فهم بين طموح مشروع لبناء مستقبل الأمة على أساس حضاري , وبين واقع مؤلم حيث يتفشى الجهل , وتتنامى سلطات الحكام الذين يفتشون عن مصالحهم الضيقة . 

وأدت الرحلات والترجمات والرحلات العلمية دوراً في انتشارالفكر والفلسفات الغربية في بلادنا , والتي تقوم بمعظمها على إرساء نظرة جديدة إلى الكون والمجتمع والإنسان , آخذة بالحسبان تطور المجتمعات ورقيها على اسس علمية منظمة . ولم تشذ الساحة اللبنانية عن الساحات العربية في مواكبتها لهذه التطورات ؛بل ربما كانت سباقة إليها , وفي أكثر من مجال .وقد يكون ذلك لتأثر اللبنانين المبكر بالفكلر الغربي , كما قد يكون للعلاقات المميزة التي ربطت لبنان بأوربا الغربية منذ قرون . 

وكانت الفلسفة الوجودية من أهم الإتجاهات الفكرية , والفلسفية التي أثرت في الواقع الفكري والثقافي . وتركت بصماتها على بعض جوانب الأدب العربي عموماً , واللبناني خصوصاً. وربما يكون من الضروري إلقاء نظرة سريعة على التيار الوجودي , وتأثيره في الفكر والثقافة العربية . 

الوجودية , هي طريقة في التفلسف تنطلق من الإنسان لتبحث في وجوده , وأبعاد هذا الوجود ,ولتهتم بالدور الحقيقي المنوط به في هذا الكون . وهي , وإن ابتعدت قليلاً عن الصور الذهنية المجردة وما هية الاشياء ؛ إلا أنها , كتيار فلسفي يفلسف الذات الإنسانية قي قلقها من حراء هذا الوجود , أكثر من تركيزه على الموضوع , ” فالفيلسوف الوجودي يفكر بانفعال عاطفي , كمثل الذي اندمج كلياً في الوقائع العقلية للوجود ” 8 . 

ولعل الحربين العالميتين اللتين حدثتا في النصف الأول من القرن الماضي , وما سببتاه من كوارث , وفواجع مثلتا هزيمة كاملة للإنسانية ؛كانت بمثابة المشجع لظهور هذه الفلسفة . وكان للتطور الإقتصادي المتسارع , الذي رافق التطور العلمي ومنجزاته الهائلة أثر مهم في تشييئ

الإنسان , وإلحاقه بالسلعة التي ينتجها , فصار ” يغذي , ويسلي جيداً ولكنه مع ذلك سلبي , ومن الناحية الإنعالية لا حياة فيه , فبانتصار هذا المجتمع الجديد سوف تختفي الفردية , والحياة الخاصة ” 9. 

ويعتبر ” كير كيجور ” من أهم المفكرين الوجوديين , وهو” أول فيلسوف أوربي يحمل لقب المفكر الوجودي ” 10. ولا بقل قيمة عنه كل من ” هيدجر “و” سارتر ” و” كامو ” الذين ساهموا في ترسيخ أسس هذه الفلسفة . وهم وإن ناهضوا المفاهيم السطحية في المجالات السياسية , والأدبية , والأخلاقية , والدينية , كما فعل ” كيركيجور “عندما هاجم الأوضاع الكنسية في الدانمارك ” ففي اليوميات التي كتبها في السنوات الأخيرة , رأى المسيحية شيئاً فشيئاً على أنها نبذ للعالم ” 11. لا يقل الفيلسوف الألماني” نيتشه “أهمية في نظراته الوجودية , والتي دعا من خلالها إلى القوة ونبذ الأديان . وقد أطلق لقب العدميين على فريق من الفلاسفة الوجوديين , والتي لاقت أفكارهم , وأرائهم صدىً مقبولاًفي صفوف المثقفين العرب ,بفعل التأثر الفكري والثقافي بالغرب .ووجد التيار الفلسفي الوجودي مناصرين ومؤيدين له على الساحة اللبنانية والمصرية , بشكل خاص . فالوجودية ” تتأرجح في استنتاجاتها السيلسية , بين مناصرة الحركة الإشتراكية , التي جاءت تجربة جديدة مستحدثة , وحاولت بعض البلدان العربية اعتناقها  , وبين مناصرة الليبرالية في ما يتعلق بالحريات الفردية أصيلة في الشرق “12

ومن هنا فإن المثقف العربي أهتم بكثير من جوانب هذه الفلسفة , . ورأى فيها ما يدعم ثورته على الجهل , وعلى التعصب الديني , الذي وقف عائقاً أمام إنطلاق الإنسان إلى آفاق رحيبة من الحرية , والتقدم , والتطور. ولما كانت الحرية من الثوابت الأساس في التيار الوجودي ؛ كان طبيعياًأن يميل المثقفون العرب إلى الإعتماد على هذا التيار في نضالهم . و لقد رأى المثقفون العرب في الوجودية أساساً لنظرية الرفض الشامل العنيف …لذلك لم يهتموا بأسس المذهب الوجودي كثيراً, بقدر ما تلقوه كدعوة خلقية يجب الإنصياع لها , حيث يمارس الفرد حريته المطلقة ويعبر عن مختلف آرائه , وأفكاره دون قيد يعوقه. ولم تسلم النظرية الفلسفية الوجودية من النقد , خصوصاً في البلاد العربية . ففي مصر تعرضت لهجوم الكتّاب والصحافيين ”  ولكن هذا الهجوم تناول النظرية بسطحية لا تتناسب والروح العلمية في النقد , فأهملت الظروف والأسباب التي أسهمت في تكوينه ” 13.واتخذت الفلسفة الوجودية ملامح واضحة في الحياة الثقافية اللبنانية , بدعوتها إلى تحقيق إنسانية الإنسان من خلال إظهاره ككائن حرّومسؤول عن نفسه , ومصيره , وإزالة كل المعوقات التي تتعارض مع التوجهات الإنسانية ؛ولما فيها من حض على العلم , ومحاربة التخلف , والجهل, والفقر في المجتمع . هذه النظرات التي تنطوي على المساهمة في التغيير الإجتماعي , والسياسي,ساعدت على إظهارهاالترجمات العديدة لكبار مفكري الوجودية كسارتر , وسيمون دي بوفوار , وغيرهما , وتقبلها كثيرون من المثقفين اللبنانين , نظراً لأهميتها . 

اتسعت الساحة اللبنانية للمذاهب الإشتراكية , والشيوعية على الصعيدين الفكري , والثقافي . ولعل أهمها المذهب الإشتراكي القائم على النظرية الماركسية , ذات الأساس المادي الجدلي . هذه النظرية التي تولي الإنسان عناية فائقة , من خلا وجوده كعضو في جماعة يتكامل بها ويتحقق وجوده من خلالها , وبها “فهي تصوغ الإنسان كله في قالب خاص , من حيث لون تفكيره , ووجهة نظره إلى الحياة , وطريقته العلمية فيها ” 14, وكانت الفلسفة المادية من ركائز النظرية الماركسية , فهي لم تكن من نتاج ماركس وحده , إنها تراكم الفكر البشري منذ قرون مديدة , واتخذ شكل نظرية ” استكملت خطاها على يد هيجل الفيلسوف المثالي المعروف …وجاء كارل ماركس إلى هذا المنطق , وتلك الفلسفة فتبناهما  وحاول تطبيقهما جميع ميادين الحياة ” 15.

وتعتمد النظرية الماركسية على فهم متكامل لتطور الإنسان , من خلال التاريخ , والصراع الطبقي الذي حكم المجتمعات البشرية منذ نشوئها , وإيلاء المجموعة الأهمية المطلقة , لأنها هي الغاية من النضال السياسي والإجتماعي أينما كان . ولا تعترف هذه النظرية بالمثالية , وتقلل من دور القيم المعنوية , بدءاً من إنكار وجود الخالق , لأنها لا تؤمن بالماورائيات , وهي تسعى إلى ” إفناء الفرد في المجتمع , وجعلها آلة مسخرة لتحقيق الموازين العامة التي يفترضها ” 16. تغلغلت النظرية الشيوعية في أوساط المثقفين , الذين ينتمون إلى الفئات الشعبية بشكل عام . وحاول بعض هؤلاء المثقفين تنظيم الجماهير , صاحبة المصلحة الحقيقية في التغيير , داعين إلى اعتماد العنف , والثورة في مواجهة الطبقات المستفيدة من الأنظمة , وحاولت أيضاً توحيد الفئات التي تجمعها المصالح الموحدة , لمواجهة الظلم , والإستبداد .وقد عجزت هذه الأفكار التحررية عن الوصول إلى غاياتها , وربما لأن الداعين إليها ” لم يضعوا أيديهم على سبب الفساد الحقيقي ليقضوا عليه ” 17؛ أو لأن هناك أسباباًأخرى عميقة ليس هذا مجال الإفاضة فيها . 

تواجد تيار ثالث في بلادنا في الستينيات من هذا القرن , وهو التيار القومي العربي , والذي يرى “أن الناطقين بالضاد يشكلون أمة , وأن هذه الأمة يجب أن تكون مستقلة , ومتحدة , ولم يتضح هذا التيار , ويكتسب قوة سياسية إلا في القرن الحالي ” 18 . 

شكل العرب وحدة سياسية في تاريخهم القديم , وكانوا يعتزون بانتمائهم إلى عروبتهم . وتجلى هذا الإعتزاز في الكتابات , والأشعار , التي حفظها لنا التراث العربي . 

ومع تزايد الشعور القومي منذ مطلع القرن العشرين ,عمل الإستعمار الغربي على رسم الحدود بين لأجزاء الوطن الواحد , وغذى النزعات الإقليمية, سعياً وراء قطع الجذور المشتركة بين أبناء المجتمع العربي وبالتالي تفتيته , وتقسيمه , ونهب خيراته , ” وقف الإستعمار الغربي في وجه التيار القومي , الذي كان يسعى لأن يجمع العرب في كيان سياسي مترابط يصعب خرقه

“19 ,ويمكن القول إن هذه الأمور قد حسمت على الساحة اللبنانية , والعربية , لصالح نهج نهج قومي عربي , يقول بوجود رابطة بين مجموعة من البشر, و” بأن هذه الرابطة هي من القوة , والأهمية بحيث تفرض على هذه المجموعة تكوين مجتمع سياسي , تتمتع فيه الحكومة بسلطة خلقية بمقدار ما تعبر عن إرادة هذا المجتمع وتخدم مصالحه ” 20, توزعت على الفكر القومي العربي مجموعة من المخاوف , عند الأقليات الدينية , “والتي رأت في القومية العربية خطراً على وجودها “21. 

 وقد أقر ” الميثاق الوطني “في لبنان عام 1943والذي عزز الوحدة الوطنية , ورسم اتجاهاً موحداً بين ” الذين يؤمنون بلبنان مستقل متصل بالغرب , ومعظمهم من المسيحين , بين الذين يؤمنون بأن لبنان على تمتعه بكيان منفصل , إنما هو جزء من العالم العربي ومعظمهم من من المسلمين “22.واستقرت الأمور السياسية بنتيجة هذا الحل .

 بناءعلى ما تقدم , يمكن القول إن تلك الأوضاع الفكرية , والإيدلوجية , قد شكلت أرضية لواقع ثقافي أدبي ,  تميزت به مرحلة الستينات من هذا القرن . وإذا صح القول : إن الأدب مرآة للأوضاع الفكرية , والإجتماعية , والثقافية لبلد ما , فإن الواقع الأدبي اللبناني ـوالروائي ـ تحديداً في مرحلة الستينات , قد حاول وبكثير من الصدق أن يعبر عن هموم المجتمع , ومشكلاته . 

وإذا أريد للرواية العربية أن تفخر بشيئ , فإنها تفخر بطرحها الوجودي لمأساة الإنسان العربي ومحنته , الغريب في أرضه , المقهور في حياته , والذي تسهم الحكومات ….في سحقه والبطش به , لكن كل هذا العذاب المأساوي , يحمل في داخله , بذور الوعي , والإنبعاث والتجدد ,مطروحة ضمناً في قضية … .

فالرواية العربية أخذت تتعامل مع القضايا الحيوية بجد , وقد عنيت بشكل خاص في الظرف الإجتماعي , وقد أخذ الروائي ينظر إلى الفرد بصفته إنساناً يحمل الكثير من الهموم , والمشاكل الإجتماعية , والسياسية , التي قد تختلف , مع بقية المجتمعات . ومن هذا الجو العام للرواية العربية ,أخذ  الكاتب على عاتقه تحدي الواقع المزري, والتركيز على الإنسان , بصفته الإنسانية .

ولعل الأدب النسوي , استطاع أن يكون له جانباً من هذه الرؤية الإجتماعية في تلك المرحلة . 

 وضعية المرأة على ضوء ما هو سائد في المجتمع اللبناني : 

خضعت المرأة العربية , عبر تاريخها الطويل , لظلمين : أولهما تمثل في ظلم المجتمع لها, عندما جعلها أسيرة عادات وتقاليد بالية , نتيجة الجهل , والفقر الذي عم أرجاء البلد . 

وثانيهما : ظلم الأسرة المباشر لها , والذي جعلها أداة , وليس فرد له من الحقوق ما له . وقد تعالت الأصوات في البداية ,وبشكل خجول, محاولة إنصافها . ومع مرور الزمن وانتشار

الوعي والعلم تطورت هذه الدعوات وبشكل مجد, إلا ” أن تطور مكانة المرأة العربية نحو مزيد من التحرر من من القيود الإقتصادية , والإجتماعية , والسياسية , كافة لا يتم بمعزل عن التغيير الشامل , وإزالة أشكال الإستغلال في المجتمع ككل  ” 23 . وعاشت المرأة اللبنانية حالة من الصراع بين المفاهيم الجديدة , التي تأثرت بالظرة الغربية , ودعت إلى التخلي عن كثير من القيم , والعادات الإجتماعية , التي تحد من حرية المرأة , والتي كرستها التقاليد , والنظرة السلفية ؛ وبين رياح التغيير التي هبت وتزايدت . وصارت المرأة موزعة بين القلق, وهاجس التمسك بالعادات القديمة . فهي لازالت في بحث دائم عن مكانتها , ووجودها , ودورها في حركة المجتمع . 

ونتسائل هنا : هل نجحت هذه الحركات في تقديم الحرية للمرأة بالشكل المطلوب ؟ إن نظرة سريعة إلى واقع الأحزاب السياسية , والتنظيمات المستحدثة , ترى أن موضوع المرأة لم يول الإهتمام الذي يستحق وكانت ” القضايا برمتها موضوعاً ثانوياً ” 24.حيث تميزت بعض هذه الآراء الحزبية بالجرأة والجدة , وهذا ما جعل المرأة تشعر بالقلق , والخوف إزاءها , خصوصاً وأن بعض هذه الأراء لا يتناسب مع واقع المجتمع , وما فيه من قيم وعادات وتقاليد ؛ فهي ذاخرة بالثورة ,والتمرد على الكثير من الجوانب الإجتماعية , والأخلاقية , التي لا تزال موضع التقدير والإحترام عند الكثيرين من المحافظين من أبناء هذا المجتمع .وبالتالي نجد أن الكثير من هذه الأفكار لن تعيش طويلاً , سيما وأنها جاهرت بالعداء لبعض القيم الدينية , التي يتمسك بها الكثر من أبناء هذا المجتمع . 

والرواية اللبنانية خير صورة حقيقية لهذا المجتمع , لتناولها القضايا وبشكل معمق . فمن غير المناسب لنا أن نتبنى جميع الآراء , والنظريات , التي تفد إلينا من الغرب , لأنها , وإن كانت صالحة وهي تعالج المجتمعات الغربية , فربما لا تتناسب مع واقعنا , ولا تستطيع أن تقدم لنا الحلول الناجعة لجميع المشكلات , التي تعاني منها مجتمعاتنا العربية . والمرأة الغربية قطعت أشواطاً على طريق حريتها , مقابل خسارتها للكثير من إنسانيتها . ” فالمرأة حصلت على حقوق اقتصادية إيجابية , ربما مقابل خسارتها لإنسانيتها سلباً , لدرجة أنها تحولت في العالم المتقدم إلى سلعة تسويقية , وأصبح جسدها اقتصادياً في الإعلان ….” 25. 

ولا ينكر أحد دور المرأة التربوي في المنزل والأسرة , قبل انخراطها في سوق العمل , لما لهذا الدور من أهمية في تماسك المجتمع وتطوره , وترسيخ القيم الإيجابية فيه . ولهذا ” تصاعدت آراء الحفاظ الأسرة ودور المرأة فيها ,للأهمية المصيرية لهذا الدور, مما يجعل اهتمامها بالمنزل وتربية الأولاد في قمة الإهتمام المجتمعي ,سابقاً الإقتصاد والسياسة ” 26.

إن أي موقف مسؤول اتجاه قضية المرأة وحريتها , كان لا بد له من أن يأخذ في الحسبان مسألة التوفيق الحقيقي بين واجباتها كزوجة , وأم , ومشاركتها في العمل والإنتاج , بالشكل الذي يتلائم مع وضعها هذا . وقد وقف العديد من المنظمات النسائية العربية في وجه أفكار الغرب

حول حرية المرأة , ونوع هذه الحرية , وقررت ” أن لا مساواة حقيقية بين الرجل والمرأة في الأقطار , وأن هناك دعوة شرسة لعةدة المرأة إلى المنزل , والتنازل عن حقها في العمل “27 . 

ومن المعروف أن المرأة بحكم تكوينها الجسدي , لا تستطيع أن تقوم بجميع الأعمال التي يقوم بها الرجل ,خصوصاً تلك التي تتطلب مجهوداً جسدياً . وغني عن القول :إن الأعباء التي يتحملها كل من الرجل والمرأة , تتكامل وتتساند من أجل تطور المجتمع , وتطوره .وإن حرية المرأة , شرط لا بد من توفره كي يماشي تطور المجتمع الحضاري , ذلك أن ” تحرر المرأة ينبع فعلياً من تحرر المجتمع رجالاً , ونساء, ولا يمكن تجزئة الحلول , لـن لا فائدة على على صعيد التطبيق من هذه التجزئة ” 28. 

وليست القدرة الجسدية هي الفارق الوحيد بين الرجل والمرأة . هناك عوامل أخرى تسهم في تكليف الرجل من الأعباء ما لاتطيق المرأة , كالإستمرارية في التعقل , والإنسجام مع الغريزة يجعلانها دائمة البحث عن الرجل , الذي يساعدها , ويحميها , ويحافظ عليها . 

وقد برز ذلك في العديد من روايات ذلك العصر , والتي اهتمت بالكثير من الناحية الإجتماعية ,والعلاقة بين الرجل والمرأة , ومدى التوازن بينهما , في ظل ظروف إجتماعية صعبة أوجدتها العادات والتقاليد , والجهل , والفقر, والحروبات القائمة والمفروضة . 

 فقد أسهمت من خلال تعمقها في ميادين الحياة , في المساعدة على دفع عجلة التطور إلى الأمام , من خلال إقبالها على المشاركة في العديد من النواحي الثقافية , والعلمية , والفكرية , حيث سجلت حضورها إلى جانب الرجل . 

ـ واقع المرأة في المجتمع العربي : يذهب العديد من الباحثين إلى أن ” وضع المرأة هو صورة المجتمع ومقياس رقيه , فبمقدار تحررها , وتطور شخصيتها , يكون تحرر المجتمع  , وتطوره ” 29.

إن حركة التطور المتصاعدة التي شهدتها المجتمعات البشرية , عززت مكانة المرأة في المجتمع , وقلصت حجم الإستبداد الذي مارسه الرجل عبر مراحل التاريخ السابقة ؛والتطورات الإقتصادية / الإجتماعية قد ساعدت المرأة , إلى حد كبير , في التخفيف من الظلم الذي تعرضت له في السابق . 

فقد دافعت المرأة , وبقوة , عن حقوقها في المجتمع بوصفها فرداً من أفراده بما عليها من واجبات, وما لها من حقوق . على الرغم من تحملها الكثير من الأعباء , لازالت تعيش تحت سلطة الكثير من القوانين التي يعمل بها , تشوه  , وتفسر بما يضر مصلحتها , والذي قد يكون في الكثير من الأحيان امتهان لكرامتها ” فالمجتمع العربي , أحد المجتمعات النادرة التي ترى فيها سلطة الرجل تامة , وغير منقوصة , في معظم الميادين , رغم الإصلاحات التي أدخلت لصالح النساء منذ عدد من السنين ” 30 . وأمامهذه المشكلة , المزمنة , كان لا بد لها أن تتعلم ,

كيف تناضل في سبيل حريتها المسلوبة ,أمام الرجل الذي لا يرى حريته إلا في سلب المرأة حقوقها ووجودها , في ظل التخلف والجهل الائد في تلك الحقبة الزمنية . وبالتالي لابد للمرأة أن تختار بين اثنين ” إما أن تغلق بابها عليها , وتنفصل نهائياً عن حركة الحياة والتاريخ …وإما أن تحاول تشكيل حركتها الحياتية بحيث لا تفقد شخصيتها الأصيلة . ” 31

فحرية الإنسان هي البداية لطريق الخلاص , فالأزمة ليست أزمة حرية المرأة , وإنما أزمة حرية الإنسان رجلاً كان أم إمرأة وذلك ” نتيجة للوضع الطبقي , والإجتماعي الخاطئ, وللإستلاب العام الذي يعاني منه الإنسان العربي , في حريته الإقتصادية , والفكرية , والسياسية “32. وقد دعت بعض الكاتبات إلى الثورة طريقاً للوصول إلى الهدف المنشود . هذه الثورة التي تتسلح بالعلم , والعقل مستوعبة القوانين , والكثير من التعاليم الدينية بقناعة واعية , ومستنيرة بالجوهر الحقيقي للحرية , لا بآلية الرضوخ لها . 

فقد أدركت أهمية العلم والمعرفة , فأقبلت عليهم بنهم شديد , لتتمكن من الدفاع عن حقوقها وإثبات ذاتها , حيث حققت الكثير من النجاحات الملحوظة . 

سيما كتابة الروايات , معبرة عن ذاتها ومجتمعها . فجاءت رواياتها متحدثة عن شخصية , أو شخصيات إنتقالية ما بين القديم والحديث , حيث تحمل بين طياتها صورة لإمرأة كتب الشرق والغرب على وجهها ثنائية الهوية الحضارية , وحملت آثار المعركة المتجددة أبداً , مابين التقليد والتجديد , حيث تطلعنا في هذه المعركة ” امرأة أورثتها تناقضات مرحلة الإنتقال ومصاعبها , قلق البحث عن ماهية إنسانية حرة ” 33. 

هذه المرأة القلقة المضطربة , في رحلة حياتية طويلة , تعيش القلق وهي لازالت تبحث عن إنسانيتها وحريتها , وسط مجتمع لا زال يعيش مناخ العادات , والتقاليد القديمة , والتي لم تعد صالحة لهذا العصر , وسط دعوات كثيرة , تطالبها بالعودة إلى عالمها القديم الخاص بها .  

حيث تسعى وبعنف بمواجهة قوى التحكم , والظلم لتمثل دورها في الحياة بجدارة , حيث تحصل على بعض المكاسب , مقابل الكثير من الإحباطات والفشل أمام المشكلات والأزمات . 

إلا أنها أبدعت فناً قصصياً, يتميز بالحساسية في التعبير عن همومها , ومشاكلها , ومشاعرها . جيث استطاعت بما عندها من عمق في الرؤية , عمق ذاتها وتطلعاتها , وأن تغوص إلى أعماق علاقتها بالرجل وبالمجتمع , واستطاعت بصدق أن تصور هموم المرأة , والفتاة العربية , والمشكلات الناجمة عن تطور الحياة الإجتماعية . 

فقد بحثت الكاتبة العربية في مشكلة المساواة بين الرجل والمرأة , وعلاقة الرجل بالمرأة , ملتفتة إلى المشكلات التي أحدثتها التطورات الحضارية المستجدة , هذه التطورات التي جعلتها تقف إلى جانب الرجل حيناً , وفي مواجهته حيناً آخر . فهي لم تكن بمعزل عن التطورات الإجتماعية , والسياسية , والثقافية , التي اجتاحت البلدان العربية , ـوفي لبنان على وجه

الخصوص ـ حيث قدمت لنا المرأة في رواياتها بصور عديدة , تندرج تحت عنوان الأسرة  والمجتمع , والعلائق بين الأفراد , فتارة كانت إيجابية بنّاءة , وتارة سلبية متمردة وفوضوية , وجميعهم تحت عنوان البحث عن الذات ,  وسط مجتمع لازال يرزح تحت سلطة التقاليد والتخلف .