العلاقات التاريخية بين مصر ولبنان – د. حسان حلاق

(دراسة مهداة إلى روح الرئيس الراحل جمال عبد الناصر

بمناسبة مرور مائة عام على ولادته 1918-2018م)

أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر، في جامعة بيروت العربية، بيروت 2018

  1. العلاقات التاريخية بين مصر ولبنان:

كانت العلاقات مميزة بين مصر وبلاد الشام منذ فجر التاريخ، لأن بلاد الشام كانت – ولا تزال- مفتاح مصر الشمالي، وأن من يسيطر عليها، يستطيع أن يسيطر على مصر ذاتها وعلى المنطقة برمتها، وأن من يسيطر على بلاد الشام يستطيع وقف الحملات على مصر([.

أدركت الشعوب القديمة هذه الحقيقة فتوثقت علاقاتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية منذ عهد الفراعنة لا سيما بين فينيقيا ومصر الفرعونية.

وفي التاريخ الحديث والمعاصر أدرك والي مصر محمد علي باشا أهمية بلاد الشام بالنسبة إلى مصر لا سيما بعد لجوء أعدائه من المماليك إلى فلسطين، بالإضافة إلى عدائه للدولة العثمانية، واستثمار الظروف الدولية التي ساعدت على تنفيذ استراتيجيته حيال بلاد الشام، وقد أشار “كلوت بك” (clot- bey)عام 1840- وهو أحد المسؤلين لدى حكومة محمد علي عن الأسباب الحقيقية لسيطرة محمد علي لبلاد الشام (سوريا) فقال:

إن ضم سوريا إلى مصر كان ضرورياً لصيانة ممتلكات العزيز. فمنذ تقرر في الأذهان إنشاء دولة مستقلة وجب الاعتراف بأنه لا يمكن إدراك هذه الغاية إلا بضم سوريا إلى مصر. وقد رأينا فعلاً ان شكل البلاد الحربي لا يجعله بمأمن من الغزوات الخارجية خصوصاً على طريق بوغاز السويس، فإذا استثنينا غزوة الفاطميين المغاربة وغزوة الفرنسيين بقيادة بونابارت نجد ان سائر الغزوات جاءت عن طريق سوريا كغزوة قمبيز والاسكندر والفتح الاسلامي وغزوتي الأيوبيين والأتراك، وعليه لا يمكن الاطمئنان إلى بقاء مصر مستقلة إلا بإعطائها الحدود السورية لأن حدودها ليست في السويس بل في طرطوس([.

بالإضافة إلى أن البلاد السورية فيها أكثر من مليوني نسمة يمكن الاستفادة منهم في التجنيد ودعم الجيش المصري كما ان فيها الخشب والفحم الحجري والنحاس ومعادن كما ان لسوريا موقعاً اقتصادياً واستراتجياً وجغرافياً هاماً([.

وبالفعل ففي فترة سيطرة محمد علي باشا وابنه إبراهيم باشا على بلاد الشام 1831 -1840 كانت فترة

مليئة بالتواصل السياسي والعسكري والاقتصادي والاجتماعي والثقافي بين مصر وبلاد الشام ومنها بيروت والمناطق اللبنانية، وقد جرت هجرات متبادلة بين المنطقتين وعمليات واسعة من الزواج المختلط وهناك الكثير من الأسر البيروتية واللبنانية والشامية من أصل مصري، كما أن هناك الكثير من أصل لبناني وشامي. ويكفي الإشارة إلى بعض أسماء العائلات اللبنانية للدلالة على صحة ذلك ولمعرفة أصولها ومنابتها منها الأسر التالية: المصري، الإسكندراني، الدمياطي، الفيومي، الرشيدي، الدسوقي، الصعيدي، الجيزي، التكروري، وسواها.

كما أن في مصر بعض العائلات اللبنانية والشامية لا تزال تحمل أسماء المناطق التي نزحت منها مثال ذلك أسر: الشامي، الحلبي، الحموي، الطرابلسي، الجبيلي، الطرطوسي، وغيرها من العائلات.

ولا يزال أهل بيروت ولبنان وبلاد الشام يستخدمون لفظ “مصاري” و”مصريات” للدلالة على النقود المصرية التي كانت متدوالة إبان الحكم المصري وبعده بسنوات عديدة ويستخدم اللفظ اليوم بمعنى المال والنقود([.

لقد استطاع ابراهيم باشا في فترة إقامته في بيروت ولبنان إحداث تنظيمات عديدة في مجال الحكم والإدارة والاقتصاد والسياسة. غير أن القوى الدولية: الدولة العثمانية، انجلترا، النمسا، روسيا، بروسيا حرصت في تموز (يولية) 1840 على عقد مؤتمر في لندن وإصدار قرارات دولية بضرورة إخراج الحكم المصري من بلاد الشام تخوفاً من إقامة امبراطورية إسلامية قوية تكون بديلاً عن الدولة العثمانية الضعيفة.

والأمر الملاحظ أنه بعد احتلال الإنجليز لمصر عام 1882 والقضاء على ثورة أحمد عرابي شهدت بيروت نزوحاً كثيفاً من المصريين وزعمائها الوطنين هرباً من الإنجليز، بينما شهدت مصر بالمقابل نزوحاً من بعض سكان جبل لبنان هرباً من العثمانيين واطمئناناً للإنجليز، ومنهم من قام بتاسيس الصحف الأولى في مصر مثل: الاهرام وسواها. ومن بين المصريين المنفيين إلى بيروت وبلاد الشام الشيخ الإمام محمد عبده الذي أقام في بيروت، وأثر تاثيراً فكرياً ودينياً في أهل بيروت حيث درَّس فترة في الجامع العمري الكبير وفي مدارس المقاصد، وأقام علاقات وطيدة مع علماء وعائلات بيروت ومن بين المنفيين ايضاً الشيخ محمد عبد الجواد القاياتي احد قيادات ثورة عرابي، الذي دون مشاهداته في بيروت في كتابه “نفحة البشام في رحلة الشام” ومما قاله عن أهل بيروت:

“بيروت مدينة اسلامية دينياً وغيرة وحمية، أوروباوية نظاماً وبناءً وحربية، فإنهم مع كثرة مخالطتهم لغير أهل دينهم من وطنين وأجانب في غاية الصلابة والتحفظ على شعائر الدين، ولم يقلدوهم في طول مدة العشرة إلا في مراعاة القوانين والنظمات في المرافعات والمدافعات”.

 ومما قاله الشيخ القاياتي ايضاً في اهل بيروت:

“ومن الخصال الحميدة في هذه المدينة أنه لا يوجد فيها تجاهر بالمعاصي أَصلاً كشرب خمر وزنى وغير ذلك بالنسبة للطائفة الإسلامية. وأيضاً فالمقاهي الموجودة بها، بل وبغالب مدن الشام لا توجد فيها اشياء من المسكرات أو المخدرات كالحشيش والشيرة والبسط التي عمت بها البلوى في مصر، فذلك مما تغبط عليها أهل بلاد الشام صانها الله مما يشينها وجميع بلاد الشام بجاه النبي عليه الصلاة والسلام”([.

ونتيجة للعلاقات الطيبة بين مصر وبلاد الشام، فقد ازدادت زيارات المصريين للمنطقة، ومن بين هولاء عبد الرحمن بك سامي الذي قام برحلته الى بيروت والمنطقة عام 1890 “وقد رأيت من الجميع حسن الميل الى المصريين والمحبة لهم وأيقنت أنهم يحسبون أنفسهم مرتبطين وإياهم بعلاقات التابعية واللغة والجيرة والجنسية”. ودونها في كتاب “القول الحق في بيروت ودمشق”.

ومما قاله عبد الرحمن بك سامي عن موقف البيروتيين والسوريين من المصريين المنفيين من مصر إثر ثورة عرابي: “ومما عددته حسناً لإخواننا السوريين ما بلغني عن ثقة، من أنه لما حدثت الثورة الأخيرة في مصر وهاجر كثيرون إلى بر الشام أفرغوا لهم المحلات وأنزلوهم على الرحب والسعة. وليس ذلك فقط بل أنه لما صدرت الأوامر من الآستانة العلية بطرد بعض المصريين من سورية، التمس الأعيان من دولة الوالي وقتئذ أن يخابر دار السعادة بالعدول عن هذا الأمر، وقال جماعة انهم يكلفون أولئك المطرودين ويتعهدون أنه لا يبدو منهم حركة ولا عذر، وفتحوا لهم صدور المجالس والمحافل واهتموا بأنفسهم، وقد علمت هذا الأمر وتأكدته من الثقات فاحببت ذكره إظهاراً لارتباطنا مع إخواننا السوريين برابطة المحبة والولاء، وان البلادين (البلدين) واحدة كالأخ يلوذ بأخيه وقت الشدائد والضيقات. وزيادة على ذللك أن كثيرين من وجهاء بيروت وأعيانها كانوا يعقدون الجمعيات ويجمعون الأموال ويساعدون بها المحتاجين من ضيوفهم اجزل الله ثوابهم”([.

ومن الأهمية بمكان القول، أن الأمير محمد علي باشا ( حفيد محمد علي باشا الكبير ) لما زار بلاد الشام وبيروت عام 1908 أشاد بخصال وأخلاق وعلم “البيارته” ومما قاله: “إِن التعليم في مدينة بيروت مما يسر أَنصار العلم وعشاق المعارف ومحبي التقدم والرقي، ولهذا كنت أرى معظم الأهالي يجيدون القراءة والكتابة، وقلما وجدت أهلها ذلك في كل بلاد الشام”([.

وبالرغم من اشتهار مصر والأزهر الشريف تحديداً استقباله العديد من طلاب العلم من بيروت وبلاد الشام وفي مقدمتهم الشيخ العلامة احمد عباس الأزهري غير أن بيروت شهدت أيضاً قدوم بعض الطلاب المصريين الموسرين للتعلم في الجامعات الأجنبية فيها تحديداً في الكلية السورية الإنجيلية (الجامعة الامريكية) والجامعة اليسوعية. وأشار إلى ذلك الأمير محمد علي باشا الذي استقبل الطلبة المصريين الذين يتعلمون في هاتين الجامعتين، وحثهم على المثابرة وطلب العلم، والقى فيهم خطبة حول العلم والتعليم والعلماء وتبين أن لهولاء التلاميذ المصريين جمعية وقانون تحت إسم “قانون جمعية التلاميذ المصريين في كلية الامريكان”.

هذا وقد أكد الشيخ أحمد طبارة (1870-1916) في خطبة ألقاها في حفل أقيم على شرف الأمير محمد علي، على العلاقات التاريخية التي تربط مصر ببلاد الشام “ثم أخذ يذكر روابط الوداد وعلائق الاتحاد بين الشعبين المصري والشامي، وأفاض في بيان الأسباب الكثيرة لاتفاقهما وتآخيهما التي ذكر منها أنهما متحدان في اللغة الأصيلة، وأنهما متجاوران، وأن تجارة الشام في مصر من أكثر التجارات وأعظمها رواجاً، وأن كثيراً من أبناء الشام هاجروا إلى مصر واستفادو منها مادياً وأدبياً فوائد جمة. فمنهم من اشتغل بالتجارة ومنهم من استخدم في وظائف الحكومة ومصالحها وغير الحكومة أيضاً، مما لا يسعنا معه سوى الاعتراف بفضل مصر على الشاميين حيث رحبت بهم وفتحت أبوابها في وجوههم، فما زالوا يمرحون في بحبوحة كرمها ونعمتها إلى غير ذلك مما كان صريحاً في اقرارهم بمعروف مصر وفضلها عليهم([.

وكانت وحدة المصير بين مصر وبلاد الشام تزداد أهميةً وتوثقاً كلما شهدت المنطقة تطورات سياسة وعسكرية، ففي عام 1912 وفي أثناء غزو الإيطاليين لليبيا، توجه وفد من أعيان بيروت إلى مصر لمقابلة الخديوي عباس حلمي باشا، مطالباً بالتنسيق بين مصر وبلاد الشام لتسهيل مرور المتطوعين البيروتيين واللبنانيين والضباط العثمانيين عبر الأراضي المصرية إلى ليبيا للمشاركة في الحرب ضد الإيطاليين، وقد تحقق طلب الوفد.

وكان نتيجة ذلك ان قام الاسطول الإيطالي بضرب مدينة بيروت قصاصاً من موقف أبنائها، فقتل الأبرياء من السكان، كما قصف الأسطول الإيطالي بعض السفن الراسية في مرفأ بيروت ظناً منه ان هذه السفن تنقل المؤن الى الجيش العثماني في طرابلس الغرب([.

هذا وتبين الوثائق الدبلوماسية الفرنسية أن الوفد البيروتي الذي سافر إلى مصر والمكون من سليم علي سلام وعبدالله بيهم لم يكن هدفه مقتصراً على مساعدة طرابلس الغرب فحسب، وإنما السعي لإقامة الوحدة بين مصر والبلاد السورية. وقد أرسل “كولوندر” (Coulondre)- وكيل القنصلية الفرنسية في بيروت – تقريراً الى رئيس الوزراءووزير الخارجية الفرنسية في 12 تشرين الثاني (نوفمبر )عام 1912 أشار فيه إلى الأوضاع في البلاد السورية بشكل عام ولبنان بشكل خاص موضحاً أن المسلمين العرب رغم استيائهم من الحكم العثماني غير أنهم لا يزالون يعارضون “حكم الامة المسيحية” المباشر اي حكم الدول الأوروبية أو أعوانها. واضاف “كولوندر” قائلا:

“فالمسلمون العرب الذين ملوا الخضوع للحكم التركي، ولكن ما زالوا يعارضون حكم الأمة المسيحية المباشر لا بد وأن يتجهوا بكل بساطة نحو مصر أرض الإسلام (Terre de L’Islam)التي يحكمها أمير من عرقهم ودينهم….لهذا السبب فإن فكرة الانضمام إلى بلاد النيل تلقى في سورية أتباعاً كثراً وأنصاراً متحمسين يجهدون في نشر هذه الفكرة التي وإن كانت قديمة لم تكن بعد قد تماسكت فعلياً إلا لسنة خلت”([.

وتبين الوثائق الدبلوماسية الفرنسية أن وراء مشروع الوحدة بين مصر ولبنان والبلاد السورية كل من سليم علي سلام، عبدالله بيهم، محمد وأحمد كرد علي، سليم ثابت، عزت الجندي، عبد الغني العريسي، رشيد رضا، كما أيد المشروع يومذاك مفتي بيروت الشيخ مصطفى نجا([.

وهكذا استمرت العلاقات المصرية –البيروتية واللبنانية والشامية تتوطد وتتوثق على مختلف الصعد السياسية والعسكرية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية.

وبعد سيطرة فرنسا على لبنان وسوريا عام 1918 قامت مصر بدور بارز طيلة فترة السيطرة الفرنسية من أجل حصول البلاد السورية على استقلالها. ومن الأهمية بمكان القول أن أول رئيس للجمهورية اللبنانية في عهد الاستقلال الرئيس بشارة الخوري كان مديناً بوصوله إلى الحكم للقاهرة ولدمشق معاً. فقد عقد في القاهرة في حزيران(يونيه) 1942 اجتماع ضم بشاره الخوري المرشح للرئاسة وجميل مردم بك وزير خارجية سوريا والنحاس باشا رئيس وزراء مصر، ومحمد شرارة باشا وكيل وزارة الخارجية المصرية ومحمد صلاح الدين الأمين العام للخارجية المصرية. وفي هذا الإجتماع أبدى بشارة الخوري للنحاس باشا ولجميل مردم بك استعداده للتعاون مع سوريا والدول العربية وفي مقدمتها مصر. وبعد اطمئنان مصر وسوريا إلى اتجاهاته السياسية وعداه بالدعم. وقد تحقق الوعد فعلاً فكان أول رئيس للجمهورية عام 1943.

وكان لمصر الدور البارز والأساسي في حل أزمة المرسومين (49) و(50) عام 1943 اللذين أصدرهما الرئيس المؤقت د.ايوب ثابت وزيادة عدد النواب المسيحيين عن عدد النواب المسلمين. فلجأ المسلمون إلى النحاس باشا في شكوى صريحة، وطلبت “الكتلة الإسلامية” الدعم المصري ووقوف مصر إلى جانب المطالب الإسلامية فما كان من النحاس باشا إلا أن أرسل رسالة سرية إلى الجنرال كاترو في 4 تموز (يوليه) 1943 أوضح فيها عدالة المطالب الإسلامية ورفض مصر عدم إقامة التوازن بين اللبنانيين ورفضها للمرسومين (49) و(50) الطائفيين ومما قاله النحاس باشا في رسالته الى كاترو: “ان هؤلاء الزعماء … توجهوا إليَّ لإيجاد حل مرضٍ للقضية التي أثارها القرار الذي ذكرت ويقيني … أنكم تفهمون أنني لا أستطيع الوقوف مكتوف اليدين إزاء نداء الزعماء المسلمين في لبنان، كما أنكم تقدرون ما تركه ذلك النداء من تأثيرفي مصر والبلاد العربية كافة وقد سويت الازمة اللبنانية في تلك الفترة تبعاً لاقتراحات النحاس باشا.

هذا واستمر التفاهم والتنسيق بين مصر ولبنان وسوريا، ولا سيما في فترة نضال سوريا ولبنان من أجل جلاء القوات الأجنبية عن ارضيهما، وكان التنسيق كاملاً في هيئة الأمم المتحدة إلى أن تم جلاء القوات الأجنبية عن البلدين عام 1946.

ولما قامت ثورة عام 1952 في مصر كان لها أثر واضح على الأوضاع اللبنانية الداخلية وقررت المعارضة إزاحة الشيخ بشارة الخوري عن الحكم على غرار إزاحة الملك فاروق في مصر. وقد دوّن الرئيس بشارة الخوري في مذكراته “حقائق لبنانية” إثر ثورة تموز (يوليو) على لبنان بقوله: “يقول مثل عامي لبناني” إذا وقعت مأذنة(مئذنة) بمصر خاف من طراطيشها في لبنان”.

وبالفعل فقد أثرت ثورة عبد الناصر عام 1952 على الأوضاع اللبنانية، وزادت المعارضة تحركاً ونشاطاً ضد الحكم، مما أجبر رئيس الجمهورية على الاستقالة في 18 أيلول (سبتمبر) 1952([.

وفي عام 1956 وبعد حصول العدوان الثلاثي على مصر من قبل بريطانيا وفرنسا وإسرائيل تداعت القوى اللبنانية لمساعدة مصر مادياً ومعنوياً للاسهام في معركة المصير، وعقد في بيروت في منتصف تشرين الثاني (نوفمبر) عام 1956 مؤتمر لرؤساء وملوك الدول العربية لدعم مصر واتخاذ الاجراءات بنصرتها. وقد قدم رئيس الوزراء يومذاك عبد الله اليافي إلى المؤتمر مشروعاً تضمن وجوب مقاطعة الدول العربية لكل من انجلترا وفرنسا والاستمرار في مقاطعة اسرائيل، غير أن رئيس الجمهورية كميل شمعون وبعض الوزراء رفضوا المشروع، في حين علق الرئيس عبد الله اليافي والوزير صائب سلام بقاءهما في الوزارة على موافقة المجلس على مقاطعة انجلترا وفرنسا، فاذا بالرئيس شمعون يوافق فوراً على استقالتهما. وكان ذللك يعني رفض مشروع دعم مصر في مواجهة العدوان الثلاثي([.

وبدات مرحلة جديدة بين مصر وبعض الزعامات اللبنانية واشتد هذا التعاون بعد إعلان وقيام الوحدة بين مصر وسوريا في شباط (فبراير) عام 1958 مما مهد لقيام الثورة ضد الرئيس كميل شمعون، ولما تولى الرئاسة اللواء فؤاد شهاب في 23 ايلول (سبتمبر) 1958 تطورت العلاقات الثنائية بين لبنان ومصر بشكل بارز وواضح. ولما وقع الإنفصال بين مصر وسوريا عام 1961 واضطرار الجالية المصرية إلى ترك سوريا، فما كان من أهل بيروت والطريق الجديدة خاصة وجامعة بيروت العربية تحديداً إلا أن استقبلت الوافدين استقبالاً حاراً وأمَّنت لهم المسكن والمأوى، كما جرى تماماً عام 1882 بعد هجرة الإمام محمد عبده وبعض المنفيين المصريين إلى بيروت المحروسة، وقد خرج الكثير من أَهالي الطريق الجديدة من منازلهم لايواء الاخوة المصريين القادمين من سوريا، كما أن البيروتيين لم يدخروا وسعاً في دعم مصر عام 1967 فبعد وقوع النكسة تداعى أهل بيروت ولبنان لجمع المساعدات المالية وتقديمها إلى المجهود الحربي في مصر، وقد تداعى الرجال والنساء والأطفال لتقديم مقتنياتهم الذهبية من حلي وأساور ومشغولات ذهبية قدمت يومذاك للسفارة المصرية في بيروت ولوزارة الدفاع في القاهرة.

وفي عام 1968 وعلى اثر الازمة السياسية وتفاعل القضية الفلسطينية، ساهمت مصر بقسط وافر في حل المعضلات اللبنانية والعربية إلى وفاة عبد الناصر في 28 ايلول (سبتمبر) عام 1970. وكانت مصر الوسيط الأساسي بين لبنان والمقاومة الفلسطينية ومن ثم عقد اتفاق بينهما عرف باسم “اتفاق القاهرة”.

وبالرغم من قطع العلاقات السياسية بين الدول العربية ومصر إثر زيارة الرئيس أنور السادات للقدس عام 1977، غير أن مصر استمرت في نشاطاتها الثقافية والتربوية في لبنان والعالم العربي. ولما عادت مصر في أيار(مايو) عام 1989 إلى جامعة الدول العربية نشطت مع سوريا والمملكة العربية السعودية والدول العربية الأخرى لحل الأزمة اللبنانية التي شهدت فعلاً منذ ذلك التاريخ بوادر الحل الذي تجلى باتفاق الطائف الذي عقد بين النواب اللبنانيين في 22 تشرين الاول (اكتوبر) 1989، وكان للرئيس الشهيد رفيق الحريري دور أساسي في التوصل لهذا الاتفاق.

  • العلاقات الثقافية والعلمية بين مصر ولبنان:

تعتبر العلاقات الثقافية والعلمية والتربوية بين مصر ولبنان علاقات قديمة، وقد توثقت مع سيطرة محمد علي باشا على بلاد الشام. وقد اشتهر عنه إرساله البعثات العلمية إلى فرنسا، وبالتالي فإنه لم يميز بين الشاميين والمصريين، بل أرسل بعض الطلاب السوريين مع البعثات العلمية إلى فرنسا. كما أن مصر استقبلت في معاهدها لا سيما الأزهر الشريف الكثير من الطلاب البيارتة واللبنانيين منذ القرن التاسع وحتى اليوم، وقد خصص لهم مع بقية الطلبة السوريين “الرواق الشامي” من هؤلاء: الشيخ محمد الحوت (1795-1860) والشيخ مصطفى الغلاييني (1885-1944) والشيخ أحمد عباس الأزهري (1853-1927) والشيخ عبد الباسط الأنسي (1867-1940) والشيخ حسن المدور (1862-1914) وسواهم.

وفي عام 1879 قررت جمعية المقاصد الخيرية الإسلامية في بيروت في عهد رئيسها الثاني حسن محرم بك إرسال خمسة تلاميذ لمدرسة الطب الخديوية في مصر على نفقة الجمعية. وقد اختارت الجمعية يومذاك كلا من التلامذة: كامل قريطم، عبدالرحمن الانسي، سليم سعد الدين سلام، حسن الأسير، محمد سلطاني([.

وفي عام 1937 قررت جمعية المقاصد الخيرية الإسلامية في بيروت تطوير علاقاتها التربوية مع مصر، فتوجه وفد إلى القاهرة برئاسة رئيس الجمعية عمر الداعوق وعضوية حسن القاضي نائب الرئيس وأنيس الشيخ عضو الجمعية وعبد الله المشنوق مدير ومفتش مدارس الجمعية. وفي القاهرة قابل الوفد الملك فاروق الأول ووضعوه في أجواء أوضاع المسلمين في بيروت ولبنان، مطالبين بالدعم المصري لأعمال الجمعية. وبالفعل فقد ابدى الملك تأييده لخطوة المقاصد، وأوعز إلى وزارة المعارف المصرية التجاوب مع مطالب المسلمين في بيروت. وكان من نتائج هذه الزيارة إبرام اتفاق بين وزارة المعارف المصرية وبين جمعية المقاصد الخيرية الاسلامية نص على تخصيص وزارة المعارف المصرية لكلية المقاصد باستاذين من أصحاب الكفاءة وذلك لتدريس اللغة العربية والأمور الدينية وذلك على نفقة وزارة المعارف، وقبول عشرة طلاب مجاناً في معاهدها العليا، وقبول ست طالبات لاتمام علومهن في دار االمعلمات المصرية، وانتداب وزارة المعارف مفتشة لزيارة مدارس البنات في المقاصد للاطلاع على مناهج التدريس واقتراح ما يلزم من تطوير لها. كما تم الاتفاق مع فضيلة شيخ الازهر الاستاذ محمد مصطفى المراغى على ارسال شيخ من الازهر الى مدارس المقاصد وذلك على نفقة الازهر الشريف. وتم الاتفاق مع فضيلته على قبول بعثة من طلاب جمعية المقاصد في كلية الشريعة الازهرية. وبالفعل ففي عام 1938 ثم ايفاد ثلاث بعثات مقاصدية إلى مختلف الكليات والمعاهد في الجامعات المصرية لا سيما معهد التربية ومعهد دار العلوم وكلية الاداب.

هذا وقد استمرت بعثات المقاصد إلى المعاهد والجامعات المصرية، ومما كان يشجع على استمرار هذه الخطوة، هو ان وزارة المعارف المصرية كانت قد اعترفت رسمياً بالشهادات المدرسية المقاصدية استناداً إلى اتفاقية عام 1944. واقرت هذا الإعتراف المؤسسات التعليمية المصرية بما فيها الأزهر الشريف، مما حرر المقاصد وطلابها من قيود وهيمنة السلطات التي كانت تتبع سياسة تربوية غبر متوازنة في لبنان. بالإضافة إلى أنه ابتداء من عام 1944 بدات الحكومة المصرية تساهم في مساعدة المقاصد بمبلغ مائة الف ليرة لبنانية سنويا([.

وبمبادرة من جمعية المقاصد الخيرية الاسلامية في بيروت والأزهر الشريف في مصر، وصل الى بيروت رئيس جامعة الأزهر ا.د.احمد عمر هاشم في تموز (يوليه) 1997، حيث عقد ثلاث اتفاقيات أكاديمية مع جامعات ومعاهد اسلامية على النحو التالي:

1- اتفاقية مع جامعة بيروت الاسلامية ممثلة بمفتي الجمهورية اللبنانية الدكتور الشيخ محمد رشيد قباني.

2- اتفاقية مع الجامعة الاسلامية في بيروت ممثلة بالامام محمد مهدي شمس الدين رئيس المجلس الاسلامي الشيعي الاعلى في لبنان .

3- اتفاقية مع المعهد العالي للدراسات الاسلامية التابع لجمعية المقاصد الخيرية الاسلامية التي كان يراسها الاستاذ تمام سلام.

وتتضمن هذه الاتفاقيات التعاون الاكاديمي، وإعارات الاساتذة، وتبادل الخبرات والمنشورات، وعقد المؤتمرات المشتركة، وتبادل الرسائل الجامعية، والتعاون فيما يختص المناهج الدراسية….. واستمرت العلاقات العلمية بين مصر ولبنان، فقد حرصت مصر على استمرار تقديم مساعداتها العلمية سواء لجامعة بيروت العربية أو لدار الفتوى في الجمهورية اللبنانية، فقد استمرت جامعة الإسكندرية بارسال خيرة أساتذتها للجامعة، كما استمر الأزهر الشريف بإرسال خيرة علمائه إلى كلية الشريعة في بيروت وإلى مختلف المناطق اللبنانية كأساتذة وعلماء وخطباء. وفي شهر ايلول (سبتمبر) من عام 2008 قدمت جامعة الأزهر خمس عشرة منحة دراسية لطلاب الشرع الشريف في لبنان عبر دار الإفتاء، وذلك للدراسة في مختلف كليات جامعة الازهر على ان يتوزع هؤلاء الطلاب في دراستهم على مراحل الاجازة ومرحلتي الماجستير والدكتوراه. وبذلك قامت مصر بتجديد رسالتها العلمية والثقافية بين مصر ولبنان([.

  • تعاون مصر وجمعية البر والإحسان في تأسيس جامعة بيروت العربية 1960:

بعد ان تم بناء (مدرسة ) ثانوية البر والإحسان عام 1949، بدأت جمعية البر والإحسان تعمل على وفاء ما ترتب عليها من ديون، وذلك مما راحت تقبضه إيجاراً لمدرستها من الدولة، ومن التبرعات والاشتراكات، واستطاعات بعون الله تعالى وفاء هذه الديون في مدة لم تتجاوز ثلاث سنوات والحمدلله.

وفي عام 1945 لاحظ أعضاء الجمعية أن أبناء منطقة الطريق الجديدة يتزايدون، وأن عدد المدارس الموجودة فيها ما يزال على حاله، وخشى أن يتشرد هؤلاء الأيتام في الطرقات، كما لاحظوا أن ليس هناك من يفكر في إنشاء مدارس جديدة، فاقترح أحد الأعضاء على الجمعية، وقد أنجزت بنجاح مشروعها الأول، أن تبني مشروع مدرسة جديدة وقال بأن القدر على ما يظهر، يشير إلى جمعيتنا للقيام بهذا العمل الجليل، لكن من أين للجمعية المال لتنفيذه، وقد لا تقل تكاليفه عن نصف مليون ليرة لبنانية، وصندوق الجمعية خاو من المال، والجمعية لم تسترح بعد من عناء المشروع السابق؟ ولا يوجد في صندوق الجمعية سوى (15) ألف ليرة لبنانية، بينما قارب ثمن الأرض المنوي شراؤها (150) ألف ليرة لبنانية.

وتبين بان مشروع مدرسة البر والإحسان قد ترك للجمعية رصيداً عظيماً من الثقة عند الناس فاذا قامت الجمعية بمشروع جديد فسيكون أيسر تطبيقا من الأول، خصوصاً وأن عضو الجمعية أعد فكرة جميلة لجمع المال بيسر وسهولة وبدون أن يثقل على الناس، بل سوف يقبلون على التبرع بصدر منشرح وقلب مفتوح.ومما أشار إليه مؤرخاً لتلك الفترة قائلاً([:

“لقد درجنا ودرج غيرنا من الناس على جمع المال من الأغنياء للقيام بالمشاريع، لكن فكرتي تنصب على إشراك جميع طبقات الأمة في التبرع، وتتلخص فيما يلي:

إن المبلغ المقدر الذي يحتاجه المشروع هو نصف مليون ليرة لبنانية، وهذا المبلغ بطريقة حسابية أخرى يساوي خمسمئة ألف ليرة لبنانية، ومعنى ذلك أننا بحاجة إلى (5000) شخص يدفع كل واحد منهم 100 ليرة فيقوم المشروع، وأعتقد أنه بالإمكان الوصول إلى مثل هذا العدد من الناس بالدعاية الحسنة، والجهد المتواصل، مع العلم أننا لن نطلب من الناس دفع التبرع دفعة واحدة بل نترك للشخص حرية دفعها على أقساط تتلائم مع إمكاناته لأن البناء لن يقوم مرة واحدة بل سيسير تدريجياً، وفي ذلك تشجيع لذوي الدخل المحدود على التبرع([.

منذ عام 1954 راحت الجمعية تعد العدة وتخطط للعمل فأعلنت عن مشروعها بين الناس بشتى الوسائل: في المساجد وفي المجتمعات والصحف والمنشورات الخاصة، ونفذت فكرة الاكتتاب بمائة ليرة، فاقبل الناس عليها إقبالاً حسناً واكتتبوا بجميع طبقاتهم: سائق سيارة، وصاحب الحانوت، والموظف العادي، ومعلم المدرسة، والتلميذ، والمرأة في بيتها، والتاجر، والملاّك الخ….. وقد شجعهم على ذلك الاقتناع بالمشروع، وثقتهم بالعاملين، وتقسيط الاكتئاب، وقد تخلف عن البذل والعطاء أكثر كبار الأغنياء، الذين هم في شغل عن الخير وأهله.

وكانت الخطوة الأولى البحث عن الارض الملائمة، وبعد بحث وتفتيش طويلين، وجدت الجمعية ضالتها المنشودة، وهي الأرض التي تقوم عليها جامعة بيروت العربية، فاشترتها من رجل سمح كريم، ولما كان صندوق الجمعية آنذاك لا يوجد فيه سوى (15) ألف ليرة لبنانية، بينما ثمن الارض يقارب (150) ألف ليرة، فقد طلبت الجمعية تقسيط المبلغ إلى أقساط تمتد إلى 18 شهراً، فرفض بادىء ذي بدء، لكن مع الإلحاح والرجاء، وشرح المشروع وأهدافه النبيلة، قبل الرجل إسداء الجميل، ولكنه اشترط لذلك كفالة شخصية من رئيس الجمعية الحاج جميل الرواس، ونائب رئيسها أنذاك الصيدلي إسماعيل الشافعي، وامين صندوقها الحاج راشد حوري، فبكل ثقة واطمئنان أجابوه الى طلبه وقدموا الكفالة الشخصية بطيبة خاطر، ووقعوا السندات الموزعة على 18 شهراً([.

وخرجوا من لدنه وكلهم عزم وحماس لجمع المبلغ الضخم الذي تعهدوا به حتى لا يتعرضوا للمسؤولية، علماً بأنهم واثقون بأن الله المطلع على نواياهم وإخلاصهم لن يضيعهم وسييسر لهم المال المطلوب، وهذا ما حصل بالفعل فقد جمعت الجمعية ثمن الأرض ودفعته لصاحبه في مدة لم تتجاوز الشهور الثلاثة والحمدلله.

وما إن تم للجمعية وفاء ثمن الأرض حتى اتصلت الجمعية بأحد كبار المهندسبن وطلبت إليه وضع خرائط للمشروع، وفق مخطط وضعته له، وإذ بالمهندس، وبعد مدة من الزمن، يقدم للجمعية مشروعاً، من الضخامة بمكان، لا يتفق أبداً مع مخطط الجمعية ولا مع ما قدرته له من أموال، وعند الإستفسار عن السبب، أجاب: “بأنكم لن تبنوا كل يوم مدرسة، ورأيت أنه من الأفضل أن تكون مدرستكم عصرية ومتكاملة، وأما المال فلن تعدموا وسيلة لاستدراكه”.

بحثت الجمعية الموضوع، وقد أعجبت بالخرائط التي وجدتها جملية ورائعة، وعزّ عليها أن ترفضها، فأقرتها مستعينة على تنفيدها بالله القوي العزيز. وبين أعوام 1954- 1960، دامت حركة البناء ست سنوات تجمع الجمعية المال خلالها من الناس وتبني، تارة بقوة عظيمة فيعمل في الورشة مائة عامل أو يزيد، وتارة بضعف فيعمل في الورشة الضخمة هذه عاملان أو ثلاثة، وفي هذا الصدد يقول عمر حوري: “وبينما نحن فيه كان القدر يخطط لشيء لم يكن في بالنا ولا حسباننا كان يسيرنا في أعمالنا في الطريق التي يريد دون أن ندري لانه كان يعد المشروع لأمر مهم كان خفياً علينا وظهر لنا فيما بعد فلقد كان يعده ليكون جامعة تضم عشرات الألوف من الطلاب وليس مدرسة لألف تلميذ”.

وتم بحث وضع بناء “الكلية” في اجتماعات جمعية البر والإحسان ففي الجلسة (171) من مساء يوم الجمعة في 12 اذار (مارس) 1957 عقد في دار الرئيس جميل الرواس وحضور السادة: خليل الهبري، راشد الحوري، علي الامام، إسماعيل الشافعي، علي العدو، صالح المكوك، عبد الحميد فايد، عمر حوري، الحاج سليم المدهون، وفي هذا الاجتماع “جرى البحث بالإهتمام بتوزيع المنشور الجديد لحض المحسنين الكرام على التبرع لإتمام بناء الكلية الجديدة، بمناسبة قرب شهر رمضان المبارك، فتقرر توزيعه على أبواب الجوامع وعلى المحسنين بواسطة البوسطة”([.

وفي جلسة الجمعية رقم (172) من مساء يوم الجمعة في 24 أيار (مايو) 1975و عقد اجتماع في دار رئيس الجمعية جميل الرواس وحضور السادة: راشد حوري، اسماعيل الشافعي، عبد الحميد فايد، محيي الدين فايد، عمر حوري، الحاج سليم المدهون، عارف البلعة، وجرى البحث في هذه الجلسة بقضية جمع التبرعات لمتابعة بناء الكلية وحتى لا تتوقف أعمال البناء فأعلن امين الصندوق راشد الحوري “ان الاعمال قائمة والحمدلله بفضل المحسنين الكرام والتبرعات التي تصل إلى العمدة وجميعها مدونة في السجلات الخاصة للكلية المذكورة “([.

والحقيقة فقد دفعت الحاجة إلى المال الجمعية إلى طرق أبواب الدول العربية تطلب منها العون والمساعدة للمشروع، فماذا كانت النتيجة ؟ حصلت الجمعية من بعضها على مساعدات جزئية ولم يحصل على شيء من الجزء الآخر.

وكان من جملة الدول التي تم الاتصال بها الشقيقة الكبرى مصر، فارسلت إلى بيروت بعض المسؤولين يستطلعون الخبر، ليفهموا الفكرة والهدف، وليقفوا على حقيقة الأمر، وبعد مقابلات واستفسارات ومداولات مع السفير المصري اللواء عبد الحميد غالب والشيخ فهيم أبو عبيه وقفوا من خلالها على أهداف الجمعية الطيبة ونواياها الحسنة ورغبتها الصادقة في نشر العلم والأخلاق، ورفعوا تقاريرهم إلى دولتهم على رأسها آنذاك المغفور له جمال عبد الناصر (1918-1970) واذا بخير، يتدفق من مصر على المشروع، فقد قررت مصر العزيزة أن تتنباه بكليته وأن تجعل منه جامعة عربية لأبناء لبنان والبلاد العربية المجاورة واستمرت في دعم المشروع علميا وماديا.

وسافر رئيس الجمعية جميل الرواس ومعه نائب الرئيس إسماعيل الشافعي وأمين الصندوق راشد الحوري عام 1957 إلى مصر، وتشرفوا بلقاء الرئيس جمال عبد الناصر، فقدموا لسيادته شكر الجمعية وشكر لبنان على لفته الكريمة وفضله وعطفه ومحبته بالرغم مما تمر به مصر من مصاعب وأزمات اقتصادية([. فبارك عملهم ودعا لهم بالخير، وخرجوا من لدنه ولسانهم يلهج بالشكر والثناء والدعاء لسيادته ولمصر العزيزة، سائيلين الله أن يوفق مصر ورجالها الأبرار لكل خير وأن ينصرها على أعدائها، وينصر بها العرب والإسلام في كل مكان باذن الله.

في اجتماع الجمعية بالمغفور له الزعيم الخالد جمال عبد الناصر، استاذنته بأن تطلق على الجامعة اسم جامعة جمال عبد الناصر وفاء وتقديراً له، فابى بإصرار، وقال: “ان عبد الناصر زائل، بينما بيروت والعروبة باقيتان، اطلقوا عليها اسم: جامعة بيروت العربية “.

وفي 19 تشرين الأول (أكتوبر) عام 1957 وبعد عودة الوفد من القاهرة عقد اجتماع خاص في دار رئيس الجمعية الحاج جميل الرواس وحضور السادة: عبد الحميد فايد، صالح مكوك، علي الامام، راشد حوري، محي الدين فايد، عارف البلعة، خليل الهبري، اسماعيل الشافعي، فؤاد الحصري، وهيب البلعة، عبد القادر فتح الله، عمر حوري، سليم المدهون. وقام نائب الرئيس اسماعيل الشافعي “باعطاء معلومات مفصلة عن رحلة وفد الجمعية الى القاهرة، وما لقيه من ترحيب من المسؤولين في مصر، وما نالوه من وعود كريمة بشأن إنجاز مشروع الجمعية من الناحيتين الإنشائية والتعليمية المقبلة.

وقد تليت النشرة التي أعدتها الجمعية لنشر نبأ المساعدة المصرية وتعهد الجامعة المقبلة المماثلة في مفاهيمها وطرق دراستها وشهاداتها لأخواتها الجامعات المصرية، فوافق الجميع على الخطة المرسومة فيها وتقرر توزيعها على وجهاء الأمة والمهتمين بهذا الحقل العلمي الشريف”([.

وبعد عودة الجمعية من مصر، دب النشاط العظيم في لبناء وفي الاعداد والتجهيز، لاستقبال الطلاب، وتم بحمد الله كل ذلك في تشرين الثاني (نوفمبر) 1960، وافتتحت الجامعة بعدد من الطلاب لم يتجاوز عددهم ال (114) طالباً في كلية الأداب و(68) طالبا في كلية الحقوق، ثم أخذ العدد في التصاعد حتى بلغ في العيد العشري للجامعة (16000) طالب.

لقد باشرت الجامعة عملها في ظل ظروف صعبة للغاية، فعانت من الضغوط السياسية والطائفية في لبنان. وقد أدركت مصر يومها أهداف هذه التحديات الهادفة إلى تحجيم دورها في لبنان والعالم العربي، وبالتالي إلى عزلها ثقافياً والحيلولة دون قيامها بأداء رسالتها العلمية. ونظراً للعلاقات التاريخية التي تربط مصر بلبنان فقد قررت مصر وجمعية البر والاحسان مواجهة التحديات بثبات وعزم، لا سيما حينما طالبت بعض القوى في لبنان باغلاق كلية الحقوق كي تبقى مهنة المحاماة والتعليم العالي حكراً على فئة دون أخرى. وأغرب ما في الأمر أن نقابة المحامين التي كانت تتألف يومذاك من قوى طائفية أعلنت إضرابا مفتوحاً دام تسعة شهور، كما أن الوزير إدوارد حنين استقال من الحكومة من أجل هذا الموضوع محتجاً على فتح كلية للحقوق في جامعة بيروت العربية. وكان مطلب الوزير والنقابة الأول إقفال كلية الحقوق في جامعة بيروت العربية وصولاً إلى إقفال الجامعة بكامل كلياتها الأخرى. وقد فشل الإضراب في حينه بتكاتف القوى الخيرة في لبنان ودعم السياسة المصرية للجامعة.

هذا، وقد شهدت جامعة بيروت العربية في إطار العلاقات الوطيدة بين مصر ولبنان إِقامة عشر كليات وهي كليات:

الآداب، الحقوق، التجارة، العمارة، العلوم، الهندسة، الصيدلة، الطب، طب الأسنان، العلوم الصحية، ويتفرع منها أكثر من خمسين اختصاصاً. وفي الوقت الذي كان فيه عدد متخرجي الجامعة عدداً محدوداً عام 1964، فإذا بعدد المتخرجين يقفز في عام 2017 إلى أكثر من مائة وعشرة آلاف متخرج من لبنان والعالم العربي، مما كان لهذه الجامعة أبعد الأثر في تقدم ونهضة لبنان والعالم العربي.

تحية إلى مصر عبد الناصر، تحية إلى مصر العروبة، تحية إلى مصر الأصالة، تحية إلى الشعب المصري الأصيل الذي أسهمت في بناء جامعة بيروت العربية جنباً إلى جنب مع الشعب اللبناني الأصيل، ومع جمعية البر والإحسان.