الأساليب الفنية للصور البيانية في خطب نهج البلاغة – د. عطيه أربابي وأ.سید أبو الفضل قدمكاهي

خلاصة

تشهد لنا دراسة نهج البلاغة بجمال الصور البيانية التي تستند إلى أسلوب نقل الحقائق و مواجهة المشاهد بشكل ملموس، الأمر الذي يتسم بالجمال في الأجواء المتضادة أو تجسيد العناصر الحيوانية و المادية، والتي تجعلنا ندرك المفاهيم كلما كانت أكثر حيوية و دينامية. و من هذا المنطلق، تبلغ المفاهيم ذروة جمالها و تأثيرها بكيفية ترتيب الأجزاء و الأشياء في الكلام و الخيال الإنساني بالإضافة إلى الألوان الباردة و الحارة[1] في ارتباطها بالشخصيات الرئيسية في النقاط الذهبية للوحة الفنية.

يحاول الفنان تثبيت التوازن في الصور المبتكرة و استعمال مختلف الأساليب في التصوير البياني و تركيب و تجسيد جماليات هذا العمل البديع، الأمر الذي يعود إلى الظروف السائدة في مرحلة التصوير. ويجدر بنا هنا أن نشير إلى ملاحظتين غاية في الأهمية: 1- التصميم الخارجي للأشياء و العناصر، 2- نوع التلوين غير المباشر للعناصر التي تؤدي إلى تجسيد المفاهيم في الذهن الفضولي للمخاطب و تصويرها بشكل مناسب، لتمزج روح المخاطب بالروح الجميلة و الطاهرة للفنان و كلامه الجميل و الملهم و يفتح أمامه أبواب السعادة و الهداية.

الكلمات المفتاحية: الأساليب الفنية، نهج البلاغة، التصوير البياني، الذهني – التخيلي.

تعريف الفن

﴿هُوَ اللَّهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى﴾‏([2]).

يتضمن الفن نوعاً من المعرفة الباطنية و السماوية يرتبط بنوع من المعرفة الذاتية العرفانية و شهود الباطن، حيث يدرك الفنان الشهود ليتوصل إلى معرفة العالم. و من هذا المنطلق، يعبر باللغة و الإطار الفني عما يراه في جمال الوجود.

آية الله خامنئي: الفن أسلوب بيان معبر و دقيق و نافذ و خالد. التعبير و الدقة و النفوذ و الخلود يساعد على فهم معنى الفن. يجب على كل رسالة و دعوة و ثورة و حضارة و ثقافة أن تدخل ضمن إطار الفن، و إلا فلن تسنح الفرصة لها للانتشار و الخلود، و لن يكون هناك فرق بين رسائل الحق و رسائل الباطل[3].

و يقول كروتشه[4] في تعريف الفن: الفن نوع من شهود الله في ظهور الجمال[5]، وهذا التعريف مستوحى من الأسس العرفانية.

تعريف الأسلوب التصويري

فيمايلي أحد أكثر التعاريف كمالاً لأسلوب التصوير البياني: وجهة نظر بعض الفنانين في التعبير عن أفكارهم و أساليب إبداع أعمالهم و هذه الأعمال مستوحاة من العوامل الخارجية و الجميلة و نوع معين من المعرفة في مكان أو موقف محدد.

ولذلك فإن الأسلوب أو سياق الفنان في ابتكار عمل فني أو تصوير بياني بأسلوب أو تقنية جديدة مستوحاة من العقل المبدع و غير مسبوقة، يسمى الأسلوب الفني و هو يبين طريقة إبداع العمل الفني أو تقنية إيجاد العمل و النظرة الخلاقة و الجمالية للفنان إلى العمل ذاته و العمل النهائي و النص و المعرفة الباطنية مما يمكن له التأثير على نظرة المخاطب بشكل واضح.

الأساليب الفنية في نهج البلاغة

  • الواقعية (Realism)

تشير الواقعية إلى التعبير عن الحقائق الموجودة و العينية دون تدخل المشاعر و الأحاسيس الإنسانية بشكل مستقل عن ذوق الفنان و أسلوب، و هي تشبه عدسة الكاميرا التي تصور الوقائع الموجودة بشكل حيادي. انتشرت الواقعية في القرن التاسع عشر و يبذل أنصارها قصارى جهدهم في التعبير عن الحقائق الاجتماعية الموجودة[6].

سوف نشير في هذا القسم إلى أقوال لأمير المؤمنين عليه السلام و التي تضع المخاطب أمام بحر من الحقائق و تصور ما يحدث بشكل واقعي و حقيقي و تجعل وجوده و تنفيذه للمستمع أمراً ملموساً و متجسداً و قابلاً للإدراك. و لذلك يدخل المخاطب إلى قلب الكلام و يحاول إدراك المفاهيم و المفردات التي تعبر عن الحقيقة:

«ینْحَدِرُ عَنِّی السَّیلُ، وَ لا یرْقَی إِلَی الطَّیرُ»[7]؛

يشير أمير المؤمنين عليه السلام في هذه العبارة إلى ذروة عالية مزينة بالثلوج تشق المياه الدافقة طريقها كسيل عات حتى تصل إلى سهل واسع و ترويه و تقدم له البركة و السعادة من ينابيع و أنهار لا تنتهي، تعجز الطيور عن التحليق إلى ذروته و ليس لها من مأوى و ملجأ سوى سفوحه، و يأتي أمير الكلام من هذه الذروة التي لا تعادلها في ارتفاعها ذروة أخرى، ليكون منبعاً للخير و البركة للبشرية بأكملها، و يشير إلى أن الجبال الأوتاد بحاجة إلى ذروة تخفف سرعة الرياح العاتية و تلتقطها و تحولها إلى مطر يروي الأراضي العطشى و يملؤها بالماء.

إن هذا التصوير البياني البديع للجبال و الينابيع و المروج المحيطة بها و الطيور التي تحلق في السماء، لوحة فنية حقيقية و واقعية يمكن تسجيلها بواسطة عدسة الكاميرا بشكل غاية في الوضوح و الشفافية.

«تَخالُ قَصَبَهُ مَدارِىَ مِنْ فِضَّة، وَ ما اُنْبِتَ عَلَیها مِنْ عَجیبِ داراتِهِ وَ شُمُوسِهِ خالِصَ الْعِقْیانِ وَ فِلَذَ الزَّبَرْجَدِ. فَاِنْ شَبَّهْتَهُ بِما اَنْبَتَتِ الاَرْضُ قُلْتَ: جَنِىٌّ جُنِىَ مِنْ زَهْرَةِ كُلِّ رَبیع وَ اِنْ ضاهَیتَهُ بِالْمَلابِسِ فَهُوَ كَمَوْشِىِّ الْحُلَلِ، اَوْ مُونِقِ عَصْبِ الْیمَنِ. وَ اِنْ شاكَلْتَهُ بِالْحُلِىِّ فَهُوَ كَفُصُوص ذاتِ اَلْوان قَدْ نُطِّقَتْ بِاللُّـجَیـنِ الْمُكَلَّـلِ»[8]؛

لوحة فنية جميلة و بديعة مكونة من تراكيب مبتكرة من الألوان تدفع بذهن المخاطب إلى التركيز على هذه الأدوار، لكي يكتشف و يدرك مهارة الفنان في التصوير البياني و اعتماده الدقيق على الواقعية. إنه فنان محترف و ماهر يقوم بتركيب أزهار الربيع على أجنحة طاووس بهي الطلعة ليضع القارئ أمام حديقة من الأزهار و البراعم و ينقل مهارته و يعبر عنها في منتهى الوضوح.

صورة بيانية بهية و جميلة من الألوان الباردة و خاصة الأخضر و الأزرق و أخيراً الفضي. أجنحة الطاووس المفرودة كقرص الشمس أخضر اللون يعكس الشمس الجميلة لأصحاب المذهب، وهذا ما يزيد من جمال العمل الفني. طوق جميل مرصع بالياقوت و الزبرجد و عنق جميل أزرق اللون جعل الطاووس أميراً مدللاً بملابس من الحرير.

طاووس تشبه أجنحته البيضاء الحرير الشرقي المفروش على الأرض، يشكل جواً من الرؤى و الأزهار و البراعم الحمراء التي تسير عبر مجموعة من الألوان الخضراء، مما يعبر عن الحس الفني و الذهن الخلاق للفنان في إيجاد هذا الأثر البديع.

«لایخالِفُ سالِفَ اَلْوانِهِ، وَ لایقَعُ لَوْنٌ فى غَیرِ مَكانِهِ. وَ اِذا تَصَفَّحْتَ شَعْرَةً مِنْ شَعَراتِ قَصَبِهِ اَرَتْكَ حُمْرَةً وَرْدِیةً، وَ تارَةً خُضْرَةً زَبَرْجَدِیةً، وَ اَحْیاناً صُفْرَةً عَسْجَدِیةً.([9])؛

ومن أجمل ما تتضمنه هذه المجموعة، لوحات أمير المؤمنين عليه السلام الجميلة في سلسلة الطاووس، والتي تمثل اختيار قسم جزئي من عمل فني رائع يصور دور الألوان، حيث تمكنت هذه التحفة الفنية من التحف الأدبية من تقديم مزيج من الألوان إلى ذهن المخاطب و ناظريه يجعله يطيل النظر إليها ليتابع الحركة الدقيقة للفرشاة و التركيب المحترف للألوان و الحركة المموجة التي يمكن لها أن تخلق المزيد من الهدوء و السكون في فكر المخاطب، وتعبر عن حركة الفرشاة الدقيقة في مختلف أجزاء هذا النسيج الفني و الفريجة من نوعها في هذا المجال، لأنها مزجت بين فن التصوير الواقعي و المينياتور الشرقي.

أما الألوان الباردة، فهي مستوحاة إلى جانب بعضها البعض من فن الظلال الداكنة الخضراء و الزبرجد المذهب، مما يؤكد على النظرة الحكيمة للفنان و يعبر عن مزج اللون الأصفر و الأخضر و تعيين الحد بين الأخضر و الأزرق بشكل جيد، وهو أسلوب في تركيب الألوان تجلى فيما بعد في الفن الإيراني الشرقي بشكل كامل. يتحرك اللون الأزرق من سمته الهادئة إلى القوة ثم يمتزج باللون الأصفر الذهبي ليعبر عن أكثر الألوان المركبة محورية لدى الفنان. هذا الأسلوب في الرسم أسلوب فريد من نوعه و يتمتع بقيمة استثنائية. و رغم أن اللون البيج الذهبي يمتزج مرة أخرى باللون الأساسي، أي الأخضر، ليجعل الناظر يطيل النظر إليه حتى نهاية المسير، لكن هذه التفاصيل في العمل الفني في ريشة الفنان الدقيقة، أمر يدعو للعجب. إنها صورة بيانية لم يتمكن من الوصول إليها سوى القليل و النادر من الفنانين.

  • الرومانسية (Romanticism)

تعبر الرومانسية عن تجسيد المشاعر و العواطف بشكل بارز و عميق مقابل العقل. إن ما يتضمنه هذا الأسلوب بشكل عام يتمثل في نزعة الإنسان إلى الخيال و الرؤى و الأحداث التاريخية و الأراضي المجهولة و يمكن استعمال هذه المشاعر بشكل إيجابي أو سلبي لوضع المخاطب أمام مجموعة من الجماليات على الجانبين؛ و لذلك فإن الرومانسية تعتبر عن تجسيد و خلق إثارة و شعور لطيف في المخاطب[10].

ظهر هذا الأسلوب في أواخر القرن الثامن عشر الميلادي و قد توجه بمعظم حالاته إلى الأعمال الشاعرية و العاطفية. و لذلك فإن الرومانسية التي ترى بأن الإحساس للإحساس و العواطف للعواطف تلعب دوراً هاماً في التعبير عن الأعمال الفنية الحديثة.

و يتضمن كلام أمير المؤمنين عليه السلام التعبير عن أي موضوع يلامس المشاعر الإنسانية و يثيرها، وذلك حتى يلم المخاطب الشريان الحيوي للإحساس و الشعور و يدرك مفهومه و يندمج بالموضوع، و سوف نشير إليه.

«وَ لَقَدْ بَلَغَنى اَنَّ الرَّجُلَ مِنْهُمْ كانَ يَدْخُلُ عَلَى الْمَرْاَةِ الْمُسْلِمَةِ وَالاْخْرَى الْمُعاهَدَةِ فَيَنْتَزِعُ حِجْلَها وَ قُلْبَها وَ قَلائِدَها وَ رِعاثَها، ما تَمْتَنِعُ مِنْهُ اِلاّ بِاِلاْسْتِرْجاعِ وَ الاِسْتِرْحامِ، ثُمَّ انْصَرَفُوا  وافِرينَ، ما نالَ رَجُلاً مِنْهُمْ كَلْمٌ، وَلااُريقَ لَهُمْ دَمٌ.  فَلَوْ اَنَّ امْرَءاً مُسْلِماً ماتَ مِنْ بَعْدِ هذا اَسَفاً ما كانَ بِهِ مَلُوماً، بَلْ كانَ بَلْ کانَ بِهِ عِنْدِی جَدِیراً»[11]؛

أفراد مصابون و أطفال مضرجون بالدماء و نساء و بنات مظلومات، صورة بيانية تحمل الكثير من المشاعر في التعبير عن هذا المشهد. يلجأ أمير المؤمنين عليه السلام بهدف التأثير على المخاطب و إثارة مشاعره و إحساساته و غيرته الدينية إلى تصوير لوحة فنية كلامية تثير مشاعر المخاطبين. تصور هذه اللوحة امرأة مشردة يغمرها الاضطراب في جو مضطرب بثوب ممزق و شعر تعمه الفوضى و وجه مضرج بالدماء نتيجة لهجوم وحشي من قبل أهل الذمة. إن ما نستشفه من هذه اللوحة الفنية البديعة ليس سوى جو رمادي من الألوان و المصائب النازلة على أضعف الأفراد. إن هذه الصورة البيانية التي ترتجف لها القلوب تريد إثارة الغيرة العربية النائمة و إيقاظها، تريد إثارة غضب المسلمين لكي يتمكن أمير المؤمنين عليه السلام من تشكيل جيش من الأفراد الضعفاء في ذلك العصر، لعله يكون مرهماً على الجرح الذي سببته هذه المصيبة العظيمة.

«اللَّهُمَّ قَدِ انْصَاحَتْ جِبَالُنَا، وَ اغْبَرَّتْ أَرْضُنَا، وَ هَامَتْ دَوَابُّنَا، وَ تَحَیرَتْ فی مَرَابِضِهَا وَ عَجَّتْ عَجِیجَ الثَّكَالَى عَلَى أَوْلاَدِهَا، وَ مَلَّتِ التَّرَدُّدَ فی مَرَاتِعِهَا، وَ الحَنِینَ إِلَى مَوَارِدِهَا»[12]؛

صحراء جافة و حرارة لاذعة، أرض وعرة و مليئة بالشقوق، أغنام هزيلة تكاد عظامها تكون مرئية و نوق منهكة من التعب و كأنها فقدت أولادها و هي تعاني من شدة العطش و المصاعب و الجفاف. كل ذلك جزء من صورة بيانية جافة و عديمة الروح و تسرب ذهني يستشفه المخاطب من التعبير عن كلام أمير المؤمنين عليه السلام، حيث يمكننا أن نسمعه و هو يردد كلمة “اللهم” كبارقة أمل و الوضع في منتهى اليأس و الخيبة التي تعبر عنها السحب الداكنة في هذه الصورة البيانية بشكل واضح، مما يشير إلى جمال تعابير أمير المؤمنين عليه السلام في الاستسقاء. إن الألوان الداكنة و الغامضة في خلفية اللوحة هي ألوان مخنثة تظهر بشكل واضح و السماء الزرقاء تتخلى عن لونها الأزرق لأشعة الشمس الحارقة ذات الألوان الأصفر و الأحمر و أحياناً البرتقالي لكي تنقل الشعورباليأس بشكل دقيق[13]. تنقل هذه اللوحة مفاهيم الجفاف و الأمل سوية في نهاية البساطة. يصور أمير المؤمنين عليه السلام أشجار النخيل الجافة ذات الأوراق المحترقة في منتهى الجمال.

«قَلَّ یا رَسُولَ اللّهِ عَنْ صَفِیتِكَ صَبْرى، وَ رَقَّ عَنْها تَجَلُّدى، اِلاّ اَنَّ لى فِى التَّاَسّى بِعَظیمِ فُرْقَتِكَ، وَ فادِحِ مُصیبَتِكَ مَوْضِعَ تَعَزٍّ. فَلَقَدْ وَسَّدْتُكَ فى مَلْحُودَةِ قَبْرِكَ، وَ فاضَتْ بَینَ نَحْرى وَ صَدْرى نَفْسُكَ. فَاِنّا لِلّهِ وَ اِنّا اِلَیهِ راجِعُونَ»[14]؛

إن أكثر لوحات الفنان الشهير و الشهيد أمير المؤمنين عليه السلام تأثيراً، لوحة فراق بين زوج سماوي و إلهي. لوحة يغمرها الحزن الذي ألقى بظلال ثقيلة عليها. الأسود و الرمادي يملآن جو اللوحة لأن الفنان تمكن من تركيب العناصر في اللوحة بشكل احترافي مبيناً وحدته بين الخلق و مقدماً لنا لوحة فنية بديعة يغمرها جو ميت من الجمادات والعناصر ذات الألوان المخنثة، مما يشير إلى أهمية الموضوع. تعتبر اللوحة بوضوح عن تشييع جثمان التمت حول تابوته مجموعة قليلة العدد من الأفراد، و أطفال يعضون على أكمامهم و المقبرة و التابوت أمامهم في منتصف الليل و انعكاس لذكريات الماضي في أزقة بني هاشم الضيقة.

باب منزل محترق، طفلة باكية. لوحة تمكنت من نقل الشعور الحقيقي للفنان تجاه ألم الفراق. إن الأنوار التي تسلطها السماء على الجثمان المدفون في هذا الليل، تزيد من جمال اللوحة ولذلك فاللوحة تمثل الشعور بألم فراق حبيب انتقل إلى رحمته تعالى و تبين إيماناً قوياً بالحقيقية الأبدية التي تعبر عنها الألوان و الأدوار.

«فَلَقَدِ اسْتُرْجِعَتِ الْوَدیعَةُ، وَ اُخِذَتِ الرَّهینَةُ»[15]؛

يحمل هذا التصوير البياني الماهر، و رغم أبعاده الصغيرة، مفاهيم كبيرة و قصة طويلة تتخللها الارتفاعات والانخفاضات.

لوحة مليئة بالمشاعر و الأحاسيس و الآلام التي يمكننا أن نستشف من خلالها الكلام المخفي و الظاهر بشكل دقيق و جيد، إنها لوحة مليئة بالشكوى، نلاحظ فيها ارتجاف يد الفنان في كل آثار ريشته البديعة. لوحة عروج ملكوتي يسافر الراحل فيها بجناح مكسور إلى سماء فتحت له ذراعيها. و يحكي هذا الطيران حكاية العودة إلى الملكوت لحمل وديعة من الأرض و إعادتها إلى مكانها الأصلي. تمثل اللوحة الفنية البديعة رحلة سيدة إلى السماء وهي ترتدي ثوباً من البياض و تشق طريقها عبر السحاب إلى الملكوت الأعلى ليرشدها أهل الملكوت إلى مبدأ النور. و يشير تحليق الطيور حولها إلى الملائكة التي هبت لاستقبالها و إعادة هذه الأمانة الثمينة إلى صاحبها.

  • الرمزية (Symbolism)

يتمثل الأسلوب الرمزي في التعبير عن الحقائق الموجودة في المجتمع بشكل رمزي و غير مباشر لتجسيد الأعمال الفنية و الصور البيانية باستعمال الرموز و العناصر غير الغريبة عن المخاطب الذي يتمكن من إدراك قصد الفنان، و رغم أن الفنانين الرمزيين يسعون للتعبير عن مشاعرهم بواسطة الرموز، لكن هذه الرموز تؤثر بشكل جيد في ذهن المخاطب[16].

إن استعمال الرموز في التعبير عن الكلام لأجل إيصال المفهوم الكامل في أقصر تعبير ممكن يقترن ببحر من الكلام و المفاهيم و التعاليم، قد قدمه أمير المؤمنين عليه السلام بالتمام و الكمال في نهج البلاغة.

«وَ اِنَّهُ لَیعْلَمُ اَنَّ مَحَلّى مِنْها مَحَلُّ الْقُطْبِ مِنَ الرَّحى، ینْحَدِرُ عَنِّى السَّیلُ، وَ لایرْقى اِلَىَّ الطَّيْرُ »[17]؛

ومن التصاوير الرمزية، بروز عمل فني برمز أو قيمة أو شخص ما كمركز للاهتمام. إنه فنان تمكن من إضافة كل شيء إلى لوحته الجميلة بدقة. لوحة تمثل طاحونة حجرية تتموضع في محور اللوحة في النقطة الذهبية و دوران الطاحونة حول محورها يؤكد على المحور و كأنه عمود خيمة لا تساوي الخيمة أي شيء دونه.

لقد تمكن الفنان بشكل جيد من تجسيد الطاحونة كرمز للوجود و قطب يقع مركزه في محور دوران العالم. لقد ترك الفنان ريشته تفرض تأثيرها بالتصميم و الألوان و هي ترسم حول الطاحونة كمية من الحبوب مما أضفى على اللوحة روحاً جديدة حيث يؤدي دورانها إلى ازدهار العمل و توفير الرزق، هذه الولاية عجلة خلق الوجود و محور و عالم يمتد و يتحرك بواسطتها «السبب المتّصل بین الارض و السماء»[18]. و لذلك فإن عدم قبول ولاية أمير المؤمنين عليه السلام يؤدي إلى زوال الطاحونة و خروجها عن محورها الرئيسي و التسبب بصدمات و أضرار لعجلة الوجود، حيث تمكن الفنان من تصوير هذا الأمر باستعمال الأسلوب الرمزي بشكل جميل و أنيق. في الخطبة 119، نلاحظ لوحة مشابهة يصور فيها الفنان خطر زوال قطب الطاحونة بشكل جيد حيث تحتك قطعتا الطاحونة ببعضهما البعض و للمحور المركزي حكم التوجيه و الإرشاد و التوازن[19].

«تَزُولُ الجِبَالُ وَلاَ تَزُلْ! عَضَّ عَلَى نَاجِذِكَ أَعِرِاللهَ جُمجُمَتَكَ، تِدْ فی الاَرْضِ قَدَمَكَ، ارْمِ بِبَصَرِكَ أَقْصَى القَوْمِ، وَغُضَّ بَصَرَكَ وَاعْلَمْ أَنَّ النَّصْرَ مِنْ عِنْدِ اللهِ سُبْحَانَهُ»[20]؛

يصور أمير المؤمنين عليه السلام هذه اللوحة الفنية الجميلة في معركة الجمل عندما يودع راية المعركة في يد ابنه محمد حنفية. عندما يريد أمير المؤمنين عليه السلام أن يرسل جندياً إلى ساحة المعركة، ينقل إلى أعين المخاطب أسطورة من الشجاعة و الجرأة و البطولة حتى يقوم المخاطب برؤيتها بشكل واضح و تترسخ في ذهنه. محارب مغوار يركز أنظاره على العدو بقامته العالية، و يضغط على أسنانه من شدة الغضب و يضرب رجله بالأرض كثور غاضب. إن تصوير المحارب ذي القامة الضخمة يشمل اللوحة بأكملها و يضفي رمحه نوعاً من الأبهة عليها ولا يرى في صفوف العدو سوى الضعف و الهزالة و هو يراقب شجعان ساحة المعركة من بداية الجيش إلى نهايته في حدقتي عينيه. لقد أضفت الألوان النقية و العميقة و ملابس الحرب نوعاً من الجمال على هذه اللوحة الفنية الرائعة.

«كَاَنِّى بِكِ یا كُوفَةُ، تُمَدِّینَ مَدَّ الاَدیمِ الْعُكاظِىِّ، تُعْرَكینَ بِالنَّوازِلِ، وَ تُرْكَبینَ بِالزَّلازِلِ. وَ اِنّى لاَعْلَمُ اَنَّهُ ما اَرادَ بِكِ جَبّارٌ سُوءًا اِلاَّ ابْتَلاهُ اللّهُ بِشاغِل، اَوْ رَماهُ بِقاتِل»[21]؛

و في وصف الكوفة، يمكننا أن نشير إلى لوحة تصور ساحة مدينة مدخلها معلوم و تصور جماعات متنوعة و سيوفاً مستعدة للحرب و نساءً و أطفالاً في خضم من الخوف و الرعب و المنازل تتعرض للنهب و السرقة و الضعفاء يتعرضون للموت. لا أحد يرحم أحداً و اللصوص يستغلون الفرص فيسرقون المال و يسبون النساء. الكوفة من مصاديق مدن البلاء و المصائب و اللعنات و هي رمز للخيانة منذ قديم الزمان و معروفة بالقتل و إراقة الدماء و لم ينعم أهلها طوال التاريخ بأي نوع من الهدوء. إن ما نلاحظه في هذه اللوحة الفنية المثيرة، قابل للتقسيم إلى ثلاثة بنود مستقلة:

  1. إن نوع تصميم هذه اللوحة الفنية و الذي يتضمن الكثير من الخطوط و الانكسارات العديدة و ازدحام العناصر، يشير إلى الحوادث المريرة و الاضطراب السائد في هذه اللوحة.
  2. إن الألوان المختلفة التي تحتوي عليها اللوحة و وجود أفراد مختلفين بملابس و أوجه مختلفة، يشير إلى الاضطرابات و التحولات التي شهدتها المدينة طوال التاريخ و لا زالت تشهدها حيث تمكن الفنان من استعمال الألوان الباردة و الساخنة و المكملة في منتهى الدقة و الكمال.
  3. بدأ التصميم الفريد لعمارة المدينة من بداية اللوحة و استمر حتى نهايتها خاضعاً للعديد من التغييرات بريشة الفنان الماهرة و الألوان القاتمة واللامعة مما يشير إلى مرور الزمن و تناوب الأجيال.

وتستند كافة الحالات المذكورة أعلاه إلى كلام مولى المتقين و أمير المؤمنين عليه السلام و في النهاية يبين أنه لن يتعرض أحد للظلم إلا إذا قضت إرادة الله بذلك.

«وَ لَقَدْ كانَ الرَّجُلُ مِنّا وَ الاْخَرُ مِنْ عَدُوِّنا یتَصاوَلانِ تَصاوُلَ الْفَحْلَینِ، یتَخالَسانِ اَنْفُسَهُما اَیهُما یسْقى صاحِبَهُ كَأْسَ الْمَنُونِ»[22]؛

إن اللوحة الجميلة لحرب الرجل إلى رجل، من سمات الحروب العربية و تتميز بصورها البيانية الرائعة و الفريدة من نوعها؛ و لذلك لا يمكننا أن نغض النظر عنها بسهولة و نتجاهل ببساطة التفاصيل التي قدمها الفنان لنا. وتعتبر خلفية اللوحة من أهم النقاط التي يجب التركيز عليها هنا، لكي نتمكن من النظر إلى الجو الذي يقدمه الفنان و بيئة المعركة و المحاربين. إن الجو الساخن و السحاب و تلألؤ أشعة الشمس الغارب يضفي المزيد من الجمال على اللوحة ويزيد من الإثارة في اللوحة. و نلاحظ في اللوحة الأشخاص المحيطين بالمحاربين و أعينهم تكاد تخرج من مكنها و هم يراقبون الفائز النهائي و ينادون مع كل صوت و يدورون مع كل حركة، تتحرك أيديهم مع حركة زميلهم المحارب و تارة يجلسون وطوراً يقفون. إن تصوير هذا الجو عمل في غاية الصعوب لا يقدر عليه سوى من لديه الخبرة العميقة في ساحات الحروب و المبارزات الثنائية.

إن الإنسان مثل شجرة ذات ثمار و محاسن، مفيد، و يمكن للجميع أن يستفيد منه. و قد يكون الإنسان مثل شجرة مصابة بالآفات و لا يمكن لأحد أن يستفيد منها، بل و تسبب الأضرار كذلك. و لذلك يطلق على هذا النوع من الناس مصطلح الشجرة غير المثمرة أو المثمرة و نلاحظ هذه المصطلحات في الأمثال و العبارات الرائجة و المتداولة. إن التصوير الرمزي لهذه العلامة يمعنى كمال الأصالة و النبع الذي يروي الأرض. لقد تمكن الفنان المعروف في هذه اللوحة من تصوير الشجرة الطيبة المتمثلة رحمة العالمين في رسول الله عليه الصلاة و السلام في هذا السهل الواسع المتمثل في الخلق؛ لأنه يصف الطهارة الكاملة للرسول و آل بيته مستنداً إلى آية التطهير و بين هذا التصوير البياني و الآية الكريمة التالية ارتباط استوحاه أمير المؤمنين عليه السلام من اللوحة القرآنية ﴿أَلم تَرَ كَیفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَیبَةً كَشَجَرَةٍ طَیبَةٍ أَصلُها ثابِتٌ وَ فَرعُها فِی السَّماءِ[23]﴾.

و بناءً على ما تقدم ذكره، سنتطرق الآن إلى الصور البيانية لهذا الفنان العظيم و التي ترسخت في أذهان البشر من الماضي إلى المستقبل. عبر هذه السهول العظمى وبين هذه الأشجار الرائعة (الرسل و الأولياء)، تتموضع أفضل و أجمل الأشجار و أكثرها شموخاً و ثمراً، شجرة خضراء متألقة بأغصان طويلة و كثيفة و مقاومة و جميلة ليس فيها أي انحناء او اعوجاج، يمتد ظلها ليشمل العالم بأسره و تتساقط من عظمتها ثمار غنية باتجاه الأرض لتصل إلى يد الطالبين. الجميع ينعم بثمار هذه الشجرة الطيبة و يتظللون بظلها. يضعنا الفنان أمام لوحة تصور جذور هذه الشجرة الطيبة الضاربة في أعماق تراب الوجود الصافي، و جذعها القوي الذي يمتد من بدء الخليقة و حتى أوراق الحاضر و ثماره الغنية مما يدفع لسان حال المخاطب إلى امتداح هذا الفنان و استحسان عمله و الإعجاب به كثيراً.

  • الانطباعية (Expressionism)

وتعني الإثارة و ظهور رد فعل من قبل المشاعر الباطنية للإنسان حيث يلجأ الفنان إلى هذه الأسلوب الفني لأجل إيجاد الإثارة الشديدة و الانطباع الكبير داخل المخاطب. يمكننا تمييز الانطباعية عن سائر الأساليب الفنية من خطوطها المكسرة و المزدحمة، و هذا الأسلوب الفني متداول منذ أولى الأعمال الفنية البشرية. ربما يمكننا أن نشاهد هذا الأسلوب بشكل واضح لدى الفنانين الإيرانيين و الشرقيين بشكل واضح و جلي. و لذلك فإن الانطباعية أسلوب للتعبير عن الحالات الباطنية للإنسان و البيئة الخارجية التي تستوحي من الطبيعة المحيطة بها. هذه الحالات تشمل الغضب و الدموع و العديد من الحالات الباطنية المعقدة، رغم أن هذا الأسلوب يبين كذلك الانطباعات الباطنية و النفسية للفنان ذاته[24].

و يسعى الفنان ليضفي المزيد على الإثارة الناجمة عن الكلام التصويري و يؤثر على المخاطب ليجعله كالمسمار واقفاً في مكانه محدقاً بعظمة اللوحة الفنية الموجودة أمامه بحيث يصعب أن يخرج هذا المخاطب من حالة التأثير التي يخضع لها.

«فَما راعَنى اِلاّ وَالنَّاسُ كَعُرْفِ الضَّبُع اِلَىَّ، ینْثالُونَ عَلَىَّ مِنْ كُلِّ جانِب، حَتّى لَقَدْ وُطِئَ الْحَسَنانِ، وَ شُقَّ عِطْفاىَ، مُجْتَمِعینَ حَوْلى كَرَبیضَةِ الْغَنَمِ»[25]؛

إن الصور البيانية التي يقدمها الفنان لنا واصفاً كل ما رآه و حدث أمامه بلغة التعبير و بفرشاته الشهيرة، تشكل لوحة من الحالات المختلفة التي تنقل الهجوم و الفرح بشكل مقترن إلى ذهن المخاطب.

رجل مغوار في اللوحة، يقف في النقطة الذهبية على يمينها و يتجلى بشكل واضح، يعبر وجهه عن تعب الأيام و إرهاق السنين و تتجسد الجرأة في عينيه لتفرش بساطاً على شفاه طفل و تجلس البسمة عليه. العمامة التي تسقط عن الرأس و الاضطراب الناجم عن الوصال أمر واضح على الوجه. إن الألوان الساخنة التي يستعملها الفنان تضفي شعوراً مثيراً على اللوحة. جماعة من الناس بقامات مختلفة، نساء و فتيات ينظرن من بعيد. إن ما يزيد من جمال اللوحة هو الأفراد الذين يزيدون من ازدحام اللوحة و هم يحاولون الوصول بأيديهم لأجل البيعة ملتمسين ما يريدون من مركز اللوحة. إن وجود شابين بين هؤلاء الناس يدل على أن نظر الفنان الثاقب لم يغفل حتى عن أبعد النقاط المختفية و ذلك لكي يتمكن من وصف هجوم الناس و ضغطهم بشكل جيد. إن الزاوية التي تبين لنا تمزق لباس هذا الأسد القوي، واضحة من الطرفين تجعل الجميع يحبسون الأنفاس.

و يكمن جمال هذه اللوحة الرائعة في تنوع ألوان الملابس التي تبين الفروقات الطبقية بين الناس و الأقوام المختلفين. أما الإثارة فهي ناجمة عن وصال البيعة التي كانوا ينتظرونها حيث يتضح من اللوحة شغفهم و تزاحمهم على أداء البيعة، كما نلاحظ بوضوح الشرايين النافرة الناجمة عن هذا الضغط و الإثارة في اليدين حيث صورتها ريشة الفنان بدقة و مهارة، وهنا يمكننا القول أن هذه اللوحة انطباعية تماماً.

«كَأَنِّى بِمَسْجِدِكُمْ كَجُؤْجُؤِ سَفینَة، قَدْ بَعَثَ اللّهُ عَلَیهَا الْعَذابَ مِنْ فَوْقِها وَ مِنْ تَحْتِها، وَ غَرِقَ مَنْ فى ضِمْنِها»[26]؛

تبين اللوحة الانطباعي المذكورة الشعور المضطرب و الإثارة العميقة للراوي و الفنان الذي يترك مصير الناس في كناية جميلة و مبتكرة لريشته الماهرة و الدقيقة، لترسم لوحة واسعة تجعل أنظار المخاطب في ذهاب و إياب بين بدايتها و نهايتها. محيط متلاطم الأمواج، يظلل بإحدى أمواجه العاتية سفينة، و يدار فوق سطحها أمطاراً غزيرة من المياه.

تصور اللوحة سفينة موجودة في قلب هذه العاصفة و التي أصبحت جدرانها هشة من كثرة ما لطمتها الأمواج و تكسرت صواريها و تمزقت أشرعتها، و أفراداً معلقين بالصواري و الأشرعة يمسكون بأصابعهم بحواف الأخشاب المكسرة لجدران السفينة لعلهم يعثرون على بارقة أمل في العدم. كما تصور اللوحة نساءً يحتضن أطفالهن و هن في حسرة و شعرهن مبلل، خائفات من غرق أطفالهن و أعينهن اغرورقت بالدموع و يكدن يلفظن أنفاسهن الأخيرة.

البعض يواجه الأمواج و هم عائمون و البعض الآخر تتطاير أرواحهم و تتلاقف الأمواج جثثهم و كأن بعض الأيدي تمتد باتجاه السماء لتطلب الرحمة الإلهية و حدوث المعجزة حيث نلاحظ أمواج البلاء تحل عليهم من السماء و الأرض.

«وَ اسْتَحَرَّ الْمَوْتُ، قَدِ انْفَرَجْتُمْ عَنِ ابْنِ اَبى طالِب انْفِراجَ الرَّأْسِ. وَ اللّهِ اِنَّ امْرَءاً یمَكِّنُ عَدُوَّهُ مِنْ نَفْسِهِ یعْرُقُ لَحْمَهُ، وَ یهْشِمُ عَظْمَهُ، وَ یفْرى جِلْدَهُ، لَعَظیمٌ عَجْزُهُ، ضَعیفٌ ما ضُمَّتْ عَلَیهِ جَوانِحُ صَدْرِهِ. اَنْتَ فَكُنْ ذاكَ اِنْ شِئْتَ، فَاَمّا اَنَا فَوَاللّهِ دُونَ اَنْ اُعْطِىَ ذلِكَ ضَرْبٌ بِالْمَشْرَفِیةِ تَطیرُ مِنْهُ فَراشُ الْهامِ، وَ تَطیحُ السَّواعِدُ وَ الاَقْدامُ»[27]؛

يمكننا أن نعتبر اللوحة الموجودة أمامنا شاشة عرض حقيقية لحجم كبير من الأدرينالين في دم المخاطب، مما يشير في الحقيقة إلى إثارة مضاعفة. تروي اللوحة حكاية القتال و عشاق الجهاد. للوهلة الأولى، يشير التركيب الجميل للفنان إلى حضور أسد القتال في ساحة المعركة و يضعه في مركز اللوحة لكي يتمكن من تصوير القريب و البعيد و كافة جوانب الأمر. لقد استعمال الفنان تركيب الألوان الساخنة في التعبير عن الاضطراب في هذه اللوحة البيانية بشكل جيد. كما قام الفنان بتصوير الحركات التي يقوم بها االمحارب بالسيف و الرمح و عبر عن مرونة جسمه و تمكن من جذب انتباه المخاطب الدقيق و منحه الشعور الحقيقي و كأنه في ساحة الحرب يتابع المجريات.

و فضلاً عن تصوير المحارب المغوار و هجوم العدو الغدار، تصور اللوحة عدداً من الجنود و هم يهربون و عدداً آخر يتراجع و ينسحب من الساحة، و كأنهم يتخلون عن قائدهم خوفاً على أرواحهم. كلما ابتعدوا عن هذا الأسد يتعثرون و يقعون و سيوف العدو المكار تنال منهم حظاً عظيماً و تستولي على أموالهم و جثثهم تتمزق تحت حوافر الخيل. لا أحد يجرؤ على مواجهة قائد ساحة المعركة حتى يدخل إليها.

إن ما نستشفه من هذه اللوحة هو أن الساحة حول حيدر الكرار عليه السلام أصبحت خالية من المحاربين، و منهم أنصاره ضعيفو الإيمان و أعداؤه الجبناء، و لذلك نلاحظ اللون المخنث يطغى على هذا الجو. و تصور اللوحة كذلك كيف يضرب السيف الجمجمة فيسحقها و يجعلها زبدية تملؤها الدماء و العظام. تعبر اللوحة بكافة تفاصيلها عن الإثارة المتمثلة في هروب الأنصار الذي يدعو للاشمئزاز و خوف الأعداء الشديد و رقص السيف العلوي في ساحة الحرب مما يمنح الشعور بالشجاعة و البطولة في قلب أنصار أمير المؤمنين عليه السلام.

«وَ عَضُّوا عَلَى النَّواجِذِ، فَاِنَّهُ اَنْبى لِلسُّیوفِ عَنِ الْهامِ. وَ اَكْمِلُوا اللاّْمَةَ، وَ قَلْقِلُوا السُّیوفَ فى اَغْمادِها قَبْلَ سَلِّها، وَ الْحَظُوا الْخَزْرَ، وَ اطْعُنُوا الشَّزْرَ، وَ نافِحُوا بِالظُّبا، وَ صِلُوا السُّیوفَ بِالْخُطا»[28]؛

اللوحة المشار إليها أعلاه، لوحة انطباعية لاحظنا ما يشبهها في الأسلوب الواقعي حيث تمكن الفنان فيها من وصف موضوع ثابت بأسلوبين مختلفين ليثبت براعة الفنان. يبين أمير المؤمنين عليه السلام حالة المحارب الذي يكز على أسنانه و يظهر غضبه بأسلوب المحارب و يدرع ملابسه القتالية بالفولاذ لكي يظهر جسمه أكبر و أضخم و يوقع الرعب في قلوب الأعداء. ومن جهة أخرى، عندما يركز على تفاصيل المقاتل نلاحظ حالة إمساك قبضة السيف و الضغط عليها بشكل يبرز شرايين اليد. قبضة السيف تدور و السيف يخرج من غمده مما يشعر بالمخاطب بأن الهجوم قريب.

الخطوط المكسرة للرماح و التي تجول من الأسفل إلى الأعلى و من اليسار و اليمين، تشعر المخاطب بأن العبور عبرها أمر مستحيل و أن موت العدو حتمي. إن حركة السيف و رقصه في الهواء تجعلنا نسمع صوت ضربات السيف عبر خطوط الملونة في معركة تميز فيها الألوان الساخنة الجيش المنتصر عن جيش لا لون له.

«كَانّى بِهِ قَدْ نَعَقَ بِالشّامِ، وَ فَحَصَ بِرایاتِهِ فى ضَواحى كُوفانَ، فَعَطَفَ عَلَیها عَطْفَ الضَّرُوسِ، وَ فَرَشَ الاَرْضَ بِالرُّؤُوسِ.قَدْ فَغَرَتْ فاغِرَتُهُ، وَ ثَقُلَتْ فِى الاَرْضِ وَطْاَتُهُ. بَعیدَ الْجَوْلَةِ، عَظیمَ الصَّوْلَةِ. وَ اللّهِ لَیشَرِّدَنَّكُمْ فى اَطْرافِ الاْرْضِ حَتّى لا یبْقى مِنْكُمْ اِلاّ قَلیلٌ كَالْكُحْلِ فِى الْعَینِ»[29]؛

تعبر هذه اللوحة عن ظهور السفياني و حركاته هو و أنصاره. صورة بيانية بديعة لمدينة لا تحميها أبراجها و تحيط بها رايات سوداء و حمراء؛ مدينة من الموتى و القتلى يأخذون أطفالها مكبلين بالأصفاد و نساءها و بناتها سبايا عاريات. إذا نظرت إلى الأرض جيداً فسوف ترى الرؤوس المقطوعة المضرجة بالدماء و التراب و الموضوعة كالبلاط تحت أرجل المهاجمين. جيش يطوق أنحاء المدينة و أفراده مسلحون حتى أسنانهم يراقبون المدينة من فوق المرتفعات و الأبراج و الصخور و المآذن مما يمنع أي شخص من العبور من هذا المكان الذي يستحيل فيه حتى على الذبابة أن ترفرف و تطير.

سيوف حادة تضغط بحدقها و غضبها على الأعناق و تجعل الموت سيد الموقف. تضفي هذ اللوحة الشعور بالخوف لدى المخاطب و تصور بدقة حزن و مأتم و مصيبة و يأس و ذل من نجا من المصيبة. إن الرايات التي تصورها اللوحة تمنح الشعور بالتسلط على العناصر الموجودة.

«فَاحْذَرُوا عِبادَ اللّهِ عَدُوَّ اللّهِ اَنْ یعْدِیكُمْ بِدائِهِ، وَ اَنْ یسْتَفِزَّكُمْ بِنِدائِهِ، وَ اَنْ یجْلِبَ عَلَیكُمْ بِخَیلِهِ وَ رَجِلِهِ. فَلَعَمْرى لَقَدْ فَوَّقَ لَكُمْ سَهْمَ الْوَعیدِ، وَ اَغْرَقَ لَكُمْ بِالنَّزْع  ِ الشَّدیدِ، وَ رَماكُمْ مِنْ مَكان قَریب»[30]؛

إن الصور البيانية التي يقدمها لنا أمير المؤمنين عليه السلام، عرض انطباعي بلون و تركيب مختلف و مشاهد منقطعة النظير يزيد من إثارة اللوحة. و تصور اللوحة كذلك شيطاناً يجذب صوته الموسيقي الساحر البشر مما يجعل من الصعب التمييز بين الرجال والنساء و يضعنا أمام صورة يسيطر فيها ذوو الملابس السوداء بسيوفهم و رماحهم و غضبهم على الموقف و هم مستعدون للهجوم مما يلقي الرعب في قلب أي كان.

الجنود الذين يرتدون الأسود، وجوه من اللحم والدم تزيد من ثقل الصورة وتمنح الشعور بالهجوم الشامل مما يزيد من إثارة الموقف. و تصور اللوحة على رأس هؤلاء شيطاناً يسيطر على الموقف و ينفث ألسنة اللهب من وجهه، يضع سهماً كبيراً على قوسه وأظافر يده تضغط عليه بشدة و كأنه أمام الهدف و لا يخشى أن يخطئه. لوحة مليئة بالإثارة في كافة أنحائها.

إن الألوان التي استعملها الفنان في الإشارة إلى الأبنية و الشياطين و جيشهم، قريبة من بعضها و تتمايز عن الناس الحاضرين. تركيب يراعي الفنان فيه التوازن جيداً و يسعى ليضع الشيطان الرئيسي في مكان مناسب و قريب من الهدف. كما أن الرعب و الخوف و الهرب و الازدحام يزيد من إثارة اللوحة.

«وَ دَلَفَ بِجُنُودِهِ نَحْوَكُمْ، فَاَقْحَمُوكُمْ وَلَجاتِ الذُّلِّ، وَ اَحَلُّوكُمْ وَ رَطاتِ الْقَتْلِ، وَ اَوْطَاُوكُمْ اِثْخانَ الْجِراحَةِ، طَعْناً فى عُیونِكُمْ، وَ حَزّاً فى حُلُوقِكُمْ، وَ دَقّاً لِمَناخِرِكُمْ، وَ قَصْداً لِمَقاتِلِكُمْ، وَ سَوْقاً بِخَزائِمِ الْقَهْرِ اِلَى النّارِ الْمُعَدَّةِ لَكُمْ»[31]؛

عندما كنتم تشاهدون لوحة الشيطان المذكورة أعلاه، كان يرمي الناس القريبين منه بأربعين سهماً، و رؤية هذه اللوحة أمر لا بأس به حيث تبين إغواء الشيطان و قدرته على السيطرة على البشر و تسلط هذا العاصي أكثر من اللازم.

يطلق الشيطان سراح الإنسان من جو عبادة الله و يخرجه من بساتين العبودية و يسمم ينابيع العشق النقية بسم العصيان و يقود الإنسان إلى صحارى الحقد و النفاق حتى يمد يده إلى ما تبقى منها من مستنقعات الحياة الدنيا.

بضرباته المستمرة و المثيرة، يجرحه و يطيح به أرضاً، حتى لا يتمكن من الحركة ﴿قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ﴾[32]ويطلق سهامه الملوثة بسم الوسوسة و الهوس و يغطي بها نظر الإنسان «النَّظَرُ سَهمٌ مَسْموُمٌ مِنْ سِهامِ اِبلیس».[33]

يقع الإنسان في مسيرته في فخاخ الشيطان التي ينصبها له و يضع فيها خنجر الذنوب و المعصية على حنجرته و يضغط بيديه المخضبتين بالدماء على جمجمته و يضرب جدار الظن و التهمة ليخرج حطام عظام الأفكار البيضاء و لا يترك في رأسه سوى السواد. و يصبح جسم الإنسان المسلوب كضبع جائع تسيطر عليه مخالب الوسواس و تقوده إلى جهنم التي تمتد ألسنة لهبها منذ مدة طويلة بحيث ترى من بعيد.

السوريالية

السوريالية أو الفواقعية ” فوق الواقع ” يمكن أن تكون مزيج من فوق الواقع و الحلم ، حيث يمكن للفنان تحويل الآثار الحقيقية الموجودة إلى مركب غير واقعي . الأمر البارز في هذا النهج هو الشعور التخيلي القوي أو فوق الواقعية التي يعجز الآخرون عن فهمها و لا يستطيعون ذلك و لا القدرات البشرية الإحاطة بها [34].

بين الخطابات لا يمكن العثور إلا على القليل من الآثار في هذا النوع من نهج الفواقعية كما في باقي أنواع النهج . و لكن الشيء المتوفر هو ما تم أخذه عن المعرفة الإلهية و قدرات الإمام السابع ، التي يجهلها الآخرون ، تماماً كما هو الحال عندما يرسم الفن مشهداً في الذهن يجعل الجمهور في حالة استغراب بحيث لا يستطيع تجاهله ، وكذلك لا يستطيع لمسه أو تصوره بعقله و معرفته المحدودة .

«ثُمَّ فَتَقَ مَا بَینَ السَّمواتِ الْعُلا، فَمَلاَهُنَّ اَطْواراً مِنْ مَلائِكَتِهِ. مِنْهُمْ سُجُودٌ لایرْكَعُونَ، وَ رُكُوعٌ لاینْتَصِبُونَ، وَ صافُّونَ لایتَزایلُونَ، وَ مُسَبِّحُونَ لایسْاَمُونَ، لایغْشاهُمْ نَوْمُ الْعُیونِ، وَ لا سَهْوُ الْعُقُولِ، وَ لا فَتْرَةُ الاَبْدانِ، وَ لا غَفْلَةُ النِّسْیانِ. وَ مِنْهُمْ أُمَناءُ عَلى وَحْیهِ، وَاَلْسِنَةٌ اِلى رُسُلِهِ، وَ مُخْتَلِفُونَ بِقَضائِهِ وَ اَمْرِهِ»[35]؛

إن تصوير نهج فوق الواقع ، استطاع إظهار الحقائق المخفية وراء الستار ، و أن يجلب تلك الحقيقة إلى الذهن من كلام الأمام السابع  بشكل جميل . إن اللوحة الجريئة للهيبة النورانية للملائكة على هيئة بيضاء اللون بأجنحة بيضاء ، هي تصميم استثنائي و فريد في جمال القوام و الحجم و توازن الجسم مع جناحين رائعين الذي تمت إضافته إلى تناسب القوام ، و كما تم عرض صباغ من اللون الأبيض ، حيث استطاع الرسام من خلال الأصبغة اللازوردية و اللون البني المصفر ، و في النهاية إضافات خضراء صغيرة ، صباغ ملونة ، بحيث أن دقة ريشة الأستاذ بالإضافة إلى دقته في الرسم الكريستالي ،يضفي جمالاً على منظر الصورة . كما سعى الرسام إلى التعبير عن قصده و غايته من خلال   الإيحاءات المادية لهذه العناصر ، و دورها في جلب انتباه الجمهور و تأثيرها على العالم المادي.

إن صياغة تركيب الحركة  الدورانية لهم في العالم الكوني قد أضاف إلى اللوحة نوع من الحركة المذهلة ، و ذلك لأن الرسام تعمد إبراز بيئة في مركز اللوحة ، تمنح تأثيراً من النظرة التركيبية للرسام . بالرغم من أن بعضهم في وضعية السجود و البعض الآخر في وضعية الركوع ، بحيث أن الشيء الذي يظهر في الصورة هو أنهم لم يكلفوا بأمر سوى هذا العمل . و في هذا الصدد ، نرى بعضهم الآخر بجناحين مبسوطين أو منقبضين في حالة صعود و هبوط لمقابلة الأنبياء و تنفيذ الأوامر الإلهية ، مما يضيف جمالاً مضاعفاً على هذا العمل الإبداعي .

«ثمَّ جَمَعَ سُبْحانَهُ مِنْ حَزْنِ الاَرْضِ وَ سَهْلِها، وَ عَذْبِها وَ سَبْخِها، تُرْبَةً سَنَّها بِالْماءِ حَتّى خَلَصَتْ، وَ لاطَها بِالْبِلَّةِ حَتّى لَزُبَتْ، فَجَبَلَ مِنْها صُورَةً ذاتَ اَحْناء وَ وُصُول، وَ اَعْضاء وَ فُصُول. اَجْمَدها حَتَّى اسْتَمْسَكَتْ، وَ اَصْلَدَها حَتّى صَلْصَلَتْ، لِوَقْت مَعْدُود، وَ اَجَل مَعْلُوم. ثُمَّ نَفَخَ فیها مِنْ رُوحِهِ فَمَثُلَتْ اِنْساناً ذا اَذْهان یجیلُها»[36]؛

إن الصور الفنية لخلق الإنسان الذي يقوم الملائكة بعجنه من مزيج الماء و الطين، و باستخدام الطين اللزج، يقومون بصب و بنحت الجسد البشري ، كما أنه قام برسم و تصميم انحناءات الجسم الإنساني و تفاصيل الجسم البشري ، في نحت هذا التمثال الجميل حيث منحه مظهر جسد جميل في غاية الدقة و الكمال ، تم تلوينه بلون موحد متجانس و ناعم ، لقد تم استخدام فكر و تصميم فريد من نوعه لا سابق له ، حيث تم إشغال أيدي الملائكة في الصناعة و الصياغة الفنية لذلك الجسد بصبر و فن ، و يقومون بنحت قوام الجسم ، و من القسم الذي يشمل شكله الدائري أجزاء و عناصر ، يصنعون جزء من أجل الرؤية و جزء من أجل السمع و الهمس ، كما قاموا بإظهار أصابعه ، و من أجل إضفاء منظر جيد على عقد و أشكال الأصابع ، تم رسم خطوط بصباغ أخضر على سطح الأصابع  تسمى عروق، مما أضاف على جمال هذا الخلق تناغماً و انسجاماً في هذا الوصف .

” في الليلة الماضية رأيت الملائكة في الحانة يجبلون طين الإنسان و يصبونه في القوالب ” [37]

«وَ اَنْشَأَهُمْ عَلى صُوَر مُخْتَلِفات، وَ اَقْدار مُتَفاوِتات، اُولى اَجْنِحَة تُسَبِّحُ جَلالَ عِزَّتِهِ»[38]؛

إن الصورة الإبداعية التي تتراءى في الذهن من خلال هذا الكلام ، تشير إلى صورة مركبة تتشكل من مجموعة من  الأجزاء المتغيرة ، التي تزيد الخطوط المنحنية بجمال تام ، و تنقل إلى عقل و عين المشاهد أناقة و نعومة روح الفنان برفقة مشهد إبداعي .

لوحة اندمجت فيها الألوان الباردة و الدافئة إلى حد كافي ، حيث أن وجودها جنباً إلى جنب بهذا الشكل الجيد يستدعي الإيحاءات الروحية . لقد تم إيجاد تناغمات لونية بيضاء ، التي من خلال دمجها مع الألوان الأخرى تنقل الصفاء و الصدق و النقاء الداخلي للعمل ، لينشأ في مخيلة المشاهد تصور عن أسطورة التسليم و العبودية و الطاعة . من جهة أخرى ، تم رسم و تلوين حالة الأعين و تدلي الأجزاء و الأطراف بكل تواضع ، من أجل إظهار حالة التسبيح الإلهي . إن نظرة الفنان التي تم إسقاطها على لوحة الرسم من خلال خطوطه الدقيقة الناعمة و المعقدة ، تظهر حكاية الطيران في روح و جسد الملائكة . و ذلك لأن الأجنحة الطويلة و الواسعة ، ستجتاز خلال طرفة عين مسافة كبيرة ، و ستكون وسعة الكون تحت أجنحتها العريضة و الواسعة ، قطرات صغيرة و تافهة في العين .

  • التحليل

نظراً لمساحات الصورة  وحالاتها و ظروفها المكانية ،  فإن الوصف الكلامي له أهمية كبيرة . بما أن أكبر استخدام صوري من قبل الإمام السابع كان بطريقة التعبير عن الموضوع أمام المخاطب ، لذلك يبدو أن جميع الأنماط المرئية تم استنباطها من الشرح المرئي لكلامه ، تمت في مكان و زمان مناسبين .

إنه يرى أن النمط الواقعي أو الحقيقي أكثر ألفة بالنسبة للروح النقية للإنسان و قد حاول غالباً استعمال هذا النهج في إعداد أعماله ، و في الخطوة الثانية كان يستخدم طريقة الإثارة ، الممزوجة مع روح اللغة العربية و الشروط الزمانية للحروب المتتالية . أنماط الرمزية و العاطفية و في النهاية الفواقعية ” فوق الواقع ” تأتي في المراتب التالية بعد الصور المستنبطة من كلامه .

الجدول رقم 3ـ1: أساليب التصوير الفني في خطب نهج البلاغة

إن الصور البيانية المستنتجة من كلام أمير المؤمنين عليه السلام تتعلق بفترة حكومته عليه السلام ونظراً لعددها الكبير يمكننا القول بجرأة أن أمير المؤمنين عليه السلام لجأ إلى مختلف أساليب التصوير الفني في خطب نهج البلاغة لأجل ترسيخ الكلام في روح المخاطب.

إن استعمال مختلف أساليب التصوير الفني في خطب نهج البلاغة حسب نوع المخاطب و زمن التصوير و تقييم حاجة المخاطبين، فقد كان عليه السلام يسعى لرد الشبهات و إصلاح ما انحرف عن مسيرته الرئيسية. و فضلاً عن فقد حدثت ثلاث معارك كبيرة في عهد أمير المؤمنين عليه السلام بين المسلمين و أغلب الصور البيانية ترتبط بهذه المرحلة.

ولذلك فإن أساليب الواقعية و الانطباعية ذات استعمال أكبر في هذه الصور البيانية. إن بيان وقائع الحاضر و المستقبل و كل ما يمكن للمخاطب أن يرممه في ذهنه بما في ذلك نظرة أمير المؤمنين عليه السلام، يساعد على إدراك أفضل من قبل المخاطب لهدايته إلى الصراط المستقيم.

النتيجة

نستنتج من دراستنا لكلام أمير المؤمنين عليه السلام و الصور البيانية الموجودة فيه أنه عليه السلام لجأ إلى أساليب التصوير الفني و استعملها بشكل جيد لنقل المفاهيم و ترسيخ كلامه؛ و لذلك نشهد أساليب مركبة من الكلام و الصور البيانية التي تشمل المكان والزمان بشكل جيد.

ورغم أن أغلب هذه الأعمال تعود إلى عهد أمير المؤمنين عليه السلام، لكنه عليه السلام كان يسعى إلى تقديم كلام يشمل هذه الأساليب الفنية المختلفة لتصوير الحقائق و المظاهر العاطفية و تمييزها عن المؤشرات الرمزية و المثيرة إضافة إلى نقل حوادث و وقائع فواقعية ذات نظرة جديدة إلى المخاطب.

إن دراسة الصور البيانية الموجودة في نهج البلاغة، تشير إلى أن أمير المؤمنين عليه السلام لجأ إلى قدرة التصوير البياني ساعياً لترسيخ كلامه في ذهن المخاطب على المدى الطويل و القصير بما يتناسب مع الجو الموجود في الصورة البيانية بحيث يترك ريشته الماهرة والسحرية ترسم الصورة البيانية المناسبة للموضوع. لقد تمكن أمير المؤمنين عليه السلام بدقة ذهنه من ابتكار صور بيانية مختلفة و صغيرة لكنها مليئة بعالم من المفاهيم و المقاصد، مستفيداً من أساليب التصوير الفني لجعل عالم الخيال قابلاً للتصوير بألوان مختلفة. إن الأعمال المتأثرة بالعوامل الجغرافية حوله و الأحداث التاريخية والمحلية، تحتوي على سوابق ثقافية تلفت نظر المخاطبين حيث نلاحظ من خلال البحث فيها نسبة التأثر بالأساليب الفنية على مسير الهداية و السعادة أو الشقاوة والتعاسة.


[1] الألوان الباردة (الأزرق، الأخضر، الفيروزي و الفضي) وهي تتمتع بخواص مهدئة. الألوان الساخنة (الأحمر، الوردي، الأصفر، الذهبي و البرتقالي) وهي تشير إلى مشاعر و أحاسيس مختلفة تتراوح بين التفاؤل البحت إلى العنف الشديد. يمكن للألوان المذكورة أن تمنح الإنسان حالات نفسية مختلفة مثل الإثارة أو الغضب. الألوان المركبة (بارد/ساخن) مثل الأرجواني و السوسني و البنفسجي وما شابهها، مهدئة و مثيرة. الألوان المخنثة مثل البني و البيج و الحليبي و الرمادي و الأبيض و الأسود تجعل الإنسان ينتبه إلى سائر الألوان الموجودة إلى جانبها، وبعض الألوان مثل الأسود والبني والبرونزي والذهبي والبيج ألوان ساخنة بينما يعتبر الأبيض والحليبي والفضي والرمادي من الألوان الباردة.

[2]. سوره الحشر/ 24.

[3]. الفن من وجهة نظر آية الله خامنئي، طهران، دار الثقافة الإسلامية، 1994م.

[4] بندتو كروتشه، أكبر فيلسوف إيطالي معاصر من مواليد 1866م إيطاليا.

[5] رحماني، مهري، مقالة تحليلية على وجهة نظر بندتو كروتشه و الفن الشهودي، مجلة دنياي سخن العدد 82 عام 1998م

[6] موسوعة الفنون/ روئین باکباز، اصول الفلسفة و المدرسة الواقعية، المجلد 1، الصفحة 81

[7] نهج البلاغة صبح صالح، الخطبة3.

[8]. الخطبة 165.

[9]. الخطبة 165.

[10] سیدحسیني، رضا، المدارس الأدبية۱. ج. الأول. الطبعة 10. طهران: دار نكاه للنشر، 1992م ، صفحة 163 و 164.

[11] الخطبة 27.

[12]. الخطبة115.

[13] ایتن، جوهانز،رنج ایتن، مترجم، محمد حسین حلیمي، دار جاب و انتشارات، 2015م، الطبعة 14

[14]. الخطبة202.

[15]. الخطبة 202

[16] سیدحسیني، رضا، المدارس الأدبية۱. ج. الأول. الطبعة 10. طهران: دار نكاه للنشر، 1992م ، ج2، صفحة 532 ،531

[17]. الخطبة3.

.[18] دعاء الندبة.

[19]. وَ اِنَّما اَنَا قُطْبُ الرَّحى تَدُورُ عَلَىَّ وَ اَنَا بِمَكانى، فَاِذا فارَقْتُهُ اسْتَحارَ مَدارُها، وَاضْطَرَبَ ثِفالُها. هذا لَعَمْرُ اللّهِ الرَّأْىُ السُّوءُ.

[20]. الخطبة11.

[21]. الخطبة 47.

[22]. الخطبة56.

[23]. ابراهیم/ 24.

[24] سید حسیني، رضا؛ المدراس الأدبية، طهران، نكاه، 2005م، الجزء الثاني، ص 712-707-702.

[25]. الخطبة3.

[26]. الخطبة13.

[27]. الخطبة34.

[28]. الخطبة 66.

[29]. الخطبة 138.

[30]. الخطبة192.

[31]. الخطبة 192.

[32]. سوره حجر/ 39.

[33]. محمّد باقر، مجلسي، بحارالانوار، بیروت، مؤسسة الوفاء، 1403، ج 104، ص 38.

[34]أنوشه, حسن ( مشرف ) , موسوعة الأدب الفارسي ( موسوعة الأدب الفارسي 2 ) , طهران , مؤسسة الطباعة و النشر في وزارة الثقافة و الإرشاد الإسلامي , 1997 , الطبعة الأولى , ص 836

[35]. الخطبة1.

[36]. الخطبة 1

[37]غزليات حافظ الشيرازي

[38]. ، الخطبة91.