افتتاحية العدد الرابع: ثقافة المجتمع وتحديد المصير

بقلم: الدكتور علي مهدي زيتون

رئيس مجلس امناء جامعة المعارف ورئيس الملتقى الثقافي الجامعي

a.m.zaitoun@hotmail.com

ثقافة أي مجتمع، أو أيّة أمة ليست ترفاً يتسلى بنسجه مثقفو ذلك المجتمع أو تلك الأمة. تبدأ حكاية الثقافة, موضوعياً وعلمياً, مع أزمات وتحديات يواجهها المجتمع, وتطال حياته السياسية والإجتماعية والإقتصادية والمعرفيّة, فينبري مفكرو الأمة ليتعرفوا على تلك الأزمات والتحديات , وليضعوا حلولاً لها.

 البعد المعرفي الذي يتعلق بفهم مقومات الأزمات والتحديات من جهة, وبإيجاد الحلول الناجعة لها من جهة ثانية, هي ثقافة المرحلة التي سرعان ما يجري تجاوزها, من خلال ولادة أزمات وتحديات جديدة طارئة تتطلب فهماً جديداً وحلولاً جديدة.

الثقافة حر كة دائبة لا تهدأ, ولكنها ليست حركة متفلتة من أية ضوابط.

توجد قيم متعالية تتعلق بإنسانية الإنسان, ولا تقف عند حقوقه فقط, تتجاوز الحقوق إلى التكريم الذي يُعدّ الغاية التي يجب أن يسعى إلى تحقيقها الإنسان على الأرض.

يعني أن ثقافة أية مرحلة, بقدر ما تعبّر عن هموم الناس في مرحلة ما, يجب أن تكون موسومة بعلاقة التكريم التي يجب أن تظل حاضرة.

ولا يعني ذلك أنّ طريق الثقافة واضحة المعالم باستمرار. فهموم الناس في دول مجتمعنا العربي هموم شديدة التعقيد والتشظي. وإذا سأل سائل عن حقيقة هموم الناس في المجتمع اللبناني: هل هي هموم ذات طابع موحّد, تستدعي ثقافة غير هجينة؟وهموم الناس في هذا البلد العربي أو ذاك, هل هي ذات نَفَس واحد تتطلب ثقافة متصفة بالعافية؟

حركة نماء ثقافة المجتمع العربي سائرة على إيقاع ما رسمه الإستعمار الغربي لها, إذا أرادت أن تنطلق من الأزمات والتحديات الهجينة التي حدّدها الإستعمار لتحرّف الثقافة عن المسار السليم.

الإستعمار الغربي, وقبل مغادرته ديارنا بسبب كلفة ذلك البقاء فيها، والذي يفوق ما يجنيه من أرباح, رسم للقضاء العربي مستقبله. قطّع أوصال المجتمع العربي إلى دويلات ذات وظائف, تحكمها المصالح الغربية, وزرع وسط تلك الدويلات, دولة مسخاً في فلسطين, تمثل كياناً وظيفياً, هدفه المحوري تعويق مجتمعاتنا عن أي شكل من أشكال النهوض. وإذا كانت ثقافة أي مجتمع, وثقافة المجتمع العربي واحدة منها, قادرة على التعالي على أزمات المجتمع المحلّي، وذلك بالإفادة من التجارب الثقافيّة العالمية الناجحة، وبمحاولة قراءة المشكلات المحليّة من خلالها،فإنّه لا يعني أنّ النجاح سيتحقّق بشكل حتميّ؛ لأنها لن تستطيع أن تاتي بقادة حركتها من المريخ أو أن تستوردهم من أي مجتمع أخر.

ولئن كانت التحديات التي تواجهنا معروفة: قوامها العدو الصهيوني من جهة, والحدود المصطنعة التي تحرس حكاماً أمّن لهم الغرب أنظمة سياسية تجعلهم يتناسلون على هيئة واحدة مع كل ما يمكن أن يعترضهم من أزمات من جهة ثانية, فإنّ عين الغرب ساهرة على مصالحه في ديارنا من وضع اليد على المواد الأوليّة التي تختزنها أرضنا, وجعلِنا سوقاً استهلاكيّة لما تنتجه مصانعه من بضائع, يتدخّل دون إذن من أحد, حين ترى عينه تلك ما يهدّد مصالحه من خطر سواء تعلق الأمر بموارده المباشرة في مجتمعنا, أو بأي شكل من أشكال التهديد للعدو الإسرائيلي حارس تلك الموارد. وممّا يجدر ذكره في هذا المقام, أنّ تلك العين مترائية بوضوح في الوضع الذي يعيشه لبنان هذه الأيام. يعني أنه على علاقة وثيقة بالأهداف الغربية من وضع اليد على الثروة النفطية اللبنانية هذه المرّة, وحماية الكيان الصهيوني مما بات يتهدّده في لبنان.

ويدفعنا هذا إلى القول إن تحرير الثروات العربية, وليس اللبنانية وحدها, من يد مغتصبيها, وتحرير فلسطين من براثن العدو الصهيوني هو التحدي المحوري الذي يواحهه مجتمعنا. ومعرفة التحدي المحوري لا يعني أننا بتنا نملك ثقافة قادرة على النهوض  بالمهمّات المطلوبة . إنتاج الثقافة يحتاج إلى وجود مفكرين امتلكوا ثقافة عصرهم من ناحية، وهم قادرون على طرح اسئلة محرجة عليها من ناحية ثانية. ووجود مثل هؤلاء المفكرين لا يكفي, لا بد من وجود مثقفين، قادةٍ تاريخيّين تضلعوا بما أنتجه المفكرون من ثقافة، وهم قادرون في الوقت نفسه، على ترجمتها على أرض الواقع.

ومما يجدر ذكره في هذا المقام, أنّ العرب قد عرفوا تجربة تحتاج إلى دراسة لنفيد منها. عنيت بالتجربة قيام الوحدة بين القطرين المصري والسوري مرّة, ومحاولة إقامة وحدة بين العراق وسوريا مرّة أخرى. وإذا لم تكن تلك التجربة تعبيراً عن ثقافة عميقة ناجمة عن فهم عميق للتحديات, ولا تمتلك من مقومات القوة ما يحميها, فإننا بحاجة إلى أكاديميّة علميّة تطرح على مفكري الأمة الأسئلة الحرجة التي تحتاج إلى إجاباتهم التي تقدمهم منظّرين حقيقيّين لثورة مجتمعنا، وفرز قادة لها عابرين الطوائف والحدود المصطنعة، مجترحين ثورة تطيح بالأنظمة المتخلّفة والفساد. إن ثورة كهذه هي المطلوبة. فهي الكفيلة ليس بإيصال الإنسان العربي إلى حقوقه فحسب, ولكن بإيصاله إلى درجة التكريم عبر عزّة يتمتع بها وتمثل أنموذجاً عالمياً يصل بإنسان العصر على الأرض إلى أن يكون مكرماً.

ومجلّة  تتبنّى هذا الخيار قد تصل إلى تلك الأكاديمية التي تستقطب مفكرين عرباً وغير عرب وتصل بالإنسان العربيّ إلى مأمنه.