كتاب العدد الرابع

كتاب العدد:

كتاب محمد السيرة السياسية

  • تقديم : الدكتورة هيفاء سليمان الإمام

 

في استحضار لتاريخ امتنا العربية العريقة ، حضر سيدنا ونبينا الكريم محمد بن عبد الله بن عبد المطلبﷺ، ، في كتاب مفكر عظيم التحليل والدراسة، لوقائع حدثت في تاريخنا فانتجت ما انتجت من خير  للإنسانية ، واستغلت ما استغلت لانتاج سلبيات علينا تحاشيها والاستفادة من تجاربها، لذا كان هذا الاختيار له كي يكون كتاب العدد الرابع من مجلة وميض الفكر للبحوث.

فلأن إسلام اليوم في محنة، و صورته مشوهة في أنظار غير العارفين، بحيث بات  مرعباً لمن لا يدرك مقاصده ، ومن لا يعرف حقاً بأنه رحمة للعالمين، ورسالة إنسانية،

فهو اسلام الناس وليس اسلام النص الجامد ، ولا إسلام المجموعات التي أسرته، فكانت أول ضحايا الجهل والتعصب والفهم القاصر لتعاليمه ومقاصده العظيمة ،  (نعم.. لقد كان إسلامهم ضد الإسلام).

فالأسئلة تلح بهدف تقديم أجوبة مقنعة وحقيقية ومنها: أهذا هو الإسلام الذي نادى به محمدﷺ ؟؟ هل الإسلام مخيف إلى هذا المستوى؟ هل هو كذلك في الأصل ؟ هل المطلوب فيه تقليد الماضي أم الاجتهاد والابتكار واعمال العقل ليعيش الحاضر ويصنع المستقبل؟؟

لهذا كله، جاء كتاب (محمد.. السيرة السياسية) للاستاذ نصري الصايغ وهو الباحث والمفكر المسؤول، ليسلط الضوء على بشرية الرسول وقيادته السياسية دون المساس برتبته النبوية.

ففي هذا الكتاب القيم، أراد الباحث العودة الى الأصل، ليغوص في وقائعه التاريخية، يحللها يبحث في ثناياها عن اجوبة شغلت العالم الحاضر.

فاليقين بنظره كاذب، والحقيقة ملتبسة، وهذا ليس شكاً بالأصل، إنما تشكيك في من يراود الأصل بالرغبات والميول السائدة اليوم، فالنص القرآني أصل محفوظ ، وانما هو اخرس ينطقه الرجال.

ان العقائد المجمدة تأسر الدين في ماضيه وتمنع عن عينه معاينة حاضره ومستقبله، فتقدمه بصورة نمطية موروثة شديدة الالتصاق بالمنقول، وكثيرة الشك بالمعقول، هذا ما يجعل الكاتب متهم بالاعتداء على المقدس .

 فالفكر خطر على بعض رجال الدين (رغم دعوة القرآن الكريم في حوالي 1300 آية الى الفكر والتفكر واستعمال نعمة العقل).

وباسم الدفاع عن الدين يتم اغتيال التاريخ وإهمال الواقع.

من هنا ازدادت الحركات السلفية التي تبرهن بشكل مبرم، على ان الاقامة في طمأنينة الثبات يولد العودة الى “السلف الصالح”، بكل ما تدرب عليه من املاء، املت عليه التخلف عن حضوره وعن واقعه وعن حاضره ومستقبله.

وكلما اتسعت دائرة المقدس في الدين ضاقت فسحة التفكير وسادت عادة التقليد، والتقليد مريح وكسول . لعل هذا النهج المغلق هو السبب فيما آل اليه الاسلام بذاته والى ما بلغته سمعة الاسلام والمسلمين راهناً.

فبهذه الصفات بات اسلام القرن الواحد والعشرين في أذهان كثيرين ، إسلاما” سياسيا” ، يؤمن المشروعية لأنظمة دكتاتورية، وممالك متخلفة، وحركات تكفيرية، ورأس حربة في (حرب الجميع ضد الجميع).

ونتيجة السياسات الرثة في منطقتنا وقع الاسلام في الأسر، واصبح المسلمون في امتحان، والاسلاميون في فتنة، والمشرق العربي في حالة استعصاء وضياع وجمود فكري ، (حرب عالمية صغرى) لوقف الزحف التكفيري،

وفيما العالم يتغير نحن الأفضل نتوغل نحن في التراجع،

ففي زمن الانعطافات العالمية الخلاقة، اخذت المنطقة العربية تتنقل بسرعة الفاجعة من تنمية إلى تخلف، ومن حرية إلى عبودية، ومن ديمقراطية الى دكتاتورية، ومن تحرير فلسطين إلى خسارتها ومن وحدة او مشروع وحدة الى نسيج مهلهل لا مثيل له، ومن اخوة دينية الى الفتن الدموية.

فالمنطقة العربية، اصبحت الاستثناء الصارخ، والانتكاس الدائم والبؤس السياسي. واصبحت اسرائيل “النموذج السياسي الناجح ” مقابل النماذج الرثة لكيانات وانظمة وحركات وعقائد وإسلام سياسي مشوه، مما انتج عصر الهزائم وعصر “الفتنة العظمى”.

وتاتي الكارثة لدى نخب كثيرة في الشرق والغرب لتقوم بتحميل الاسلام مسؤولية ما يحصل، وهذا بحد ذاته مدخل الى تجديد الفتنة، لانه يتهم دينا ويعفو عمن استغل الدين لأغراضه وغاياته، بحيث بلغت حد التعامل مع النص وكأنه غنيمة، يحق لقراصنة السياسة والدين أن يلوذوا به.

ان تحميل الدين مشقة الخروج من التاريخ وهم وسراب.

فالإسلام صنع تاريخاً عظيماً، والعلة فيمن قبض على الدين وسيره وسيلة” بلا غاية.

ان هذا الكتاب هو ليس كتابا” في الدين، انما هو محاولة لإظهار أن السياسة التي صنعها محمد ﷺ في المدينة كانت نموذجا من التجارب البشرية المختلفة، ولم يكن هذا النموذج مثقلاً بالنظريات، بل كان متحررا” وملتزماً الوقائع التي واجهها او تلك التي صنعها ، فتجربة محمد ﷺ ناجحة بحيث كان الوحيد الذي دعا الى دين، ونصره وانتصر به وله  في دنياه.

انه رجل استثنائي من عظماء التاريخ مثير للأسئلة،

والأجوبة تتجدد وتتكرر على مر العصور، لذلك يوجد  إلحاح لإعادة قراءته والتعرف على شخصيته ورسالته وانجازاته التي صنعت الأحداث عبر القرون.

فتجديد هذه القراءة يهدف الى رسم صورة لا تشوبها التصورات المسبقة، والمحاذير المدعومة بايمان ثابت، بحيث يبدو محمد ﷺ اسطورة” غير عقلانية،

فالحقيقة ليست سهلة المنال، والراسخ من المعتقدات يحجب الوضوح والمصداقية في كتابة الوقائع التاريخية، والاستخفاف بهذه الوقائع، يؤدي الى فهم ضيق للنص، واعتماد كتب السيرة بانتقائية اضافت تشويشاً على الأدلة الغزيرة، التي تظهر محمدا” نبياً وبشرياً في آن ،  رسولا اولا” ثم رسولا” وقائدا” في ما بعد .

ان النظرة الأسطورية لصورة محمد البشرية غامضة ومغلفة بايمان مطمئن الى الصوابية، بينما هي صورة مشرقة ومشعة واشكالية في آن معاً، فهو الذي وبشخصيته النورانية والانسانية استطاع ان يؤسس نواة حضارة من أزهى الحضارات ، عبر الفتوحات، وافادت العرب والغرب بعلومها، بعد أن حضنت النصيب الأكبر من التراث القديم وامدته بالحياة واستفادت وافادت من علومه المتجددة حسب العصور بشكل متكامل متمازج لا متنافر ومدمر.

فهذا لم يكن نتاج خوارق وافعال ما ورائية او ما فوق الطبيعة ، فمحمد هو رسول عقيدة، ومنظم دولة، ومشرع فتوحات، ومبدع حضارة، من دونه يكون التاريخ البشري مختلفاً كلياً. فهو سخر السلطة والدولة من اجل الدعوة وليس العكس.

ولكن على الرغم من هذا الابد السلفي الأصولي فان صورة حديثة لمحمد التاريخي مطلوبة وممكنة وانها تمهد لتفكير جديد وعبر كثيرة .

محمد من خلال سيرته السياسية يثبت حسب الكاتب ان الطريق الى الله يبدأ بتدبير انساني عاقل، يجتهد، يجرب ينجح، ويفشل بمقدار نجاحه في استعمال عناصر النجاح او الفشل.

  • السؤال الجوهري هو: كيف يمكن تغييب الرسالة والمجتمع ؟ حول ” كتاب محمد السيرة السياسية ” للزميل نصري الصايغ*

 بقلم : الدكتور زهير هواري، صحافي وباحث وأستاذ جامعي واستشاري في لجنة الحوار اللبناني – الفلسطيني

z.hawari@hotmail.com

      قرأت كتاب “محمد – السيرة السياسية” للصديق والزميل نصري الصايغ مرتين : الأولى لدى صدوره ، وقرأته ثانية عندما طلب مني المشاركة في نقاشه في اطار الندوات الثقافية للمجلس الثقافي الاجتماعي للبقاع الغربي وراشيا. وأقول إنني على استعداد لقراءته للمرة الثالثة ، مثل تلك الكتب التي تأسر القارئ، فيعود إليها كلما سنحت أمامه الفرص . لكن كتاب زميلي نصري يمتاز عنها بميزات كثيرة، أبرزها أنه يرتبط بالراهن من الأحداث ، لذا فهو ليس كتاب تاريخ مجرد، تقصَّد كاتبه إعادة القارئ إلى تلك الحقبة التاريخية القديمة بكل ما فيها من جلال وكفاح ورهافة ايمان. هذا يعني أن الكتاب الذي يتحدث عن الشخصية السياسية للرسول مفعم بالواقع ، كأن صاحبه يريد إستعادة هذا الماضي من أجل المستقبل، الذي يدرك وندرك معه مدى قساوته وعمق إنكساراتنا فيه . فإستعادة السيرة النبوية هدفه الحاضر وما تشهده الطروحات الاسلامية من عودة نصية لتلك الحقبة مع كل ما رافقها من سياسة وعنف وتفسيرات غائية. ميزات إضافية أساسية أنه يتناول شخصية الرسول العربي في المجال السياسي، باعتبار السياسة فناً بشرياً خالصاً يخضع للكثير من المعادلات الشخصية من جهة صاحب السيرة، و العامة بما هي تفاعلات المجتمع ودينامياته ومصالح قواه وتأثره في حركية الأحداث وتأثيراته على القرارات والاتجاهات. أما الأمر الثالث فهو سلاسة الأسلوب الذي تمت صياغة الكتاب به ، وهو أمر يمتاز به قلة من الصحافيين والكتّاب، الذين يرون في اللغة نبعاً من إيقاع موسيقى الكلمات والجمل، يجب ألا يمَلُ العطاش من النهل منه. وهو ما تعودناه منه في كتاباته السابقة على أي حال ، لكنه هنا يمتاز عما سبق في جعل اللغة الحية في يومياتنا، قادرة على التطرق إلى موضوع على درجة بالغة من التعقيد والتداخل التراثي لدى المعالجة. خصوصاً وأن الواقع يضع هذه السيرة دوماً في مرتبة الحضور، باعتبارها ما تزال فاعلة في الراهن من الحياة والوقائع، مؤثرة على بنيانه ووعينا له .

  • إذن أقول إن الكتاب بهرني بتماسكه من الصفحة الأولى وحتى نهايته في الفصل الرابع عشر، باعتبار أن الفصلين الأخيرين ليسا من صميم الكتاب، وقد اعتبرهما المؤلف نفسه ملحقين بالعمل وليسا منه، وقد أضافهما الكاتب لمزيد من جذب القارئ إلى موضوعه الذي لم يكن الأول في التطرق إليه ولن يكون الأخير[1] . إذن يضم الصايغ عبر مؤلفه هذا، اسمه إلى قائمة من تناولوا حياة الرسول وهم متنوعو المشارب والانتماءات والثقافات[2]. فإلى جانب كتب التراث العربية المعروفة، هناك الكتابات التي كتبها مؤلفون مسلمون من غير العرب ، وكتب المستشرقين الحديثة وكتب عرب عصر النهضة. أظن إن هذا المديح يستحقه الزميل نصري الصايغ بالتأكيد . لكن هذا الثناء لا يغمض الأعين عن الإشكاليات والملاحظات التي لا بد وأن تقال في الكتاب وعنه.
  • الإشكالية الأولى وهي تتناول الشخصية السياسية للرسول ، إذ يقدم الكاتب لمبحثه حولها بالتأكيد أنه لا يتطرق إلى مسألة الرسالة والدعوة التي حمل أعباءها، بالعلاقة مع الوحي الذي نقل إليه وهو في غار حراء بشارة النبوة عبر الآيات القرآنية [3]،وكل ما تفرع عن السور والآيات من توحيد وايمان وفروض وواجبات على المؤمن أن يتحلى بها في حياته كمعبر إلى الخلود، باعتبار أن صاحبها يحمل رسالة سماوية مصدرها الله في عليائه. إذ المعروف أن كل قيادة سياسية يجب أن تحمل إلى جانب الكاريزما الشخصية وعداً ما بخلاص ما [4]. وهذه كانت الأساس في الشخصية النبوية . لتوضيح الفكرة أقول لو أن محمداً لم يحمل البُعد المعتقدي التوحيدي في حياته هل سيكون القائد الذي غيَّر وما يزال يغِّير في حياة وتاريخ المنطقة والعالم إلى الآن. أعتقد أن الرسولية هي الأساس في هذه الشخصية، وما تلاها ليس سوى الأداء الذي قام به ، وبعضه من ضرورات السياسة والعادات والتقاليد.
  • الإشكالية الثانية وهنا نتحدث عن المعتقدات قبل 1441 عاماً بالتمام والكمال. آنذاك كان الفكر الغيبي صاحب السيطرة المطلقة على عقول المجتمعات والقبائل والعشائر والبطون ، هذا على الرغم من وجود الأديان التوحيدية وحضورها بين ظهراني أهل مكة ويثرب وسواهما، إلى جانب الأحناف [5]. بالطبع، كانت هناك تيارات غيرها وكانوا يسمّون أصحابها بالدهريين، لكن بالمقابل كانت أي شرعية قبلية تسعى للحصول على مرجعية وقوة غير مرئية قد تكون هي معتقدات الآباء والأجداد كما كان السائد ، أو آلهية مصدرها الآله الواحد، أو الآلهة المتعددة التي كانوا يعتقدون بها. كانت القبيلة وهي النواة الصلبة تمنح شيخها الشرعية  من خلال عبادة الآباء الذين تقتدي بهم ” وكذلك ما أرسلنا من قبلك من قرية من نذير إلا قال مترفوها إنّا وجدنا آباءنا على أمة وإنّا على آثارهم مهتدون”[6] . المقصود القول إن الرسول لم يكن في أي وقت من الأوقات مجرد صاحب طموح ومشروع قائد سياسي، وإلا لكانت قبلته قريش ضمن تشكيلتها القيادية كواحد منهم. الموضوع بالضبط يتعلق بالدعوة إلى التوحيد الديني أولاً وقبل كل شيء [7]. وهو التوحيد الذي رفضته قريش، كما رفض الرسول عروضها.

الإشكالية الثالثة تتمثل في المنهج الذي اعتمده الصايغ وهو المنهج الهيغلي الذي يرى التطور يتجه صعوداً نحو مثال أعلى يتمثل بالسلطة ومصدرها الآلهي المتعالي. نحن نتحدث عن مجتمع شرقي قبلي قديم، وعليه أعتقد أن المنهج الأصوب هو ذلك الذي اعتمده ابن خلدون في مقدمته، عندما تحدث عن العصبية دينية أو قبلية لبناء السلطة [8]، فالقبيلة كانت حاضرة في المجتمع الجاهلي، كما في الفضاء الاسلامي خلال حياة الرسول وبعد وفاته. أي أن الاسلام رغم التحولات التي أحدثها في بنية المجتمع لم يستطع كسر هذه النواة القاسية التي ظلت عصية على محاولات متكررة. وأعتقد أنها ما تزال وإلا لماذا قال أحد المؤرخين اللبنانيين الكبار “إن الطائفة في لبنان هي القبيلة القديمة مرتدية عباءة الانتماء الديني والمذهبي ؟” .

الإشكالية الرابعة تتمثل في اعتماد المراجع دون أي مصدر بتاتاً. لقد فعل الزميل الصايغ حسناً عندما وضع ثبتاً بالمراجع التي استعان بها في كتابة مؤلفه. لكن هذا يحسب عليه وليس له ، إذ إنه لو اعتمد على المصادر المعروفة عن تاريخ الاسلام وحياة الرسول لوجد كنزاً من المعطيات التي تسند تحليله في الكثير من المواضع[9]. وأقصد هنا ابن هشام والواقدي وابن سعد والطبري والبلاذري واليعقوبي والمسعودي وغيرهم الكثيرين. صحيح أنه يشير إلى مشكلة المصادر التاريخية المسكونة في البحث عن المعجزات والخوارق في حياة الرسول، إلا أنها بالمقابل تقدم الكثير من الروايات المعقولة التي يمكن الاعتماد عليها أو الإفادة مما جاء فيها. المشكلة أنك عندما تأخذ عن مرجع ما قاله عن مصدر، فإنك تتبنَّى حكماً منهجه في التعاطي مع التراث ، علماً أنك قد تكتشف في النص خلاف ما رأى فيه مَن نقلتَ عنهم، أو تكتشف أموراً لم يسبقك إليها الآخرون.

الإشكالية الخامسة وهي التي تتمثل في المجتمع القرشي وموقفه من الدعوة، إذ يتكرر لدى الصايغ وكثير من المؤلفين الذين تطرقوا إلى تلك المرحلة القول إن الارستقراطية المكية التجارية رفضت هذه الدعوة وقاومتها. وإن أوائل المسلمين كانوا من الفقراء والمستضعفين. وإذا دققنا في ثروات العديد من كبار الصحابة قبل الهجرة وبعدها نجد أنهم كانوا من كبار التجار والنافذين، وإلا كيف يتمكن أبو بكر مثلاً من إعتاق سبعة من المسلمين الأرقاء الفقراء . وينطبق حديث الثروات على كبار الصحابة أمثال : عثمان بن عفان وعمر بن الخطاب وسعد بن أبي وقاص والزبير بن العوام وغيرهم . حتى أن عدداً من كبار المهاجرين عندما وصلوا في هجرتهم إلى المدينة كان سؤالهم الأول عن سوقها كونهم يملكون ثروات يريدون توظيفها في التجارة . ولو احتسبنا نسبة الأغنياء إلى الفقراء الذين تبعوا الاسلام بوصفه رسالة التوحيد السماوية، نجدها مثلها مثل أي مجتمع قديم أو حديث حتى، بمعنى أن الفقراء أضعاف أضعاف الأغنياء . أما بعد الفتوحات فالأوضاع قد انقلبت رأساً على عقب بعد مصادرة كنوز كسرى وقيصر. وهذه لا تقارن بالثروات التي كانت مجمّعة قبلها.

الإشكالية السادسة : في مجتمع كالمجتمع المكي واليثربي – المديني يجب التدقيق في البنية القبلية ومعتقداتها وعلاقات القرابة بين مكوناتها. وهنا يمكن طرح العديد من الأسئلة أبرزها : هل كانت قريش قبيلة أم أجزاء من قبائل قصدت المكان في حقبات متلاحقة وكونت مجتمعاً قام قُصي جد الرسول بإعطائه تراتبياته الاجتماعية والسكانية والعمرانية [10]. ألم يكن وضع أصنام القبائل في الكعبة نوعاً من الاعتراف بمعتقداتها ومنحها صفة المقدس العام خلاف ما كانت عليه كعبادة محلية، ونوعاً من التفاعل الذي ينجم عنه اختلاط يقود إلى الحج وزيارة الحرم ومكة من جانب هذه الجماعات . هذا السؤال تتفرع عنه أسئلة حول العلاقات البينية بين هذه العشائر أو بقايا القبائل، بما فيه السكن والإقامة . بالطبع نحن نعلم أن مكة هي ” وادٍ غير ذي زرع” تبعاً للنص القرآني ، ولكن ألا يشكل الأمن وهو أساسي لأي من المجتمعات قديمة أو حديثة دافعاً عبر منظومة الأشهر الحُرم، والتجارة الداخلية والبعيدة جاذباً للإقامة في فيء كعبتها المقدسة ولو لأشهر في السنة، وميداناً للتبادل ولتصريف منتجاتهم الرعوية ( ماشية وجلود وصوف ) والحرفية من أنسجة ومصنوعات؟

الإشكالية السابعة :  وقع الزميل نصري في ما وقع فيه الكثيرون عندما تحدث عن الهجرة إلى يثرب كمكان مجهول للرسول . فقط أشير أن والده عبد الله توفي في يثرب عندما قصدها عائداً من الشام أو لشراء تمر. والدته السيدة آمنة توفيت هي الأخرى في الأبواء وهو مكان يقع بين مكة ويثرب. ويقال في المصادر أنها قصدت يثرب لزيارة قبر زوجها وتوفيت في طريق عودتها منها. ثم من هم بنو النجار الذين تتحدث المصادر أن الرسول نزل في أرض لهم أناخت فيها ناقته؟، وأن الأرض هي ليتيمين من أبنائها، قام الرسول بشرائها منهما، وأقام عليها المسجد الأول في الاسلام وسكن في أقسام منه. بنو النجار هم أخوال الرسول، والا لماذا يقول الرسول عندما توفي نقيب بني النجار للوفد الذي جاءه مطالباً بتعيين أحدهم بديلاً له :” أنتم أخوالي وأنا نقيبكم” .علما أن التزاوج والتناصر بين آل هاشم والخزرج عموماً وبني النجار خصوصاً، سابق للهجرة بعقود طويلة ، فقد ولد

  • المطلب في ديار أخواله بني النجار تحديداً وظل فيها حتى استعاده عمه وجاء به إلى مكة . هناك نصوص أخرى تتحدث عن تمضية الرسول السنوات الخمس الأولى من حياته في يثرب. ألا تقضي الأعراف القبلية – وبعضها ما زال سارياً- بنجدة ابن الأخت ونصرته في حال تخلى الأعمام عن مساندته والوقوف إلى جانبه[11].

الإشكالية الثامنة : إذا ما عدنا إلى البيعة الأولى والثانية وإلى أسماء من سقطوا شهداء مع الرسول في معركتي بدر وأحد، نجد أن هناك قلة قليلة من الأوس، بينما غالبية المشاركين العظمى هم من المسلمين المهاجرين وجماعة محدودة من الخزرج. المصادر عندما تتحدث عن هذه المشاركة وبالأسماء تقول الأنصار وتوضح أنهم خزرجها مع بعض القلائل من الأوس [12]. وهو أمر له دلالاته العظمى على دخول العلاقات النسبية في انحياز الخزرج للرسول وانضوائهم تحت قيادته خلاف الأوس، الذين ترددوا طويلاً عن المشاركة في المشروع الاسلامي إلى ما بعد تحقيق الرسول العديد من النجاحات في غزواته وصولاً إلى انتصاراته الكبرى. علماَ أن هناك فريقاً واسعاً من أهل المدينة، بمن فيهم قسم من الخزرج، كان يرفض مبدأ دفع الأمور وصولاً إلى الصدام مع قريش، ويقصر مهمة حماية الرسول والذود عنه في حال التعدي عليه داخل يثرب، وليس من أجل شن الغارات على قوافل قريش والغزوات التي تولاها الرسول والمهاجرون في المقام الأول.

الإشكالية التاسعة تتعلق بالقبائل اليهودية الثلاث . لقد خطا نصري الصايغ خطوات إلى الأمام في مقاربة هذه المسألة ، لكنه بدا متردداً في تفسير الأسباب التي حدت بهؤلاء إلى رفض الاندماج في المشروع الذي أرساه الرسول، وعبرت عنه الصحيفة خصوصاً، كميثاق أو دستور قبائلي في المقام الأول يحدد العلاقات بين الوحدات المكوِّنة لمجتمع المدينة رغم انتمائها إلى عقائد مختلفة .

الحقيقة أن هناك سبباً مزدوجاً لموقف كل من بني قنيقاع والنضير وقريظة أحدهما عقائدي، يتمثل في أن لديهم ديناً توحيدياً هو اليهودية وكتابها التوراة ، وفي حال التحاقهم بمشروع الرسول ودعوته سيفقدون هذه الخاصية، التي كانوا يباهون بها الفضاء العربي الذي لا كتاب له. ويجعلهم ملحقين بالمشروع الذي يحمله الرسول، ويضعهم في المرتبة الثالثة بعد المهاجرين أولاً والخزرج ثانياً ، بينما يرون أنهم أصل يثرب وعماد قيامها بالدور الذي لعبته منافساً لمكة . لهذا السبب بالذات فشلت الحوارات التي دارت بين الرسول أولاً ثم أبي بكر مع أحبار اليهود ثانياً. من يرجع إلى ابن هشام سيرى قائمة بالقضايا الخلافية التي لم تجد حلاً لها، ومع أن ظاهرها لاهوتي – ديني إلا أن باطنها في مكان آخر[13].

أما الثاني فيدخل في الجانب الاجتماعي – الاقتصادي ويتعلق بكونهم أساس مجتمع يثرب، وقد قصدته الأوس والخزرج لدى انهيار سد مأرب وتفرق القبائل اليمنية، وأقامتا فيها خلاف سواها التي تابعت سيرها شمالاً . تكيفت الأوس والخزرج مع أحكام مجتمع يثرب وباتت طرفاً في الصراعات التي باتت جزءاً تكوينياً له عبر التحالفات التي نشأت بينها والقبائل اليهودية الثلاث ، وسيطرت على قسم من أرضها الزراعية. لا بد وأن نشير إلى أن قسماً من المهاجرين المفعمين بتقاليد التجارة المكية نافسوا التجار اليهود في عقر دارهم كما تثبت المصادر . أما بشأن استئصال بني النضير وبيع النساء والأطفال منهم، فيجب علينا ان نقرأ ذلك في ضوء قوانين الحرب السائدة من جهة ، وفي اعتبار الدين والعقيدة في تلك المرحلة مساوية للإنتماء القومي أو الوطني من جهة ثانية.

الإشكالية العاشرة تتمثل في التجربة النبوية أولاً والسياسية للرسول في المدينة  بالعلاقة مع الغزوات التي قادها أو أشار بها في تلك المرحلة . والحقيقة أن الجانب الاقتصادي كان حاضراً فيها باعتباره أحد مصادر الدخل التي جرى اعتمادها لاصلاح الخلل الذي نقله معهم الفقراء من المهاجرين وهم الأكثرية منهم ، لكن أرى أن الجانب الدعوي هو الأشد حضوراً . إذ من شأن سلمية الدعوة في ظل الصراع مع مكة أن تغري القبائل على مهاجمة المدينة، كمشروع جذب حضري غير وثني ، خصوصاً مع وجود قوى جاهزة للإنضواء في هذا الهجوم هي : قريش ، القبائل اليهودية والأعراب الذين قرَّعهم القرآن الكريم كثيراً لتخاذلهم عن نصرة نبيه [14]. ما يؤدي إلى قطع الطريق على دعوات الرسول لهذه القبائل والجماعات للالتحاق بالدين الجديد ، وهو أمر من شأن حدوثه أن يقود إلى انهيار المشروع التوحيدي الذي يحمله. خصوصاً متى أدركنا ثقل الحضور البدوي في بنية مجتمع الجزيرة العربية بالمقارنة مع ضآلة سكان الحواضر الأساسية كمكة والمدينة. أكثر من ذلك يجب أن تدرس عمليات الغزو في المجتمع العربي الصحراوي من خلال وظيفة مختلفة عما يتم التداول به ، إذ إنها تهدف إلى تجميع القبيلة وراء قيادتها من جهة ، وتكريس فرادتها عن سواها من قبائل، ما يحافظ على بنيتها الفكرية واجتماعها واقتصادها. ثم أن النجاح في الغزو يعبر عن قوة القبيلة بما يجعل سواها ترهب جانبها، نظراً لما تملكه من فرسان وسلاح ،وعليه يصبح للغزو جانب نفسي يرتبط ببُنية وعقائد القبيلة بطبيعة الحال ووحدتها النسبية المزعومة.

الإشكالية الحادية عشرة تتمثل في مسألة الدولة أو اللادولة في المدينة . تارة يشير المؤلف إلى دولة الرسول في المدينة ، وفي مواضع أخر يتحدث عن دولة جنينية فقط . الواقع أن ما كان يهم الرسول ليس الدولة، بل الدعوة ، حتى اعتماد السيف واطلاق حركة الجهاد كان بدافع فتح الطرق المسدودة أمام دعوته السماوية [15]. وبالعودة إلى ما فعله الرسول لا نلحظ أي شكل من اشكال الدولة في المدينة، مقابل قيامه شخصياً بتولي  كل المسؤولية والمهام الدينية والسياسية والقضائية والحربية. وقد استمر هذا المنحى خلال خلافة أبي بكر أيضاً الذي كان وهو خليفة يمارس التجارة في السوق، حتى سؤاله ترتيب أجر لتحصيل مقومات عيشه، ثم سؤاله ثانية زيادته لتحقيق كفايته [16]. بدايات الدولة بشكلها البدائي نجدها في عهد عمر عندما بدأ بتنظيم ديوان العطاء للمسلمين، وبدأ كتابة أسماء المسلمين وأعطياتهم مقدماً آل الرسول والمهاجرين وأصحاب بدر وأحد وتباعاً إلى سواهم [17]. ثم تنظيم البريد بعده للتواصل مع الجيوش التي وجهها للشام وبلاد فارس . قبل ذلك لا وجود لأجهزة ومؤسسات باستثناء مهمة القضاء التي ورثها الخليفتان عن الرسول. والدليل الأبرز هو عدم توفر أجهزة بسيطة لحماية شخص الخليفة ما قاد إلى اغتيال الخلفاء الثلاثة عمر وعثمان وعلي .

الإشكالية الثانية عاشرة تتمثل في التجاهل التام لمجتمع الصحابة في مكة والمدينة على حد سواء . بالعودة إلى طبقات ابن سعد نرى حول الرسول رجالاً وازنين في السياسة والحرب والتجارة وفي مضمار العلاقات القبلية العامة على حد سواء. ثم أن العديدين منهم كانوا قبل الهجرة من الأعيان في مجتمعي مكة والمدينة على حد سواء. بعض هؤلاء ينتسبون إلى قبائل كبرى : قريش بتفرعاتها والخزرج ثم الأوس . هؤلاء لا حضور لكفاءاتهم المتنوعة في نص المؤلَف وكأنهم غير موجودين بتاتاً ومشاركين في حمل راية المشروع الاسلامي التوحيدي ، اللهم باستثناء حضورهم الاسمي بعد وفاة الرسول والخلاف الذي عاشته المدينة. وهذا ليس صحيحاً البتة، فقد كان هؤلاء حاضرون ومشاركون بآرائهم وسيوفهم ومالهم في كل محطات الدعوة، وقد شكلوا طبقة مثقفة ضمن مفاهيم العصر وبالعلاقة مع التجربة النبوية في مساراتها [18].

الاشكالية الثالثة عشرة تتعلق بالمصطلحات . إذ إن المجتمع العربي في تلك المرحلة يملك مصطلحات يعبر فيها عن نفسه ،وينبغي أن ندرك مدلولاتها بدقة، وهو ما يزيد من صعوبة قراءة المصادر بلغتها المعروفة . فالقبيلة ليست العشيرة والبطن والفخذ هما غيرها، وفي ذروة التجمع البشري في تلك المرحلة هناك الشعب، وهو مجمع القبائل التي قاد توسعها وكبر حجمها إلى تفرقها إلى قبائل وعشائر وبطون. لذلك يرد في القرآن الكريم ” إنا جعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا ” [19]. والناس هم القبائل والعشائر والبطون المجتمعة في مكان واحد، ولكن غير معروفة بانتماءاتها القبلية بالضبط . لذلك يردد الرسول في حجة الوداع أيها الناس لأنه لا يعرف كل أسماء وانتماءات القبائل المشاركة في الحجة معه، والغنيمة وطريقة توزيعها بين القائد والمشاركين من الفرسان والجنود والتي اختلفت بين الجاهلية والاسلام ، كما أن الجزية شيء والخراج شيء آخر وهكذا.

الإشكالية الرابعة عشرة تتعلق بمسألة الخلافة . أولاً نؤكد أن المسلمين لم يمتلكوا مؤسسات حكم أو آليات لتحقيق ذلك . آيتا الشورى لا تكفيان لإيجاد مسارات راسخة ومحددة أو معروفة لتداول السلطة والحكم بين المسلمين [20]. أيضاً لم يفهم المسلمون الأوائل وهم كبار الصحابة، من حديث الغدير أن علياً هو المرشح دون سواه أن يخلف الرسول، كما لم يفهموا في الوقت نفسه أن إمامة أبي بكر للصلاة تحدد شخص الخليفة المقبل بعد وفاة الرسول [21]. ما حدث تماماً هو صراعات داخل قريش بين آل هاشم والفريق الذي أيد خلافة أبي بكر، وداخل الأنصار ومعهم بداية في سقيفة بني ساعدة ، بينما كانت المدينة مهددة بالاكتساح من جانب المجتمع البدوي الذي انتفض على سلطة المدينة وتمرد على رسولية قائدها، وهدّد بقاءها أصلاً بعد رحيله كعاصمة لجموع المسلمين، حتى أن بعض المصادر  تتحدث عن بلبلة سياسية تطاولت إلى مدة تصل إلى ستة أشهر بين خلافة أبي بكر ومبايعته من آل هاشم ما مهد السبيل لخوض حروب الردة.

الإشكالية الخامسة عشرة وهذه نجمت عن التأثر بالمراجع التي اعتمدها الصايغ، وتتعلق ببعض الأحكام التي لا يمكن وصفها إلا أنها تدخل في باب السير على خطى من أخذ عنهم دون تدقيق، ومثالاً على ذلك وصفه، وهو بالأصل قول للخليفة عمر بن الخطاب عن بيعة أبي بكر بأنها فلتة، لأن باقي الجملة تقول: ولكن من منكم تقطع إليه الاعناق مثل أبي بكر؟

إذن كان أبو بكر شخصية استقطابية، واعتباره أن تعيين عمر كان عملية نقل للسلطة دون مسوغات شرعية، علماً أن شخصية عمر من الشخصيات المحورية ما قبل الهجرة و بعدها، وقد تركت بصمات كبرى في التاريخ الاسلامي ، وأما خلافة عثمان فهي ثمرة اتفاق الارستقراطية الأموية والقرشية التي ضاقت بالقيود التي قررها عمر طوال سنوات حكمه ومنع بموجبها كبار الصحابة من ارتياد الأمصار وتكديس الثروات وامتلاك العقارات والقصور والثروات، بينما خلافة الإمام علي فقد كانت كما يصفها الصايغ عملية ” ديموقراطية شعبية مباشرة قريبة من الديموقراطية الأثينية”، وهو ما لاعلاقة له بما تقوله المصادر عن أجواء المدينة التي كانت تعيش تحت قبضة سيوف عرب الأمصار من الثوار الذين صرعوا الخليفة الثالث [22]. بالطبع الأمور أكثر تعقيداً من بعض الأحكام المتسرعة هذه وسواها مما يرد حول قضايا عدة في نص الكتاب ، باعتبارها نتيجة مستوى الصراعات الذي شهدته المدينة والتحولات التي أفرزها انسياح الاسلام في الأقطار المفتوحة (بلاد الشام ومصر والعراق في حينه ) ، بما فيها تلك التي قادت إلى مصرع الخليفة عثمان مع كل ما تركته من بصمات على الاجتماع الاسلامي .

ختاماً أحيي في الصديق نصري جرأته على تناول السيرة النبوية، وأعتقد أن الإشكاليات التي قدمتُ لا تقلل من تقدير جوهر العمل ، إذ على مدى الصفحات والفصول ، حشد كل ما يملكه من كفاءة مهنية لتقديم قراءته لشخصية الرسول وسيرته السياسية، وهو عمل تحترمه وتحترم الجهد المبذول من أجل بلوغه ، وإن لم تتوافق مع بعض التفسيرات والتفاصيل التي تطرق إليها([23]).

  • “كتاب محمّد السّيرة السّياسيّة” كتاب ينزع القدسيّة أو هو توغّل في سبر المعرفة العلميّة؟

 بقلم الكاتب والإعلامي عماد خليلimadnabih@gmail.com

     إنّ كتاب ” محمّد… السّيرة السّياسيّة” للكاتب نصري الصّايغ، الصّادر عن دار الفارابي، ينضوي في إطار المحاولات النّقديّة الجذريّة في مقاربة المقدّس من خلال طرح أسئلة علميّة، يراد من خلالها التّفكيك الممنهج، ليصار إلى استنتاجات لايغلّفها الغموض، أو يسكنها المجال الخرافي، وهذا ، ماجعل الفكر الدّيني في مساره التّاريخي، تحت مجهر السّؤال المستمر، لاسيّما الأنبياء الّذين سطّروا الرّسالات السّماويّة بتدبير مباشر من الوحي، وإن كان الوحي أيضًا في البحث النّقدي يخضع لميزان النّقد عند الكثيرين من الباحثين.

     مع نصري الصّايغ، ومؤلّفه، يبدو أنّه قرّر كشف الحقيقة المعرفيّة الّتي مكّنت محمّد من تأسيس رسالة إسلاميّة عظيمة، بإرادة ذاتيّة، واعية، تخضع لناموس الفكر البشري، ولكلّ إرهاصات العمل البشري من دون تدخّل الغيب في رسم مسارات البشر، وهنا تكمن الإشكاليّة الكبرى، الّتي عمل الكاتب على تبيانها ، من خلال تحليل دقيق لمسيرة النّبي “محمّد” ، لذا، أعلن “الصّايغ أنّ كتابه”ليس كتابًا في الدّين. إنّه كتاب في السّياسة” ص9، لكن، هل الإسلام يفصل الدّين عن السّياسة ؟ وهل شخصيّة محمّد يمكن فصلها عن البعدين الدّيني والزّمني؟ وفي هذا يدور نقاش عميق، ومتوتّر في كلّ مبحث فكري يتناول هذا الجانب. يقول الكاتب الصّايغ:” لا أمرة في ماقبل السّياسة. السّياسة بنت الاختيار بين احتمالات متاحة، وتصوّب بمنطق التّجربة والخطأ. في النّبوة يصدع المؤمنون تصديقًا. في السّياسة، اختبار واختيار، احتمالات ومستحيلات، تفكير ومشورة، تقدّم وتراجع، وقائع بحاجة إلى إدراك، وأحداث بحاجة إلى إحاطة… هذه كلّها من أعمال العقل” ص9، يفيد هذا المعنى أنّ العقل لا يمكنه أن يخضع إلى الغيب، أو أن يصبح البعد الغيبي الإيماني هو المحرّك لأعمال  الرّسول، بقدر مايريد أن يؤكّده مضمون هذا الكتاب: محمّد يصنع الحدث، ومن ثمّ تأتي الآية، أي النّصّ القرآني كردّ فعل للحدث، وهذا يخالف مرتكز عقائدي يقوم عليه أتباع الإسلام، الّذين يرون الوحي هو المحرّك للنّبوّة” ما هوإلّا وحي يوحى”، لكنّ نصري الصّايغ يرفض الشّروط المسبقة، كما يرفض الإعتقاد الإيماني الرّاسخ ، بمعنى هو أقبل على شخصيّة”محمّد” من موقع المحايد، الخالي الذّهن من المعرفة الإيمانيّة الدّقيقة للإسلام، والوحي، وهذا، ليصل إلى معرفة تقوم ركيزتها على العقل فقط، ويقبل ليس لكسر المقدّس، بل، لتبيان آليّات الصّيرورة التّاريخيّة للبشر، و الرّسول”محمّد” ينطبق عليه هذا المعنى، “الخشية من المقدّس يجعل السّيرة النّبويّة، فاقدة لعلاقاتها الوقائعيّة. مثل هذه الخشية تضعف من الصّورة النّاصعة لشخصيّة محمّد غير الأسطوريّة. شخصيّته الواقعيّة، كما يفترض رسمها تاريخيًّا، ومن دون أيّ مبالغة، أو محاولة أسطرة، استطاع أن يقول للتّاريخ السّابق على الإسلام: قف.”ص37، فهل أراد الكاتب على غرار “معروف الرّصافي” أن يبحث عن الشّخصيّة المحمديّة  وحلّ اللّغز المقدّس كما عبر “الرّصافي، أم أنّ الصّايغ لايلتفت للمقدّس على اعتباره حقيقة قائمة، بقدر مايجد في شخصيّة”محمّد” القوة الّتي جعلته يحقّق الإسلام بعقل سياسي يدرك المصالح، ولعبة النّفوذ، لذا، أفرد الفصل الأول بابًا للخروج من الأسطورة، إلى الموضوعيّة:” ظلال كثيرة تحجب الشّخصيّة الموضوعيّة بملامحها الواقعيّة”ص35، مع ممّا جاء من باب الخروج من الأسطورة، يعني ذلك، التّشكيك بالتّراث، والتّاريخ، لأنّ ولوج الموضوعيّة الدّقيقة تحتاج إلى منهجيّة دقيقة، ووثائق مدمغة، ليس نقلًا عن، أو روى، أو بناء لمرويّات تحتاج إلى تمحيص وتدقيق، وهذا، مايرفضه الصّايغ، إذ يرى أن لا:” تاريخ حيث لاوقائع، وللوقائع أرضيّة وجود وتميّز، كلّ ماليس كذلك ينتمي إلى الأسطورة، أو إلى عالم الفكر المجرّد والمخيال الحر. عمليّة التّمييز بين الوقائع والبدائع(من بدعة) لاتتوفّر شروطها في كتابات تنتمي إلى أرومة التّراث كما كتبه السّلف، وكما ابتدعه الخلف.” ص37، إذا، هي إشكاليّة التّراث والسّلف، وهنا المقتل، وكأنّ الكاتب يذهب إلى المعالجة انطلاقَا من “الحداثة” ناهيك عن احتمالات وتأويلات الحداثة في المصطلح، والتّحليل، المفكّر “نصر حامد أبوزيد” دعا إلى قتل القديم بحثا” بل أكثر من ذلك، هو وجد في التّراث الإسلامي ، أي نصر حاد أبوزيد ،أنّه يشير إلى”أنّ ثمّة مركزًا في التّاريخ الإسلامي اعتمد على تحالف سلطتين، الأولى: السّلطة الدّينيّة المتمثّلة في مرجعيّة النّصّ الدّيني، الثّانية: السّلطة السّياسيّة المتمثّلة في مرجعيّة الخلافة، وهذا التّحالف كان لمصلحة السّلطة السّياسيّة بالطّبع” ، فهل قصد الصّايغ هذا البعد من الهروب من كلّ تاريخ لايحمل الوقائع، وهل الوحي خارج إطار الوقائع، فقط هو في العقل المجرّد، أول المخيال، وهذا دأب عامّة النّاس تخشى ملامسة المقدّسات انطلاقًا من قدسيّة النّصّ والتّراث في آن، لكن هذه الخشية عند الكاتب نصري الصّايغ:” الخشية من المس بالمقدّس يجعل السّيرة النّبويّة، فاقدة لعلاقاتها الوقائعيّة.”ص37، لذا، عزم على تحليل الوقائع في حياة”محمّد” استنادًا إلى البيئة، والواقع، ومجريات الحياة بكلّ تفاصيلها في عصره، زمانه ومكانه، لكن، هل يمكن قراءة هذه الشّخصيّة التّاريخيّة والدّينيّة من دون المنظور الغيبي، والفكر الدّيني، علمًا، أنّ النّصّ القرآني أشار بوضوح لا لبس فيه عن بشريّة الرّسول محمّد، وأنّه خاضع لناموس الحياة البشريّة، في العيش، والعمل، والموت.

في الفصل الأوّل من الكتاب أيضًا، يعرض إلى عداوة رجال الدّين للفكر، خدمةً لمصالحهم، بمعنى يسخّرون النّصّ الدّيني انسجامًا مع المصلحة الخاصّة، يقول في هذا المضمار نصري الصّايغ:” الفكر خطر على رجال الدّين، يفضّلون الآية على ماسواها، وينتقون الآية المناسبة للواقعة المتاحة، والظّرف القائم” ص39، لذا، اعتبر أنّه”باسم الدّفاع عن الدّين يتمّ اغتيال التّاريخ وإهمال الواقع”ص39.

  يكمل الكاتب في “محمّد السّيرة السّياسيّة” إلى الشّك، لفكرة النّصّ من حيث القراءات المتعدّدة، وهذا جعل صورة “محمّد السّياسي” في اختلاف النّصوص”تخمينًا لايقينًا”ص63، هذه خلاصة مفتوحة على نقاش تاريخي عقيم، وهذا مايرفضه الكاتب، وإلّا أين تكمن أهمّيّة شخصية النّبي، طالما هو لا يبادر، ولايقوم بعمل، حينها ” فمحمّد على هذه الحال يختفي خلف هذا العدد الهائل من الكتابات ولايبدو منه غير ماينطق به القرآن”ص63، وهذا،مايراه الكاتب مجافيًا لدور محمّد :”محمّد ليس مرسلًا فقط. قبل الدّعوة وإبّانها وبعدها، كان بشريًّا. تميزه الوحي استثنائي وقوة إرادته نموذج وصبره فوق العادة. رسوليّته هبة خاصّة تتّفق مع بشريّته كرجل فضيلة ومناقب تفوق العادي. هذا الرّجل الاستثنائي كان بشريًّا جدًّا وصاحب معاناة وتجربة ورسالة فوق طاقة البشر العاديين”ص133، لقد كرّس الكاتب فصلًا كاملًا عن”الصّورة البشريّة لمحمد” ، وفي هذا الخضم يستند إلى النّص القرآني،إذ، كتب:” في سورة “الأنبياء”، حسم لمسألة بشريّة محمد:” وما أرسلناك قبلك إلّا رجالًا نّوحي إليهم فسئلوا أهل الذّكر إن كنتم لاتعلمون” ص134، ممّا يفتح هذا الحسم جدليّة البعد “التّكويني” في نبوّة محمد عند فئة تذهب إلى وجود” محمد” قبل الخلق.

 يقدّم الصّايغ رؤية مفكّر غربي في هذا المضمار البشري،” غولدزيهر” الّذي وجد” من خلال التّوثيق التّاريخي أنّ محمدًا كان يتّصف بالصّفات البشريّة في مكامن القوّة وعوارض الضّعف”ص134، وفي آية أخرى:” قل إنّما أنا بشر مثلكم يوحى إليّ” ص139، استنادًا إلى هذه الآية ، تأكيد على الوحي والاتّصال، غير أنّ الكاتب استمرّ في ربط المسارات في حياة “محمد”  تبعًا للظّروف، والتّحوّلات، والهجرات” في يثرب أعيد تأسيس النّبوّة لنفسها بوصفها قيادة دينيّة وقيادة سياسيّة معًا”ص151، في إشارة إلى تبدّلات الخطاب المحمدي، فهو سياسي، يتعاطى بالسّياسة تبعًا للمعطى، وهو الّذي يصنع الحدث، ويسبق الوحي، وهذا غير مألوف في الفكر الدّيني، على اعتبار أنّ الوحي هو الّذي يحرك، ويقود، ويعصم عن الخطأ ” ومن المثبت يقينًا أنّ ما يحدثه محمد بذاته يسبق ما يجيء وحيًا، إمّا تأييدًا له أو تنبيهًا أو تصويبًا أو تحذيرًا. ويمكن تفسير” الآيات الشّيطانيّة” إنّها سابقة على تدخّل اللّه”ص136 .

   في سياق الفصول في الكتاب، والّتي وصلت إلى الفصل الرّابع عشر،يفصّل الكاتب حياة محمد بأدقّ التّفاصيل، إلى أن يتناول في الفصل الأخير السّابق للملحق في الكتاب، قضايا تشكّل بؤر خلافيّة في المؤسّسة الدّينيّة، وعند الفرق الكلاميّة، والمذهبيّة، بدأت إرهاصاتها المؤسّسة للفتنة، وللسّلطة الدّمويّة عبر المسار التّاريخي للإسلام،  منذ أن دخل “محمد فراش الموت”ص343، حيث لم يستند الصّايغ إلى روايات اللّحظات الأخيرة لمحمد، وما له علاقة بالوصيّة، وبدء صراع الخلافة، إلى أن أصبحت “السّلطة… وخلو النّصّ والحديث” ص350، إيذانًا برحلة طويلة مع الألم، والدّم، والتّقهقر، وغياب إسلام”محمد” الّذي جهد لترسيخ دعائمه، حيث الأولويّة باتت للسّياسي على حساب الدّيني، ممّا أعاد الحياة إلى سيرتها الأولى:” تتضّح أولويّة الانتماء السّياسي والعشائري على الدّيني”ص355، وبات النّزاع هو:” نزاع بين مجموعات متراصّة قبليًّا. “ص357، ومع مرور الزّمن :” الجماعة الإسلاميّة باتت جماعات. وحدة الأمّة أفضت بسرعة إلى انقسام، أين منه انقسام السّقيفة بين الأنصار والمهاجرين”ص363، لقد انتهى الحلم بعد وفاة “محمد” حبث انتصار “فوز المدنّس على المقدّس”ص370، وتحوّل الصّراع كما عبّر جورج طرابيشي :” فقد سفكت دماء  كثيرة وهذا، في سياق الصّراع على السّياسة لا على الدّين، أوعلى الإمامة بالمعنى السّياسي للكلمة، لا على الخلافة بالمعنى الدّيني” ص372.

   لقددأب الكاتب نصري الصّايغ على تأكيد القراءة التّاريخيّة العلميّة في كتابه” محمد السّيرة السّياسيّة” الصّادر عن دار الفارابي، وحرص على إبراز التّحوّلات في حياة محمد، بين المدينة ومكّة، والتّأكيد على أنّ ” هذا الكتاب في السّياسة وليس كتابًا في الدّين” لكن، هل يمكن الفصل بين السّياسة والدّين في الإسلام المحمدي؟ هذا، سؤال مفتوح عند كلّ بحث علمي يتناول الإسلام، وحياة النّبي، والمسيرة التّاريخيّة ليومنا هذا.

يبقى، “محمد السّيرة السّياسيّة” للكاتب نصري الصّايغ ، محاولة فكريّة شيّقة، لأنّه تناول السّيرة محايدًا، وهو كذلك، ومن مقاربة لاتشكّل عنده غضاضة وهو العلماني بامتياز، أن يتحدّث مسيحي بهذا العمق عن شخصيّة محمد،لا ، بل أكثر من ذلك، قال الصّايغ بعد إنجاز الكتاب:” لقد أحببت محمدًا”.

عماد نبيه خليل  7-3-2019

[1]– تطرقت الكثير من المؤلفات لحياة الرسول وسيرته وغزواته ، أقدمها هو كتاب سيرة ابن هشام الذي “شذبه” ابن اسحاق ، ثم تتالت الكتابات في العهود الاسلامية اللاحقة . وخلال العصر الحديث صدرت العديد من الكتابات التي تناولت شخصية الرسول ، بعضها باللغات الأجنبية أو العربية .

[2]– يذكر أن مؤلفي سيرة الرسول ينتمون إلى الثقافات الانكليزية والالمانية والايطالية والفرنسية والباكستانية والهندية و… والعربية طبعاً .

[3]– بدأت رسولية الرسول في غار حراء عندما ظهر عليه الملاك جبريل حاملاَ معه سورة العلق وهي سورة مكية تبدأ ” إقرأ باسم ربك الذي خلق ، خلق الانسان من علق …” وتتألف من 19 آية . وقد وردت الإشارة لذلك في جميع المصادر المعروفة وإلى ما تلاها من أحداث، وعودة الرسول إلى زوجته خديجة حيث روى لها ما وقع معه في الغارـ وتطمينها له بعد العودة إلى ابن عمها ورقة بن نوفل الأسدي القرشي وهو شخصية تاريخية، ورد ذكره في أكثر من مؤلف سواء عند المؤرخين المسلمين أو المسيحيين. أتفق معظمها أنه كان يقرأ التوراة والإنجيل. وكان ورقة حنيفياً موحدا في عصر الجاهلية. وتقول روايات أنه كان يهوديا، و اخرى تقول انه كان نصرانياً.إذن بعد نزول الوحي على محمد جرى استدعاء ورقة إلى بيت خديجة حيث كان الرسول يرتجف متدثراً بغطاء ، فأقر له بالنبوة وقال له “إن هذا هو الناموس الذي أنزل الله على موسى”. ثم لم يلبث ورقة أن توفي خلال بدايات ظهور دين الإسلام. ، كما ورد ذكره وتفسير هذه الآيات لدى الزهري وابن هشام والطبري والأزرقي وابن كثير وسائر كتب التاريخ والتفسير والصحاح، واستقى المؤرخون والمفسرون الحديثون معلوماتهم منها، وكذلك تفسيرهم للآيات من هذه المصادر القديمة.

[4]– يتنوع الوعد بالخلاص بين ديني ودنيوي . فالسيد المسيح في الديانة المسيحية هو مخلص للبشرية، لكن شخصية المخلص يبدو أنها أسبق على الديانة المسيحية وترتبط باليهودية وحتى بعقائد أقدم من الديانات التوحيدية. أما لدى الطوائف الاسلامية فهي موجودة لدى السنة والشيعة على حد سواء وغيرهم، علماً أن الطائفة الشيعية الاثتي عشرية قد جعلت الامام المهدي المغيب منتظر العودة، كي “يملأ الدنيا عدلاً بعد أن ملئت جوراً وظلماً”. المهم التنبه أن حضور وطغيان شخصية المخلص سواء أدينية كانت أو دنيوية ترتبط بمراحل فكرية ومفاصل وأزمات تاريخية. راجع فان فلوتن بترجمة د. ابراهيم بيضون ” السيطرة العربية والتشيع والمعتقدات المهدية في خلافة بني أمية “، دار النهضة العربية ، بيروت عام 1996 .

[5]– يتحدث اليعقوبي( ت 284هـ ) في تاريخه عن انتشار الديانات التوحيدية وغيرها في العديد من المواضع في الجزيرة العربية ، ولا سيما في الجزء الأول من كتابه . كذلك يتطرق إلى عقائد القبائل ويحدد أسماء القبائل المؤمنة بديانة سماوية أو غير مؤمنة . تاريخ اليعقوبي ، دار صادر ، بيروت ، ط ^ 1995 . الجزء الأول ص 254- 255 والثاني ص 148، كما تناولها بإسهاب جواد على في كتابه الموسوعي ” المفصل في تاريخ العرب قبل الاسلام ” الصادر عن دار العلم للملايين ، = بيروت 1968 في الأجزاء 1 و3 و4  . ما يجدر ذكره أن معظم مصادر التاريخ الاسلامي تتحدث عن المعتقدات القبلية  وأسماء أصنامها وأماكن وجود هذه الأصنام. ومع أنه ليس هناك من ثبت لعددها، إلا أن المعروف أن الرسول عندما فتح مكة أمر بإزالة الأصنام منها، وكان عددها 360 صنماً .

[6]– الأمة هي الطريقة والمذهب والمنهج والسُنة . والآيتان هما رقمي 22 و23 في سورة الزخرف وهي سورة مكية وعدد آياتها 83 . وهناك آيات مشابهة في سور أخرى .

[7]– يمكن مراجعة العروض التي تقدمت بها قريش عبر زعمائها للرسول خلال أكثر من لقاء لهم معه في الكعبة وبيت عمه أبي طالب إذ عرضوا عليه :” … إن كنت تطلب مالاً جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً ، وإن كنت تطلب به الشرف فينا فنحن نسوِّدك علينا ، وإن كنت تريد ملكاً ملكناك علينا… ” وأجوبة الرسول عليهم وقوله لهم خلال لقائه في منزل عمه :” والله ياعم لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري لما تخليت عن هذا الدين …”، ما دفع عمه للقول له ” اذهب ابن أخي فقل ما أحببت فوالله لا أسلمك لشئ أبداً” . راجع ابن هشام “سيرة ابن هشام” الجزء الأول الصفحات 262 – 268 ، دار الجيل ، بيروت 1987، كما وردت الروايات هذه في معظم المصادر التاريخية، ولاسيما لدى الطبري في المجلد الأول ص 502 . .

[8]– يعتبر ابن خلدون أن بناء الدول يتطلب عصبية، والعصبية قد تكون دينية أو قبلية. وهو يختلف عن هيغل في أعمار ومصائر الدول، حتى أنه يراها مقاربة للنوع البشريفي حياته، إذ تمر بمراحل النمو والشباب والشيخوخة ثم الاضمحلال لتعود عصبية جديدة فتستولي على زمام الأمور وهكذا. والملفت أن ابن خلدون يدرج الاجتماع الاسلامي الأول في تصنيفه هذا .ففيالفصل الثاني عشر وتحت عنوان “الرياسة على أهل العصبية لا تكون في غير نسبهم، وأن العصبيات تكون رئاستها داخل الفرع الأقوى الأصيل فيها، يقول:” الرياسة بالتغلب والقوة ، وهذا لا يكون إلا بالعصبية ، وفي داخل القبيلة الواحدة،  لا يمكن أن تدين العصبيات الأخرى لفروع القبيلة، إلا لعصبية فرع أقوى تكون أصرح نسبا ، وهذا لا يتم لمن يلتصق بالقبيلة ، خصوصا وأن الرياسة تنتقل في بيت واحد يتوارثها الأبناء عن الأجداد “. علماً أنه يتحدث في موضوع عن قريش وموروثها الزعامي على العرب . راجع مقدمة ابن خلدون، الفصل الثاني عشر. يشار أن نظريته في العصبية والبداوة والحضر والعمران وغيرها أوسع مدى من هذا الاقتباس المقتضب.

[9]– اعتمد الصايغ على مؤلفات كل من : محمد أركون ومونتغمري وات وعلي دشتي وحسين مروة وهشام جعيط وجورج طرابيشي وغيرهم. وأخذ اقتباسات مؤلفيها عن المصادر التاريخية، وهو ما يثير مشكلة كبرى ، لأنه لو توجه الصايغ نحو المصادر التي أخذ عنها هؤلاء، لربما كان سيكتشف أموراً غير ما جاءوا به . ثم أن كتابة التاريخ أي تاريخ تتطلب العودة إلى المصادر الأصلية وليس إلى المراجع التي تتأثر بعوامل متداخلة.

– [10] لمراجعة الدور الذي لعبه قصي في تنظيم مكة وتقسيماتها المدينية والقبائلية والاجتماعية راجع البلاذري ” أنساب الأشراف ” الجزء الأول تحقيق محمد حميد الله ، دار المعارف ، ط 3 ، (د. ت) الصفحات 48 – 53 ، كما ترد معطيات ضافية حول هذا الدور لدى الأزرقي في “أخبار مكة ” تحقيق رشدي الصالح ملحس ، دار الاندلس ، بيروت ( د. ت) . وكذلك لدى الطبري والمسعودي واليعقوبي وغيرهم .

[11]– للاطلاع على تفاصيل هذه العلاقات منذ ما قبل حياة عم الرسول عبد المطلب وما ورد بشأنها وتطورها في المصادر التاريخية ، راجع زهير هواري ” السلطة والمعارضة في الاسلام : بحث في الإشكالية الفكرية والاجتماعية 11- 132 هـ / 612 – 735 م ” المؤسسة العربية للدراسات والنشر ، بيروت 2003 ، تحت عنوان علاقات الخؤولة في الصفحات 22- 26 .

[12]– نشير هنا إلى أن عدد نقباء الخزرج تسعة نقباء، بينما لم يزد عدد نقباء الأوس عن ثلاثة ، ما يعني ثلث النقباء ينتسبون إلى الثانية، وثلثيهم إلى الخزرج، وقد ظل هذا الخلل التكويني في اختراق الاسلام بنية المجتمع اليثربي ملحوظاً في السنوات اللاحقة على الهجرة النبوية.

[13]– راجع سيرة ابن هشام الجزء الثاني من الصفحات 125 – 157 التي تتضمن قائمة طويلة بالمسائل الخلافية عقائدياُ ، ما يدلل على تنازع على السلطة والإمساك بزمام القرار في يثرب، إلى جانب التنافس على سبل العيش بعد أن بات المهاجرون قوة مناقسة اقتصادية يحسب لها حساب، وباتوا جزءاً من مجتمعها بعد المؤاخاة والصحيفة، لكن فئة من المسلمين ظلت أوضاعها بائسة وهؤلاء يطلق عليهم أهل الصفة في المصادر، وهم ممن لا قوة قبلية لهم كونهم أفراد كـ : سلمان الفارسي ، صهيب الرومي ، عمار بن ياسر ، أبو ذر الغفاري وغيرهم .

[14]– الأعراب في القرآن هم غير العرب ، وجمعه أعاريب ، ومفرده أعرابي، ويقصد بهم البدو أو سكان البادية، وهم خلاف سكان المدن أو أهل الحضر، فالأعراب هم من أهل الوبر في إشارة إلى الخيام التي يقيمون فيها والترحال الدائم من مكان لآخر حيث الماء والكلأ. وقد وردت أكثر من عشر آيات في القرآن بشأنهم ، ولاسيما في سورة التوبة، وهي مدنية  ( الآيات 97 ، 98 ، 99، 100 ، 101 ، 102 ، 103 ، 104 ، 105 ، 106 ) .

[15]– ينطلق المؤلف من نظرية قوامها أن الديانات لم تنتشر إلا بالسيف، ومنها الدين الاسلامي طبعاً ، وهو موقف يحتاج إلى نقاش حقيقي، باعتبار أن تغيير عقائد المجتمعات عملية تراكمية تحتاج أحياناً إلى مئات السنين، كي تتمكن العقائد الدينية المحدثة من تغيير البنى الفكرية القديمة واثبات وجودها. ثم إن المعارك التي خاضها المسلمون لم تقد إلى نشر الاسلام، إذ حتى معارك الفتوحات الكبرى دمرت الجيوش النظامية البيزنطية والفارسية، بينما حافظت أكثرية السكان على معتقداتها المسيحية والزرادشتية حتى القرن الحادي عشر الميلادي أي بعد خمسماية سنة من عمر الفتوحات. ثم كيف انتشرت العقائد البوذية والهندوسية وكذلك الاسلام في الشرق الآسيوي هل بالسيف أيضاً؟!.

[16]– تقول رواية ينقلها كل من ابن سعد في طبقاته والبلاذري في أنساب الأشراف أن عمر بن الخطاب وعمرو بن العاص استغربا استمرار أبي بكر الصدِّيق في ممارسة التجارة خلال خلافته لتدبير أموره المعيشية، فسألهما إقرار عطاء له يكفيه لتأمين عيشه وعائلته، فجعلا له ألفاً وخمسماية درهم ، ولما تبين له أنها غير كافية سألهما ثانية زيادتها له فزاداه لها خمسماية . لمزيد من التفاصيل حول بدائية هذه الدولة راجع ابن سعد ، الطبقات ، ج 3 ص 184 و213 والبلاذري أنساب ، القسم الخامس ، ص 140 كما وردت روايات مشابهة عند الطبري خصوصاً.

[17]– اضطر عمر إلى اعتماد بدايات مؤسسية للدولة مع أنه لم يكن لديه أي تخطيط مسبق للقيام بمثل هذه المهمة ، لكن اتساع السيطرة الاسلامية فرض ذلك ، فمع هذا التطور باتت هناك ضرورة لآلة بشرية تدير الموارد المتأتية عن الفتوحات والغنائم وأموال الخراج والجزية ، ثم هناك مسألة العطاء للمسلمين وهذه بحاجة إلى تنظيم وتراتبية  خلاف ما فعله أبو بكر عندما ساوى بين الجميع في العطاء. وعليه فقد اعتمد عمر في ديوانه تراتبية وضع في المقام الأول منها نساء الرسول، ثم آل بني هاشم، ثم المهاجرين الأول  وأصحاب البيعة الأولى والثانية والمشاركين في معركتي بدر وأحد وهكذا … وبذلك وللمرة الأولى بات للمسلمين جداول وإحصاءات وقيود تنظم عطاءهم . راجع تاريخ الطبري ، ج 2 ، ص 154 والبلاذري أنساب البلاذري ، القسم الخامس ، ص 385  وغيرهما.

[18]– تقدم طبقات ابن سعد ثبتاً بأسماء هؤلاء وما قاموا به كنخبة اسلامية ، كما أن الطبري في تاريخه يتناول الأسماء المؤثرة منهم، وكذلك يفعل البلاذري في أنسابه . ويتبين أن لهؤلاء تأثيراً بالغ الأهمية على قرارات الرسول الدنيوية بما هي الحرب والقضاء وغيرها، حتى أن السيوطي يتحدث عن تصديق الآيات القرآنية لما ذهب إليه عمر بن الخطاب مثلاً خلافاً لرأي الرسول في العديد من المسائل ( أسرى بدر مثلاً ) ، كما أنه نقض ما مارسه الرسول حول عطاء المؤلفة قلوبهم وهم كبار رجالات قريش وبعض القبائل بهدف استمالتهم إلى صفه.

[19]– القرآن الكريم ، سورة الحجرات، وهي مدنية ، الآية 13 و14 ” يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير”.ولكلمة الشعوب تفسيرات كثيرة أبرزها القبائل العظام أو القبائل الكبيرة وغيرها ، راجع تفسير القرطبي ص517 و537 ويمكن تفسير الآية بما ورد في خطبة الرسول في حجة الوداع حيث خاطب الجموع بعبارة أيها الناس وكان يختم جمله بقوله : اللهم ألا إني قد بلغت ، وكانوا يجيبونه بنعم .

[20]– يقول القرآن الكريم “فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ  (159) (آل عمران) ، وكذلك قوله :”  وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ  (38) (الشورى). ولم ترد سواهما في النص القرآني، كما لم يثبت في الممارسة ما إدعاه البعض من المؤرخين الاسلاميين المتأخرين من وجود مجلس شورى يجتمع لدى الطوارئ وهو إدعاء لا أساس فعلياً له .

[21]– يندرج ضمن الفئة الأولى أبو بكر وعمر بن الخطاب  وأبو عبيدة بن الجراح، والأنصار خزرجها وأوسها بقيادة سعد بن عبادة وغيرهم ، وفي الفئة الثانية آل هاشم وفي المقدم منهم السيدة فاطمة وعلياً والعباس وغيرهم من مؤيدي إمامة علي بن أبي طالب بمن فيهم بني أمية بزعامة أبي سفيان وأبنائه، وسلمان الفارسي وأبو ذر الغفاري وغيرهم .

[22]– لمعرفة حقيقة أجواء المدينة والمؤيدين لخلافة الإمام على ومعارضيها ينبغي الرجوع إلى الطبري ، المجلد الثاني من الصفحات 698 – 702 ، إذ يحدد الطبري في رواياته أسماء المؤيدين والمعارضين ونسبتهم القبلية وانتماءاتهم إلى قريش باعتبارهم من المهاجرين أو أبناء المدينة ومن قدم منهم من الأمصار ( مصر والعراق ) ، والأسماء التي ترد هي ذات وزن اسلامي واجتماعي على حد سواء ، وبعض ما يورده يفسر أسباب معارضتها وإنضوائها في مواجهة خلافته بالمال والسيف ، بالنظر إلى معاودة الخليفة الجديد علي مباشرة المساواة بالعطاء الذي كان قد اعتمده أبو بكر وخالفه في ذلك عمر الذي اعتمد تراتبية اسلامية، فضلاً عن توافقه مع ما ذهب إليه عمر من رفض توزيع أرض سواد العراق على الفاتحين المسلمين . وهذه الإشكالية تركت بصماتها على حروبه مع معاوية، وقادت لاحقاً إلى انهيار معسكره. ومنه يتبين أن لاوجود لـ “ديموقراطية شعبية مباشرة وقريبة من الديموقراطية الأثينية” كما يصفها الكاتب، بل حاصل صراعات كانت المدينة مسرحها، و لها طابعها المختلف عن تلك التي عرفتها عملية انتقال السلطة من الرسول إلى الخليفة الأول ومن الثاني إلى الثالث وهكذا إلى اليوم ،ما يؤشر إلى معضلة بنيوية تعود إلى فقدان المؤسسات على نحو كامل كما في نظام الخلافة، أو عدم فاعليتها بتأمين عملية الانتقال الطبيعي للسلطة في أفضل الأحوال كما هو حاصل حديثاً.

[23] ) مداخلة من دون الحواشي المرافقة خلال مناقشة كتاب “محمد السيرة السياسية ” الصادر عن دار الفارابي لمؤلفه الزميل نصري الصايغ في المجلس الثقافي الاجتماعي للبقاع الغربي وراشيا في مقره في جب حنين في 14 أيلول 2019 بمشاركة الزملاء د. هيفاء عميص ود. عماد خليل والمؤلف.