موقعيّة القدس في الوعي الديني الإسلامي والمسيحي

بقلم: الأستاذة الدكتورة نشأت الخطيب

أستاذة التاريخ الإسلامي في الجامعة اللبنانية،

وفي جامعة بيروت العربية-بيروت

rimahkhatib@gmail.com

تنفرد القدس عن سائر مدن العالم بأهميتها الروحية كمركز لتراث وذكريات المسلمين والمسيحيين واليهود، لذلك استأثرت باهتمام الناس كافة في أنحاء الكرة الأرضية. ونستطيع الجزم بأن ما من بقعة في العالم اكتنف تاريخَها تناقضٌ كما فلسطين وعاصمتها القدس العربية لارتباط تاريخها بالعقيدة الدينية للأديان السماوية الثلاثة. وقد أدخلالتناقضُ بين الفعالية الموروثة والحقيقة التاريخية القائمة مجتمعَنا العربي في صراع عقدي حضاري وسياسي منذ فجر التاريخ.

فالصهيونية أنتجت خطاباً أيديولوجياً عنصرياً بخصوص فلسطين استناداً إلى تلمودهم الذي يأمر بقتل البشر والحجر ليعاد استخدامه حاضراً ومستقبلاً في خدمة سياستهم الاستعمارية التوسعية للسيطرة على كل فلسطين وطرد أهلها. والقدرة على تغيير التاريخ وإنتاجه لا تأتي من فراغ فكري، فثمة اتجاهات فكرية تمهد السبيل إلى ذلك، وكما يقول العالم النفسي إيريك فروم: “إن كانت الفكرة تستجيب لحالة نفسية قوية لمجموعة من الناس فسوف تكون قوة فعالة في التاريخ”. وعلى هذا الأساس تصرف الصهاينة في العصر الحديث،  فبعد سيطرة إسرائيل على كل فلسطين عام 1967 ابتدأ الصراع منذ مؤتمر مدريد يتركز على القدس لطمس معالمها المسيحية والإسلامية، وما حريق المسجد الأقصى عام 69 إلا ضمن هذا السياق.  فالهدف التخلص من المعالم والآثار التي تكونت عبر خمسة آلاف سنة من التاريخ أي منذ بناها اليبوسيون حوالي الألف الثالث قبل الميلاد، مستندين دوماً على ميثاق أسطوري بين الله وسيدنا إبراهيم ورد في سفر التكوين ونصه: “في ذلك اليوم قطع الرب مع أبرام ميثاقاً قائلاً لنسلك اعطي هذه الأرض، من نهر مصر إلى النهر الكبير الفرات”،(سفر التكوين (15-18)

والسؤال هو التالي:ألسنا كمسيحيين ومسلمين من نسل إبراهيم؟؟ لماذا يجب أن يقتصر نسل إبراهيم على اليهود؟؟

أما من مفكرين يجابهون الحجة بالحجة؟؟ بلى، هناك الكثيرون ولكننا في عصر لم يعد للقيم والأخلاق والدين هذا المحرك السحري الذي كان عند الأجيال السابقة.

هذه المقدمة ضرورية لارتباطها بالقدس ولتبيان موقعية القدس في الوعي الديني المسيحي والإسلامي فيإطار موقعها عند اليهود أولاً والصهيونية ثانياً، ولارتباط هذا التاريخ بواقع القدس حاضراً ومستقبلاً، ولما تتعرض له القدس المسيحية والقدس الإسلامية من الصهاينة وتحت ستار الدين دوماً.

والوعي الديني للقدس عند المسيحيين والمسلمين ارتبط بالعقيدة الدينية التي يؤمنون بها والتي اعتبرت هذه المدينة مقدسة.  ومصدر التاريخ المقدس هنا هو نصوص مقدسة إلهية تروي قصة أو حكاية عن بيت المقدس. وقد ساهمت هذه النصوص وهذه القصص في تشكل وعي شعوب كاملة. ونظرة سريعة إلى التاريخ والقوى المتصارعة فيه ترينا كيف كانت القدس دوماً الحافز والدافع والمجيش لحروب كثيرة دارت في القدس وعلى القدس بإسم الدين، حتى ولو كانت هذه الشعوب بعيدة عن القدس كما في الحروب الصليبية (حروب الفرنجة) حين أتت الجيوش من كل اوروبا إلى القدس. فالقدس حاضرة بشكل مركزي في فهمهم للتاريخ الذي نشأوا عليه وانطبع في موروثهم التاريخي ومخيلتهم الدينية. واستعراض تاريخي سريع لكل ما جرى للقدس تاريخياً يقودنا إلى معرفة أهمية الوعي الديني عند القدماء.

القدس والوعي المسيحي

ابتدأ تقديس الأماكن المسيحية حيث موطن طفولة المسيح وصباه باكراً مع والدة قسطنطين التي سميت بالقديسة هيلانه لإيمانها المطلق بالمسيح وأرضه التي ولد ونشأ وصلب ودفن فيها، حيثأمرت ببناء كنيسة القيامة في المكان الذي دفن فيه المسيح. وما تزال هذه الكنيسة محجة للمسيحيين من جميع أنحاء العالم إلى جانب الأديرة والكنائس الكثيرة التي تغطي أرض فلسطين. وعندما انتعشت التجارة في أوروبا وأصبحت بحاجة لأسواق جديدة، شنت على بلادنا منذ ثمانية قرون هجوماً شرساً (وهو ما سمي تاريخياً بالحروب الصليبية) وسماه العرب حروبَ الفرنجة، وقد هدف هذا الهجومإلى القضاء على الإسلامكدين وحضارة للسيطرة على الشرق. كانت تعبئة الجماهير الشعبية والأمراء هي الدعوة لاحتلال القدس بحجة تأمين طريق الحج، فخطبة البابا أوربانوس في هذا المنحى أكدت الأهداف العقائدية للحملة الصليبية، فكانت رسالته “السلام للنصارى والموت لأعداء الدين”. واستطاع تحت شعار الدين تجييش مئات الآلاف من المقاتلين من كل الطبقات الشعبية فأتت من الغرب إلى الشرق لنصرة المسيحية في فلسطين، والصراع الذي دار بين ملوك اوروبا في الشرق لم يكن على القدس وكنيسة القيامة كما زعموا بل على اقتسام أجزاء واسعة من المشرق العربي الإسلامي، وهو الهدف الرئيسي لهذه الحروب، لكن استغلال موقع القدس مهد المسيح هو الذي استقطب هذا الكم الهائل من المقاتلين.

الوعي الإسلامي بموقعية القدس

بعد موت الرسول (ص) وفي عهد عمر بن الخطاب قرر المسلمون فتح بلاد الشام وخاصة مدينة القدس لاعتبارهم أن بشارة فتحها أتت مع الرسول (ص) وبنص قرآني في سورة الإسراء “سبحان الذيأسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير”، وهنا يتأكد أن الإيمان ببركة المسجد وما حوله صار جزءاً من العقيدة الإسلامية. ولذلك اعتبر المسلمون أن الرسول (ص) فاتحها الأول وواضع حجر الأساس للوجود الإسلامي في هذ المدينة المقدسة. وكانت هذه الإشارات القرآنية حافزاً للمسلمين إلى تحرير هذه المدينة المقدسة واعتبرت بيت المقدس محوراً إسلامياً منذ بداية الإسلام فإليها اتجه المسلمون أول ما اتجهوا للصلاة، وبعد الهجرة صلى الرسول (ص) نحو بيت المقدس ستة عشر شهراً قبل نزول الآية الكريمة “فول وجهك شطر المسجد الحرام” (البقرة/144). من هنا، فقد اعتبرت بيت المقدس أولى القبلتين إلى جانب آيات وأحاديث كثيرة تشير إشارة أو تذكر صراحة فضل بيت المقدس ومكانتها في الإسلام، منها:“وآويناه إلى ربوة ذات قرار ومعين” )سورة المؤمنون/50)، وقد فسرها ابن عباس أنها بيت المقدس، والآية “واستمع يوم ينادي المنادي من مكان قريب” (سورة ق/41)، وقد فسرها الجلالين أن المنادي هو إسرافيل ينادي من صخرة بيت المقدس بالحشر، وهي وسط الأرض.  وروي أن المكان القريب هو صخرة بيت المقدس وقوله تعالى“في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه” (النور/36)، واعتبرت هذه البيوت بيت المقدس باتفاق الفقهاء.

أما الأحاديث التي تناولت مكانة القدس الإسلامية كثيرة سأكتفي باثنين: منهاقول الرسول (ص) “لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد، مسجدي هذا، والمسجد الحرام، والمسجد الأقصى”، والحديث القائل: “يا معاذ إن الله عز وجل سيفتح عليكم الشام من بعدي من العريش إلى الفرات، رجالهم ونساؤهم وإماؤهم مرابطون إلى يوم القيامة، فمن اختار منكم ساحلاً من سواحل الشام فهو في جهاد إلى يوم القيامة”.

هذا هو موقع القدس في وجدان الوعي الإسلامي، أرض مقدسة هي وما حولها، ونرى أهمية ما تمثله القدس في العقيدة الإسلامية وعند شعوب العالم الإسلامي من بعض الصور التاريخية، فالدفاع عن القدس اعتبر قديماً وحديثاً جهادا في سبيل الله ويومَ زحف الغرب لاحتلال الشرق وسقطت القدس بيد الصليبيين، كان للمسلمين حرباً مقدسة تحت راية الجهاد. ولكن لماذا لم يستطع هذا الجهاد ان يصد الغزو الصليبي؟؟

الجواب نأخذه من الواقع التاريخي: إن منطقة بلاد الشام كانت مقسمة بين الفاطميين والأمراء السلاجقة، وفي الوقت الذي كان فيه الصليبيون يحاصرون أنطاكية، كان الفاطميون مشغولين بحصار القدس لإخراج السلاجقة منها. وعندما سيطر الصليبيون على القدس دخلوا المسجد الأقصى وذبحوا معظم من كان فيه.

فلماذا انهزم المسلمون؟؟؟

جواب كل المؤرخين الغربيين الذين كتبوا عن هذه الحروب مفادهأن أحد العوامل الرئيسية في نجاح الحملة الصليبية الأولى كان تفرق كلمة حكام سوريا وعدم قدرتهم على التعاون عندما جاء الصليبيون إلى الشرق.

واعتبر المؤرخون المسلمون سقوط القدس كارثة دامية دامعة. ويصف ابن الجوزي هذه الحالة بقوله: “إن قاضي دمشق ومعه بعض المتنفذين أسرعوا إلى بغداد ليستشيروا الخليفة العباسي بالدفاع عن القدس”.  “وفي بغداد قطعوا شعورهم واستغاثوا وبكوا، والقاضي في الديوان أورد كلاماً أبكى الحاضرين. أما المستظهر العباسي فكل ما فعله الطلب إلى السلطان محمد السلجوقي الاهتمام بالأمر وإرسال خطباء لتحريض الأمراء والناس على الجهاد”،ألا ترون تطابقاً لهذه الصورة مع مسيرة حكام هذا العصر؟؟ وحده صلاح الدين استطاع أن يعيش في ذاكرتنا وخيالنا رمزاً بطولياً لأنه استطاع تحرير القدس ضمن مشروع موحد ابتدأ مع عماد الدين زنكي أمير حلب وحماه واستمر مع ولده نور الدين،وقد تم مع صلاح الدين لاعتبارهم أن الوحدة الإسلامية هي الرابط الضروري للتحرير. هذه الصور التاريخية للوعي الإسلامي لموقع القدس ماذا تفيدنا بوضع القدس اليوم؟؟؟

ما هو وعي المسلم اليوم بموقعية القدس الإسلامية؟؟؟

يوم سقطت القدس بيد الصهاينة عام 1967، كانت ردة فعل العالم الإسلامي متواضعة، ولم تستطع هذه المدينة المقدسة بكل ما تمثل من ثقل ديني وتاريخي أن تحرك الجماهير العربية المسيحية والمسلمة، فكان الغضب ليوم واحد بمظاهرات حاشدة، لأن الحكام غير مبالين بما وصلت اليه القضية الفلسطينية بما تمثل وبمن تمثل، سواء على صعيد التنظيم الجماهيري أو على صعيد المؤتمرات والندوات الكثيرة غير الفعالة طبعاً إلا من باب رفع العتب.

فالقدس بواقعها التاريخي الديني تشكل نقطة تصادم تاريخية بين مشروع استقلالية الوطن الفلسطيني، ومشروع يهودية الدولة “دولة إسرائيل”.

من هنا كان علينا أن لا نقتصر على الوعي الديني في فهمنا ومعالجتنا لواقع القدس حاضراً ومستقبلاً.  فمشكلة القدس اليوم ليست مشكلة دينية فقط، إنها قضية سياسية بالدرجة الأولى. هي مدينة تحت الاحتلال يعمل فيها العدو هدماً وتهويداً، هي قصة شعب واحتلال واستيطان وتهجير ونفي وتغيير لهوية المكان، فإذا اختصرناها بكونها قضية دينية فإن تفكيرنا سينصرف إلى القدس الشرقية التي لا تمثل أكثر من 6 كلم ونضيع القدس الغربية وأحياءها العربية كالقطمون والطالبية التي تشكل حوالي 17،7 كلم حتى عين حارم (كما يقول عزمي بشارة).

ففي القدس يختلط التاريخ السماوي بالتاريخ الدنيوي، لذلك، فإن من واجبنا لاسترجاع القدس أن نعمد إلى بث ثقافة المقاومة إلى جانب الوعي الديني.  فالوعي الديني المرتبط برجال الدين الذين عليهم إيقاظ المعرفة بموقعية القدس في تراثنا الإسلامي أيضاً بحاجة إلى وعي سياسي من قبل الجماهير العربية والإسلامية، وإلى التزام بقضية فلسطين برمتها، وهذا لن يحصل إلا عبر طبقة حاكمة واعية ملتزمة بالصالح العام لقضايا الأمة، فقضية كالقدس تلزم المجتمع الإسلامي أن يعيد إنتاج الرموز المحركة لإعادة صياغة الوعي الديني من جديد والبناء عليه. وعندما يبارك الله هذه الأرض فإن دور رجال الدين أن لا تبقى لديهم قضية سوى القدس حتى استعادة الأرض والمقدسات. ويكون ذلك بسلسلة من المواقف تبدأ:

بشرح تشابك المصالح بالنسبة للمدينة المقدسة وما حولها في ضوء العلاقة التاريخية بين العرب وإسرائيل، وفي ضوء القطيعة التي خيمت على العلاقات بين المسيحية واليهودية تسعة عشر قرناً من الزمان والصراع الذي دار بين الغرب المسيحي والمشرق المسلم (الحروب الصليبية) في القرون الوسطى، وبين الأرثوذكسية والكاثوليكية في العصور الحديثة حول الأماكن المقدسة، فهذا الصراع الطويل الذي هيأ للمسألة الشرقية دورها وللمسألة اليهودية أن تحقق وجودها في أوروبا عن طريق الحركة الصهيونية وتحالفها مع المصالح الاستعمارية في غزو البلاد المقدسة لم يكن مسألة دينية خالصة.

وهذا يقودنا إلى طرح السؤال الآتي:

ماذا تمثل القدس اليوم في الوعي الديني عند المسلمين والمسيحيين في مشارق الأرض ومغاربها؟؟ القدس التي تستباح كل يوم على يد الصهاينة قتلاً وتهجيراً وتدميراً للبيوت وقلعاً للأشجار واستباحة للأموات في مدافنهم؟؟

استنكار ليوم واحد إن حصل، وكأن مرجعية القدس كمركز إشعاع ديني على العالمين الإسلامي والمسيحي قد خبا نوره إلا على الفلسطينيين والمقدسيين الذين ما زالوا يناضلون بنفس الزخم منذ وعد بلفور.  فيوم دنس المجرم شارون الحرم القدسي بحذائه اندلعت في القدس وفلسطين الانتفاضة الثانية ولم يحرك الحكام المسلمون شرقاً وغرباً ساكناً، لماذا؟؟؟ وماذا تمثل القدس في الحاضر والمستقبل عندما يطالب الصهاينة بيهودية الدولة، ولا من يرد عليهم عند العرب؟؟؟ ولو برفض لفظي؟؟؟  ما العمل لنتخطى الحالة المتردية على امتدادات الساحة العربية والإسلامية؟؟

يجب البحث عن مفاهيم جديدة تعيد إيقاد دور القدس في قلوب المؤمنين كي يتكرس الوعي.  وعندما يتكرس الوعي في ذهن الناس تمسك القضية بسواعد قوية وبعقيدة إيمانية للدفاع عنها حتى الاستشهاد كما يحصل اليوم مع أبطال المقاومة الوطنية والإسلامية في لبنان وفلسطين.

فالقدس وفلسطين برمتها ولدت من قصة شعبين جمع بينهما مخطط سياسي إمبريالي خالٍ من الإنسانية بكل وجوهها نتيجة طرد الشعب الفلسطيني لإحلال اليهود مكانهم، هذه الصورة ماذا عساها أن تولد غير الإحباط، ما لم يكن هناك فئة تسهر على إعادة الوعي الديني – السياسي بأهمية هذه الأرض المباركة هي وما حولها بنص قرآني. مع التأكيد على أننا لن نرجع القدس بالوعي الديني والتاريخي فقط.