العدد أربعةمقالات المجلة

باب اللغة العربية وآدابها في العدد الرابع

باب اللغة العربية وآدابها:

  • الرمز والأدب

 بقلم: الدكتور علي مهدي زيتون ، رئيس مجلس امناء جامعة المعارف ورئيس الملتقى الثقافي الجامعي

a.m.zaitoun@hotmail.com

 

لا يرتبط الرمز بالمصدر الصناعي (الرمزية) إلاّ بنَسَب بعيد. فالرمزية مدرسة أدبية شادت أسسّها على ما جاءت به مدرسة التحليل النفسي الفرويدية، أما الرمز فشديد الارتباط بما يعرف بالعلاميّة التي هي ترجمة للكلمة الفرنسية (Semiologie). ولقد حمّلته علاميّتهُ هموماً عديدة وأدخلته مداخل تكاد تكون حقولاً معرفية متمايزة. ولعلّ الهمّ الأكثر حضوراً من بين همومه تلك، هو ذلك الذي يصله بالأدب، خصوصاً أنّ الأدب هو الأوسع انتشاراً من بين الحقول المعرفيّة التي تعاملت مع الرمز. ولنعرف خصوصيّة الرمز الأدبي التي تميّزه عن غيره من الرموز، يتحتّم علينا أنّ نكون على بيّنة من الأدبية ومدى إفادتها من الرمز.

والأدبية التي هي تعريب لكلمة (Littérarité) الفرنسية موزّعة بين جماليّتين: جماليّة النثر من ناحية، وجماليّة الشعر من ناحية أخرى. وإذا كان الشعر هو المعنيّ، بشكل أساسي، بالرمز؛ بات لزاماً علينا أنّ نستخرج من كلمة (Littérarité) التي تعني الأدبية، كما أشرنا، كلمةَ (Poéticité) التي تعني الشعريّة، الشعريّة التي تعبّر عما يجعل من كلام ما شعراً. والشعرية مثلُها مثلُ أمِّها الأدبية لا يمكن فهمُها فهما علمياً، كما أرى، إلاّ من خلال نظريّة الكشف. هذه النظريّة التي تتجاوز نظريتي: (الانعكاس)، و(الانكسار) اللتين قامت عليهما، وعبر مرحلتين، الثقافة النقدية الغربية، وترفض ما ادّعته كلُّ منهما من أنها الفهم السليم للأدب.

تنطلق نظريّة الكشف من فهم محدّد للعالم المرجعي، مادة الأدب. فما هو موجود في هذا العالم، إنساناً كان، أم حدثاً، أم شيئاً هو متعدّد الأبعاد إلى درجة لا حصر لها، وحسب المتّجه بالرؤية إلى مكوِّن من مكوّنات العالم الرجعي، أديباً كان ذلك الرائي، أم شاعراً، أم إنسانا عادياً التقاطُ بُعْدٍ واحدِ مّما لا يعدّ ولا يحصى من أبعاد المرئي. وهو بعدٌ لا يمكن أية رؤية أخرى أنّ تلتقطه. ومن الجدير بالذكر أنّ ما التقطه هذا الرائي قد مكّنته منه رؤيته إلى العالم.

ورؤية الفرد متشكّلة من ثقافة ذلك الفرد، وقناعاته، وهمومه، واهتماماته. والثقافة داخل بنية الرؤيةهي المكوّن الحاكم والفاعل الموجه لسائر المكوّنات. وهذا يعني أنّه المتحكّم الأوّل بالرؤية نفسها. ومما يجدر ذكره في هذا المجال أنّ الرائي يعبّر عمّا التقطته رؤيته من العالم المرجعي باللغة، اللغةِ التي تشكل مع الرؤية والعالم المرجعي ثلاثيّةَ نظريّةِ الكشف الأثيرة، هذه النظريّة التي تمثّل، بتقديري، الفهم الدقيق للأدبيّة ومن ضمنها الشعريّة. وإذا كان ما تستطيع رؤية راءِ محدّد أنّ تكشف عنه وتلتقطه، في أثناء نظرتها إلى شخص، أو حدث، أو مكان، لا يمكن لأية رؤية أخرى أنّ تلتقطه، فإن ذلك يدعونا لنرى أنّ الأدبيّة ومن ضمنها الشعريّة خصوصيّة وفرادة. والشاعر لا يكون شاعراً إذا لم يقدّم لنا في قصيدته خصوصيته وفرادته. والخصوصيّة والفرادة لا تجتمعان لشاعر إذا لم يكن مثقفاً كبيراً، بما يعني أنه قد امتلك ثقافة عصره واستطاع أنّ يطرح عليها، بقصيدته، من الأسئلة ما يحرجها ولا تستطيع الإجابة عنها. ولعلّنا لا نستطيع الدخول إلى عالم الرمز الأدبي، وإلى وظيفته في انتاج الشعرية من خارج هذه الخصوصيّة وتلك الفرادة. والرمز هذا المثقل بدلالة وصلت في كثافتها حدّا فائقا، إذ لا يمكن لأيّة علاقة بين اثنين أنّ تلامس دقّة شعرة معاوية، ولا تبلغ عبثيّة أيّ جهد يبذله إنسانٌ عبثيّة الجهد الذي حُكِم على سيزيف أنّ يبذله. فالرمز مرقى من الكثافة لا يمكن أيّة صورة شعريّة أنّ تصل إليه، وإلا لم يعد رمزاً. وهو لا يكون رمزاً من دون هذه الخاصيّة.

ولقد احصى الدارسون أنواع الرموز المتداولة، فوجدوا أنها لا تعدو كلا من الرمز التاريخي، والرمز الأدبي، والرمز الديني، والرمز الأسطوري. ولقد أضافوا إلى هذه الأنواع ذلك الذي ينتجه الشاعر نفسه، عبر ترميز شخصية من الشخصيات أو شيئاً من الأشياء كالماء والدم عند شمس الدين مثلاً. وإذا نال كلّ من الرمزين التاريخي والأدبي كثافتهما من خلال تداول الأجيال إياهما، فكانت تجربة كلّ جيل مع (المتنبي) مثلاً، أو مع (حاتم الطائي)، أو (نيرون)، تكسب ذلك الرمز أبعاداً جديدة وكثافة جديدة متناسبة مع تجربة ذلك الجيل، فإن الرمز الديني وذلك الأسطوري قد وجدا مكتملين من حيث الكثافة الدلاليّة. و(الطيور الأبابيل)، و(سيزيف) مثالان جيّدان على تلك الكثافة.

ولقد اشترط النقد الأدبي ثلاثة شروط تتعلّق بكيفية تعامل الشاعر مع أيّ رمز من الرموز: أنّ يرتبط ذلك الرمز بسياق القصيدة، وأن يحمل من هموم الشاعر ما يعطيه خصوصيّة انتمائه إلى ذلك السياق، وأنّ لا يحمّل ما لا يطيق. وإذا كان لنا أن نناقش هذه الشروط، فنقبل ما نقبل ونرفض ما نرفض، فإننا لن نستطيع مناقشتها إلاّ بعد أنّ نتبيّن حاجة الشعرية إلى الرمز. ولنتبيّن ذلك علينا أنّ نعرف حقيقة الشعرية من داخل ثلاثية نظريّة الكشف. وإذا كانت الأدبيّة، عامة، قائمةٌ على ما تلتقطه الرؤية من عمق من أعماق جانب من جوانبِ العالم المرجعي أو آخر باللغة، فإن الشعرية تضيف إلى مكوّنات الرؤية من ثقافة وقناعة وهمّ واهتمام (الانفعالَ) الذي يشعل تلك الرؤية فيجعلها تلتقط من العالم المرجعي ما لا يمكن اللغة، من خلال الدلالة الوضعيّة للكلمات، أن تلتقطه. فطبيعة اللغة تفرض أن تكون مفرداتها عناوين عامة تتّصف بالقصور المنهجي عن التقاط الخصوصيّة، فالفرح أنواع ودرجات غير قابلة للاحصاء. ولا يمكن أيّة لغة من لغات العالم أنّ تخصّص كلمةً لكل نوع، وكلمةً لكل درجة؛ لأن ذلك يجعلها غير قابلة للاستيعاب وبالتالي للاستعمال. ولا يستطيع من اشتعل قلبه بالفرح حيال انتصار من انتصارات المجتمع أنّ يقدّم فرحه بالفعل (فرحت)، الذي يمكن أنّ يعبّر به عن فرحه من التقى صديقا، والفرحان متمايزان. يلجأ الشاعر عادة إلى المجاز ليعبّر عن فرحه عن طريق التشبيه أو الاستعارة، أو الكناية؛ لأنّ المجاز يعوّض قصور اللغة عن التعبير عن خصوصيّة الشعور بالفرح.يعاين محمد علي شمس الدين طاقته الشاعرة، فيرى أنها ملزمة بالفجيعةِ، فجيعةِ الإنسان. ولا يعني وعيه بتلك الفجيعة أنّ ذاته الشاعرة معافاة لا تعتورها الأزمات، ولا تعترضها الصعوبات. قدّمها مخنوقة بمرارة اليأس:

(غنّيت على وترين من الزلزالْ/ فتراجع نحو الصفر دمي/ واغرورق بالتعب الموّالْ/ آهٍ/ تعبي، أبتاه، تراجع نحو الصفرْ/ سأطلق هذي الصرخة، ثم أنامْ/ لألوف مناقير الطير تنقر أجفاني/ أطلقها وأنامْ) الاعمال الكاملة (ص 147)إنّ التعب الذي تلبّس هويّة الدمعة من خلال تعدية الفعل (اغرورق) إليه بوساطة حرف الجرّ الباء قد قدّم الموّال إلينا عينا محبطة غير قادرة على الرؤية. بدت على سيمائها امارات الحزن والأعياء في ظلّ مناخٍ تراجع فيه دم الشاعر المغني إلى الصفر، وفقدت فيه الحياة فعاليتها؛ لأنّ التعب بما يشير إليه من معاني القدرة على ممارسة الحياة قد تراجع إلى الصفر أيضاً. وأن تتراجع كلّ عقارب المؤشّرات إلى الصفر يعني الصرخة الأخيرة والاستسلام إلى سبات عميق عقيم. وأنّ ينام الشاعر يعني أنّ لغته قد تعطّلت ولم تعد قادرة على ممارسة فعلها، فهل تستطيع مناقير ألوف الطير التي تنقر أجفانه أن تعيد فتح عينيه للضوء والحياة؟ ويبقى أنّ العمق الوجودي الذي التقطته رؤية الشاعر في حياته نفسها ما كان للغة العادية أنّ تقدّمه للمتلقي لولا حضور المجاز إلى الساحة الكشفية التي مارسها الشاعر. المجاز، في مثل هذه الحال، هو القادر على أنّ يعوّض قصور الكلمات القاموسية في تقديم البُعد الوجودي الذي عاشه الشاعر.

ويعيش الشاعر أحوالاً يصبح معها المجاز هو الآخر لغة قاصرة عن تقديم ما نفذت إليه الرؤية. يحتاج الشاعر إلى الرمز بكثافته المتوهّجة من أجل التقاط ما رآه.

قرأ السيّاب صباه بعين المدنف المشرفعلى الموت فقال:

ـــكان يومي كعام/ تعدّ المسرّهْ/ فيه نبضاً لقلبي تفجْرُ منها على كلّ زهرهْ/ كانت الأرض تلقى صباها لأوّل مرّهْ/ كان قابيلُها بذرةً مستسرّهْ) الديوان1/206.

لا شك في أنّ السيّاب يراقب صباه من على سرير المرض، الزهري، في اخريات أيامه. لجأ، في البداية، إلى المجاز ليقدّم إلينا ما رآه من صباه “كانت الأرض تلقى صباها لأوّل مرّة”. أخرج هذا المجاز الأرض من هويتها المكانيّة، ليخلع عليها هويّة بشريّة تمرّ بمرحلة الصبا ككلّ بشري. هذه الهويّة التي تسمح بقيام شراكة بين الشاعر والأرض. هذه الشراكة التي تدفع جمال صباه إلى درجة الاسطورة. ولئن استطاع المجاز أنّ يقدّم إلينا قراءة الشاعر صباه معزولاً عن المراحل التالية من حياته، من خلال الأسطرة، فإنّ هذا المجاز سيصبح عاجزاً عن تقديم ذلك الصبا متصلاً بالشيخوخة، الشيخوخة التي باتت مسكونة بالزهري. لم يبق سوى الرمز أداة، قادرة على تقديم ما رآه الشاعر من ذلك الاتصال. يأتي (قابيل) في قوله: “كان قابيلها بذرة مستسرّه”، وبما يمثّله من “بذرة شرّ” في تاريخ البشرية، ليمثل اللغة القادرة على نقل ما التقطته رؤية الشاعر. إنّ احتضان صباه البذرةَ القابيليّة المستسرّه، وحده القادر على تقديم المأزق الوجودي الذي كان السيّاب يعاني منه في أيامه الأخيرة. والحقيقة أنّ هذا المأزق الوجودي سينير قابيل بأبعادٍ سيّابية لم تكن له قبل هذه القصيدة. يعني أنّ الرمز، في أثناء دخوله أية قصيدة، يقوم بعملية إضاءة واستضاءة. والرمز بعد حضوره في قصيدة ما لا يبقى كما كان قبل دخوله. فهو كالكلمة في نماء مستمّر.

وما كان لمحمود درويش أنّ يكتفي بوصف الإسرائيلي بالظالم؛ لأنّ كلمة (ظالم) قاصرة عن تقديم خصوصيّة ما رآه الشاعر من الظلم الإسرائيلي. وهو لم يجد في المجاز لغة قادرة على تقديم ذلك الظلم، فلجأ إلى الرمز يعوّض به قصور المجاز الذي يعوّض قصور الكلمات القائمة على المواضعه. خاطب الفلسطيني المقهور قائلاً:

ـــ يا دامي العينين والكفيّن/ إنّ الليل زائلْ/ لا غرفةُ التوقيف باقية/ ولا زرد السلاسلْ/ نيرون مات/ ولم تمت روما بعينيها تقاتلْ/ وحبوب سنبلة تجفّ/ ستملأ الوادي سنابل” (أوراق الزيتون، ص 16).

لقد تكفلت ثنائيّة (نيرون/ روما) بتقديم ثنائيّة (الإسرائيلي/ الفلسطيني) كما التقطتها رؤية محمود درويش، وما كان للكنايتين: (غرفة التوقيف) و(زرد السلاسل) أن تكونا فاعلتين، ولا كافيتين لاعطاء الرؤية الدرويشية عمقها لولا الاستعانة بالرمز النيروني الذي يمكنه وحده أن يكشف عن تأصّل الشرّ في النفس الإسرائيلية، وما في تلك النفس من همجيّة تتجاوز كل المقاييس المعروفة بين الناس عن الغريزة الحيوانية التدميرية. ومهما يكن من أمر، فإنّ نيرون هذه القصيدة قد استعار من نيرون التاريخ اسمه ليتجاوزه إلى أن يكون نيرون محمود درويش دون سواه. وروما محمود درويش هي الأخرى ليست روما المستسلمة لقدرها، إنها روما المقاومة. فالموازنة التي أقامها درويش بين (بقاء روما) على قيد الحياة دون نيرونو(السنابل)، تجعل من روما روما الشاعر دون سواه. “وحبوب سنبلة تجفّ/ ستملأ الوادي سنابل”. فالسنبلة برمزيّتها المرتبطة باستمرارية الحياة وتوالدها الدائم قد أعطت روما نيرون بعداً لم يكن لها. إنها تجربة محمود درويش والشعب الفلسطيني مع الإسرائيلي، فالسنبلة التي تجف، الإنسان الفلسطيني الذي يمثل مشروع شهيد دائم، كفيلة ببعث الحياة وتوسعها.وحين تُحمّل روما هموم شاعرنا، يعني أنها ونيرون قد أعطيا من خلال قصيدة درويش أكثر ممّا اعطياها، والرمز إذا لم يحمل نماء جديداً مع كل قصيدة يعبرها يمثل فشلاً للشعر وللشعريّة.

وتغذّ (أبابيل) محمد علي شمس الدين السير في اكتساب خصوصيّة تجربة الشاعر في رؤيته (أطفال سينا) التي جعلته يسير بتلك الطيور إلى التناقض مع ذاتها من دون أن يُفْقدِها طبيعتَها التي تعرف بها. ولعلّ هذا المسار سرّ من أسرار شعريته القادرة على التقاط أنفاس الأحباط الحارّة:

ـــ ناشراً لحمه للطيور الأبابيل تغدو خفافا/ وتنقضّ ساديّةً/ نم تأوي إلى برجها في السماءْ/ كان منقارها المعدنيُّ المحنّى بأشلائه/ شاهداً للدماءْ/ هكذا يسقط الطفل في شمسها عاريا/ عاريا/ عاريا) الأعمال الكاملة، ص 19 ـــ 20).  أن يكون طفل سيناء ناشراً لحمه للطيور الابابيل يعني أنه مختلف عن جيش أبرهه. كيف لا، وهو الذي رأيناه “عاريا يعدو على سدرة الأرض” (ص 19)، على هيئة الطفل/ البراءة والحياة. أنه فيض الحياة لم يسر غازيا لتدمير مجدٍ من أجل بناء مجده، لم ينو الاعتداء على حرمات الله، لم يتشبّث بحرصٍ كحرصِ أبرهة على الحياة. هو عار ناشر لحمه بكلّ عفويّة المؤمن بالحياة، لم يتحصّن في وجه الطيور الأبابيل، ولم يفكر بالتحصّن.

إنّ علاقة ضديّة تربط أطفال سيناء بأبرهة. أبرهةُ غازٍ والطفولة مغزوّة. أبرهة مدجّج بالسلاح، والطفولة عاريةً ناشرة لحمها للسلاح. فهل يقيم هذا الافتراق افتراقاً ضديّا بين أبابيل سيناء وأبابيل القرآن؟ أُرسلت أبابيل القرآن الكريم لقمع الاعتداء على حرمة السماء، وأُرسلت أبابيل سيناء للاعتداء على حرمة الإنسان. الفارق جوهري بين نوعي الأبابيل. ويوجد إلى جانب هذا الفارقِ فارقٌ جوهري آخر يُبعد الشقّة أكثر بين نوعي هذه الطيور. طيور القرآن نظام دقيق في تعامله مع فيلة أبرهة، وطيور سيناء مدفوعة بمشاعرَ عنصريّةٍ ذاتيّة تخصّها “تنقض ساديّة” من خلال مركب نفسي مرضيّ يلذ له التمتع بآلام الآخرين. وإذا كانت المسافة بين نوعي الطير بهذا القدر من الاتساع، فما الذي بقي من الأبابيل القرآنية. ينقل هذا الانكسار الذي رأيناه في حقيقة الرمز القرآني الانكسارَ الذي حدث للثقافة العربية بعد هزيمة حزيران العام 1967. وما كان لهذا الرمز أن يقدّم رؤية الشاعر إلى التفوّق العسكري الإسرائيلي لولا ذلك التعامل الذي قام به الشاعر معه. فجيل حزيران بات يرى في الطائرة الإسرائيلية قدراً قاصماً ظهره، وقدرته على الوقوف، ومجابهة الأبابيل الإسرائيلية. لقد استطاعت أبابيل محمد علي شمس الدين اكتشاف الأصعب والأكثر إلتباساً ووعورة من جوانب الوجود. لقد طرحت طيور القصيدة مشكلة الإنسان على الأرض بكلّ ملابساتها. فالظلم محصّن يسلّط اللعنة على الطاهر. والمقدّس المتصل بالسماء بكلّ أواصر القربى منفيّ يواجه شيطاناً ادّعى السماء وطغى باسمها، وما كان لأبابيل هذه القصيدة أنّ تنجح في مهمتها الكشفية لو جرى الالتزام بالشرط الثالث من شروط استخدام الرمز. لقد تكفّل تحميلُ الأبابيلِ القرآنية بما لا تطيق بالكشف عن الانكسار الذي قرأه الشاعر في ثقافة الأمّة الحزيرانية.

ونجد مثل هذا مع هدهد الشاعر نفسه.

ـــ يطأ الهدهد أزمانا لا يعرفها/ يطأ الهدهد أرضاً للميعاد ولا يأتي/ يطأ الهدهد حزناً كالصحراءْ) (الاعمال الكاملة ، ص 271.) انعدمت الرؤية وصارت عقيما. كان هدهد سليمان (رؤيتُه) ذا بُعد واحد (مكاني)، أما هدهد الشاعر فكان ذا أبعادٍ تشمل الزمان والمكان والذات (الشاعر). ومع ما حفزه به الشاعر، فقد ظلّ محبطا كليلاً، فالزمان طلاسم لا تُقرأ، والمكان أرض ميعاد عقيم تُخرِس لسانَ منيدخل ملكوتها، والذات مقفرة كصحراء الجزيرة لا تنضج أكباد الحصى. بات الهواء الذي نتنفّسه عقيما، ولا وظيفة للهدهد في مثل هذا الواقع. إننا أمام تدمير للأبعاد الايجابية التي كان يحملها هدهد سليمان، أو إلغاء لها. ويبقى أنّ هذا الرمز الذي أُفرِغ من ابعاده الأولى التي كانت له، قد مارس دورا كشفيّا مطلوبا من الشاعر، فالشاعر لم يستحضره، على حاله هذه، ليكشف لنا شيئاً خارجاً عنا، ولكنه قد استحضره ليكشف لنا أبعاد العمى الذي أصابنا وأصاب مجتمعنا. فاستطاع هذا الرمز أنّ يكشف ما لم نكن نعرفه من حجم العقم الذي نالنا، ومن مدى سرطانيته التي امتدت إلى جهاتنا الثلاث التي لا رابع لها ليشكل لنا مخرجاً.. ويعني ذلك أنّ هدهد محمد علي شمس الدين قد دخل قصيدته ليمثل نماء في دلالته، وليعير بانكساره عن انكسار ثقافتنا. ومهما يكن من أمر، فإن الرمز يتحوّل عند دخوله أية قصيدة، إلى مفردة تحمل إمكانات النماء مع كل استخدام جديد لها، وتحتاج إليه. وذلك لتبقى علامة الشعريّة الفارقة والقادرة على قراره ما استصعبه المجاز ولم يقدر عليه.

كلمة أخيرة

يكاد الرمز في أيّ ديوان من دواوين الشعراء الكبار دون سواهم يشكل نسغ الشعريّة الأساسي الساري في عروقه، حتى لنشعر بأن ذلك الديوان حصيلة لانفعال الأمّة الكبير في وقفتها أمام ذاتها المرتبكة القلقة الضائعة. ومع ذلك يبقى ذلك الرمز صوتاً صادراً عن ذات الشاعر عن خصوصيته، بقدر صدوره عن الذات الجمعية التاريخية للأمة.

ولم يحرك الشاعر الرموز من الخارج باتجاه الداخل، ولا يحاول ايقاظها داخل ذاكرته ووجدانه؛ لأنها كانت سياقاً طبيعياً حاضراً حضوراً عفوياً في تجربته الشعورية حيال الأزمة الحضارية والثقافية والوجدانية التي تحيق به وبالإنسان العربي المعاصر. فكان من الطبيعي جداً أنّ يشكل كل من قابيل ونيرون والطيور الأبابيل، والطوفان، والهدهد جزءاً من بنية همومنا المعاصرة، وإنّ كان الجميل منها قد أُفسد كما أفسد كل شيء جميل في حياتنا الحالية. فالطيور الأبابيل التي تدخلت بأمرٍ من اله السماء لتحسم الموقف، ذات يوم، لصالح الخير، صالحنا، تدخلت اليوم بأمرٍ من شياطين الأرض لتحسم المواقف لصالح الشر، صالح أعدائنا. إنّ الحسم السريع الذي انجزته الأبابيل الإسرائيلية في كل معاركها ضدنا جعل الشاعر يرى وكأنّ عملية سطو إسرائيلية قد ألقت القبض على تلك الأبابيل وسيّرتها لصالحها.

والطوفان المتأصّل في أعماق ذاكرتنا الجمعية، والساكن في الطبقة الراسخة من وجداننا كان حضوره في الشعر حضوراً تلقائياً جعلته مسيرة الحياة العربية مخلوقاً مشوّهاً. حتى الهدهد الذي كان رسولاً لسليمان يكلمه بلسان فصيح. بات عييّاً، ودخل متاهة لا مخرج له منها.

إنّ الجرح الأليم والصدع العميق الذي أحدثته التجربة العربية المتردّية في أعماق وجداننا، فشجّت الحلم، وأدخلت نسغاً أسود إلى عروقه قد طال تلك الرموز، بما هي جزء من ذلك الوجدان، وأحدثت شرخاً قوياً في نداوة روحها التفاؤلية، وأكسبتها أبعاداً ضديّة: فالطوفان فعل رجس، والأبابيل قوة ظالمة، والهدهد عماء، والمسيح انتصار للألم لا عليه. ولقد تبدّت الذاكرة العربيّة في مثل هذا الواقع، وكأنها ذاكرة قائمة على الاحباط والتردي ليس فيها ما يُسْتَحبّ استذكاره أو نشدان الحماية في أفيائه. ولا يُعدّ هذا موقفاً سوداوياً يُلام الشاعر عليه، لأنّ المطلوب من الشاعر ليس نصّاً خطابياً يستنهض الهمم ويبعث الأمل والتفاؤل في النفوس، كما رأى بعض أصحاب المدرسة الواقعيّة الذين ينظرون إلى الفن وسيلة للتشهير والتحريض تصبّ في طاحونة الثورة الاجتماعية. الشعر قراءة للعالم واكتشاف لجوانبه المتعددة يقدّم مناخات وعوالم تلفّ المتلقي جملة، وتجعله يعيش حقيقة من نوع خاص، وبكل جوارحه دون استثناء. ورموز شعرائنا قد أدخلتنا مثل هذه المناخات والعوالم من خلال بنية للعلاقات تنتمي إلى شبكيّة انفعالهم الذي يعدّ نتاجاً لثقافتهم ووجدانهم، حيال الأزمة الممسكة بأعناقنا إلى حد الإختناق.

وممّا يجدر ذكره، أنّ هذه الرموز، قد تراءت وكأنها قد حمّلت أبعاداً لا تحتملها. والسبب في ذلك أنها، وكما أسلفنا، لم تُسْتحضر للتعبير عن انفعال حادّ جاء من خارجه، ولكنها كانت قابعة في داخله. كان الكسر الذي عراها جزءاً من الكسر العام الذي عرى وجدان الأمة، فبدا الحاضر وكأنه ليس امتداداً للماضي الذي نشأت فيه تلك الرموز، أو كأن التواء قد أصاب طبيعة تلك الأمة فحرّفها عن مسارها السليم.

ولقد تبدت شفافية الشاعر في الكشف عن هذه الحقيقة، وكأنها شفافية عازفة على نغم مرضي حزين. والحقيقة أنّ هذا الاستحضار الاحباطي لتلك الرموز لا يلغي أبعادها الحقيقية التي تحصلت لها عبر التاريخ،لقد استحضِرت في الظل الوجداني العام للأمة على شكل سؤال تفاؤلي كبير: كيف تُعاد الأمور إلى نصابها؟ ويشكل هذا السؤال دعوة لكي نضع الإصبع على الجرح، فنداويه ثقافياً وحضارياً ونفسياً لتأتي السياسة بعد ذلك نتاجاً طبيعياً يصحح ذلك ويصوّب حاضر الأمة حتى يصير امتداداً سليماً لماضيها المشرق المضيء.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى