الشعوبية من منظور الدكتورة زاهية قدورة

من خلال كتابها “الشعوبية وأثرها الاجتماعي والسياسي في الحياة الإسلامية في العصر العباسي الأول”

مقدمة

عملت الدولة الإسلامية على تحرير البلاد العربية من النفوذ البيزنطي والفارسي، فأقبل الناس على اعتناق الدين الجديد أفواجًا من مختلف الأجناس والألوان، منهم من أخذ على عاتقه حمل راية الإسلام والعمل على صيانته فأجادوا وأفادوا، ومنهم من أخفوا دينهم القديم بين ثنايا ضلوعهم يدعون إليه سرًا، ومنهم من انصطدم بتأصل العصبية القوميةما نتج عنهحركات مقاومة عنيفة عرفت بالشعوبية.

تناول الباحثون الحركة الشعوبية من منظارين مختلفين، الأول: باحثون متعصبون لم يلتزموا بالبحث العلمي الموضوعي متجاهلين الظروف التاريخية التي ساهمت في ظهور هذه الحركة، موزعين التّهم وإصدار الأحكام القاسية حول الشعوبية، والثاني: باحثون درسوا الشعوبية من الناحية التاريخية كونها كانت حركة اجتماعية تصحيحية عُرفت بالتسوية ثم تحولت فيما بعد إلى حركة تحريفية سياسية، وبعض هذه الدراسات كانت وصفية تسرد الأحداث مركزة على الدور السياسي لهذه الحركة دون التعليل والتحليل، وبعضها الآخر ركز على دور الشعوبية في حركة الأدب والشعر العربي،  بينما طرحت الدكتورة زاهية قدورة الموضوع من منطلق قضية الصراع القومي بين العرب وغير العرب بطريقة موضوعية بعيدة كل البعد عن التعصب الأعمى، وعملت على استقصاء صحة المعلوماتلتخرج بالبرهان والدليل إلى أهواء تلك الحركة ومراميها وغاياتها.

حاولت الباحثة تحليل الأسباب التي دفعت الشعوبية إلى الوجود علها تجد مبررًا لبعض أعمال الموالي، وأحاطت بالمناخ النفسي والفكري والاقتصادي لهذه الحركة، ووجدت أن الشعور بالقومية لا يبلغ نضجه إلا إذا أحست الشعوب بالاختلاف والفروقات، فالشعوبية لم يكن بإمكانها أن تنشأ وتصبح حركة لها أثرها وتأثيرها في الدولة الإسلامية لولا إدراك الموالي اختلافهم عن سواهم من الشعوب العربية. على ضوء ذلك رأت الباحثة أن الشعبين المتصارعين آنذاك العرب والفرس سجلوا نهضة قومية أصبحت فيما بعد مدرسة سياسية لها أنصارها ونظمها ورجالاتها. 

وفي هذا المقال سأسلط الضوء على الشعوبية من منظور الدكتورة زاهية قدورة من خلال كتابها “الشعوبية وأثرها الاجتماعي والسياسي في الحياة الإسلامية في العصر العباسي الأول”.

تعريف الشعوبية ونشأتها

حاول بعض المؤرخين تحديد البدايات الأولى لنشأة الشعوبية، لكنهم لم يستقروا على تاريخ معين، منهم من  اعتبر أن جذور الشعوبية الحقيقية تعود إلى عصر الخلفاء الراشدين، ومنهم من أعاد ظهورها إلىالعصر الأموي حيث دعت بعض الشعوب الأجنبية إلى مساواة الشعوب الأخرى بالعرب في الإدارة والمجتمع، واشتدت وقويت في العصر العباسيمع استخدام الخلفاء العباسيين الموالي في شؤون الحكموإسناد العديد من المسؤوليات إليهم، ولا سيما الخلفاء الذين كانت أمهاتهم فارسياتكالمأمون والمعتصم وغيرهم،ويختصر كاشف الغطاء كل تلك الآراء قائلًا إن(1): “الشعوبية لم تكن وليدة العصر العباسي، وإنما وليدة الوقت الذي شعرت به العناصر المغلوبة على أمرها بفقدان سلطتها وعزها”.

والشعوبية حركة اجتماعية قومية، ولفظ “شعوبية” مأخوذ من الشعوب(2):”جمع شعب، وهو ما تشعب من قبائل العرب والعجم، وكل جيل شعب، حتى غلبت الشعوب بلفظ الجمع على العجم، حتى قيل لمحتقر العرب شعوبي، أو فرقة لا تفضل العرب على العجم”، أما المفكر الإيراني علي شريعتي فقد اعتبرها(3): حركة تسوية بين الشعوب لكنها تحولت تدريجيًا إلى حركة تفضيل العجم على العرب”. بينما آخرونحددوهابأنّها حركة ثقافية حضارية نشأت بسبب تنوع الأعراق في الدولة الإسلامية، وتمثلت في سعي كل عرق أن يحقق نوعًا من الأفضلية على غيره.

جاء تعريف الدكتورة زاهية قدورة في مقدمة كتابها “الشعوبية وأثرها الاجتماعي والسياسي” مماثلًا للتعريفات السابقة، وذكرت(4): “إنَّ الشعوبية كلمة مشتقة من كلمة شعوب ومفردها شعب، ولهذه الكلمة ثلاثة معانٍ، المعنى الأوليُفيد ما تشعب من قبائل العرب والعجم، المعنى الثاني يُقصد به العرب وحدهم، والثالث وهو الأكثر شيوعًا ويطلق على غير العرب أي العجم”.وتوصلت الباحثة إلى أن الشعوبية حركة تعصب كل شعب لقوميته وحضارته ضد العرب، أي إنها ليست مقتصرة على فئة أو طبقة اجتماعية معينة، بل تُمثل جميع فئات المواليالذين بذلوا الجهد لزعزعة السلطان العربي،وإنها فكرة سياسية أدبية اتخذت الدين ستارًا لها ونشأت عنها حركات بعضها أدبية، وبعضها دينية، وبعضها ثورية، كما أنها لم تتخذ صورة المذهب ولم يكن لها طابع منتظم وإنما كانت آراء وحركات متفرقة متناثرة(1).

قسمت الدكتورة زاهية قدورة الشعوبية إلى قسمين: الأول هاجم العرب دون التعرض للإسلام بأذى، والثاني هاجم العرب ودينهم الجديد.وفي الوقت نفسه، سلطت الباحثة الضوء على عظمة الموالي خاصة الفرس منهم، وأظهرت قيمهم الحضارية والثقافية والعلمية، وحاولت تحليل أسباب قيام الحركة الشعوبية علها تجد مبررًا لبعض أعمالهم، ووصلت إلى نتيجة مفادها أن هذه الحركةهُيّئت لها أرض خصبة لتفاعلها وانتشارها، وأنها وليدة أسباب متعددة تفاعلت مع بعضها إثر قيام الدولة الإسلامية وازدهارهاأدى إلى تضخم النزعات القومية الاستقلالية وتأصلها في نفوس العرب والبلاد المفتوحة، بالإضافة إلى العوامل الاقتصادية والدور السياسي الذي قام به بعض الخلفاء خاصة الأمويين إبان حكمهم.


(1) صباح الموسوي: الشعوبية في أدبيات الحوزة الدينية وأدبيات القيادة الإيرانية، د.ن، القاهرة، 2013م، ص 16، نقلًا عن كاشف الغطاء: الشعوبية في التاريخ.

(2)ابن منظور: لسان العرب، دار المعارف، مصر، ج4، د.ت، صفحة 2270. انظر أيضًا: علي بو ملحم: المناحي الفلسفية عند الجاحظ، دار لطليعة للطباعة والنشر، بيروت، ط2، 1988م، ص 41.

(3)د. علي شريعتي: التشيع العلوي والتشيع الصفوي، ترجمة حيدر مجيد، تقديم د. إبراهيم دسوقي شتا، دار الأمير للثقافة والعلوم، بيروت، ط1، 2002م. ص 121.

(4)د. زاهية قدورة: الشعوبية وأثرها الاجتماعي والسياسي في الحياة الإسلامية في العصر العباسي الأول، المكتب الإسلامي، بيروت، ط1، 1988م، ص 9.

(1)د. زاهية قدورة: الشعوبية، ص 9 و 37.