قضية العدد

إِحياء وعصرنة الفكر القومي العربي

أ.د. حسان حلاق

أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر

جامعة بيروت العربية

hassanhallak06@hotmail.com

مرّ الفكر القومي العربي بأزمات حادة لا سيما بعد وفاة الزعيم الراحل جمال عبد الناصر الذي استطاع أن يوحد الأمة العربية فكراً وعملاً ومشاعر سواء بالنسبة للقضية الفلسطينية، أو بالنسبة للموقف المعادي من جميع دول الاستعمار الغربي والكيان الصهيوني، بالإضافة إلى توحيد الفكر القومي العربي من الثروات العربية وفي مقدمتها النفط والمياه كثروات استراتيجية، فضلاً عن باقي الثروات الاقتصادية المهمة في العالم العربي. ولابد من التأكيد بأن الفكر القومي العربي الناصري استطاع أن يوحد النواحي الاجتماعية والتربوية والسياسية والثقافية، مع الاعتراف أن بعض المعارضين للفكر القومي العربي أنظمة وحكومات قد حاربوا هذا الفكر القومي العربي بسبب إرتباطاتهم مع الولايات المتحدة الأميركية والدول الغربية الأوروبية، ومع المعادين للنهضة العربية الشاملة.

ومن الأهمية بمكان القول، بأن دول الاستعمار متعاونة مع بعض الأنظمة العربية حاربت فكرة الوحدة العربية سواء الوحدة السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية أو الثقافية، لأن أية وحدة لدى الشعوب العربية ستشكل خطراً على الكيان الصهيوني وعلى دول الاستعمار، لهذا شهد العالم العربي – وما يزال – جملة من المؤامرات في السنوات الممتدة بين أعوام (1952-1970) وفي السنوات (1970-1990) وفي السنوات (2003-2018) بهدف تمزيق وتقسيم وتفتيت وتجزئة الأمة العربية انطلاقاً من تفتيت الفكر القومي العربي الذي كان يشكل الضمانة الرئيسية لوحدة وتماسك الشعوب العربية.

لقد كان ما اتفق على تسميته باسم الربيع العربي، والفوضى الخلاّقة عاملاً أساسياً لتجزئة الأمة العربية وتفتيتها والقضاء على مقوماتها السياسية والعسكرية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وكان ذلك الربيع العربي!!! تحت حجج واهية في مقدمتها الإصلاح والتحديث، فإذا بالأمة العربية تتراجع في مختلف الميادين والمجالات، وقد تم التمهيد لذلك بالغزو الأميركي للعراق عام 2003، ومن ثم إِعدام الرئيس صدام حسين، وإِغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، الأمر الذي أدى إلى تحويل الفكر القومي العربي إلى فكر طائفي ومذهبي ومناطقي، وهذا الفكر هو المسؤول مباشرة عن عمليات التجزئة والتقسيم والانحطاط في الدول العربية التي تعاني من هذه الأمراض الطائفية والمذهبية، ومن التطرف والإرهاب، ومن بين هذه الدول على سبيل المثال لا الحصر: لبنان، سوريا، العراق، اليمن، البحرين، مصر، وسواها من دول عربية وإسلامية.

واللافت للنظر، فكما أن الطائفية والمذهبية أمراض خبيثة أثرت سلباً في النهضة العربية وفي الفكر القومي العربي، كذلك، فإن الإرهاب والتطرف الديني والمذهبي والسياسي، يعتبر بدوره آفة من آفات العالم العربي، وتلك الأمراض والآفات قامت بدور بارز في تراجع الفكر القومي العربي، وفي إِنهيار مقومات الأمة العربية السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ولم يعد اليوم – للأسف – من عامل مهم يوحد الأمة العربية سوى اللغة العربية الفصحى، التي بدورها تتعرض لأخطار اللهجات المحكية والعامية المدونة على مواقع التواصل الاجتماعي، واستخدام الحروف اللاتينية عوضاً عن الحروف العربية.

إِزاء هذه المخاطر وسواها التي تعصف بالأمة العربية، وبالفكر القومي العربي، كيف يمكن أن نقوم بعملية عصرنة الفكر القومي العربي بل إِحياء الفكر القومي العربي، وكيف يمكن أن يكون تلبية لمتطلبات المرحلة الراهنة والمستقبلية في العالم العربي؟

أرى أنه لابد من اعتماد آليات لإنقاذ الفكر القومي العربي، وعصرنته ضمن الضوابط الثقافية والاستراتيجية العربية والقومية، منها على سبيل المثال:

ضرورة تأسيس منتدى للمفكرين العرب غير المرتبطين بأنظمة سياسية عربية أو أجنبية عبر مواقع التواصل الاجتماعي بأنواعها كافة، كي تصل أفكار المفكرين القوميين العرب بسرعة مذهلة، وتنتشر انتشاراً سريعاً وواسعاً لدى جميع الشعوب العربية، بهدف وضع ميثاق عربي يتضمن الأطر والآراء والأفكار التي تعيد إلى العالم العربي وجهه المضيء والمشرق من خلال فكر قومي عربي يأخذ بعين الاعتبار وجهات نظر الشعوب العربية وليس الأنظمة العربية، ويكون هذا الميثاق العربي انعكاس لآلام وآمال الشعوب العربية في الحرية والعدالة والمساواة، وفي رغبتها بالحصول على التعليم والصحة والاستشفاء والغذاء، وفي رغبة هذه الشعوب بالقضاء على التخلف والفساد والتطرف والغلو المستشري في الأنظمة العربية، وبين رجال الحكم والسلطة والمال.

ولابد للثقافة والتنشئة الوطنية في كل دولة عربية، وفي كل مدرسة وجامعة عربية من أن تأخذ دورها الريادي من أجل فكر قومي عربي معاصر يلبي احتياجات الأمة العربية في الوحدة والحرية والعدالة، وفي حق استعادة فلسطين العروبة إلى الشعب العربي الفلسطيني.

ولابد من القضاء على الثقافة الصهيونية والمتصهينة، والقضاء على الثقافة المتأمركة والمتأوربة، ولابد من القضاء على الفكر المستغرب المرتهن للقوى الإقليمية والدولية بعيداً عن مصلحة ونهوض الأمة العربية.

إِن عقد مؤتمر قمة عربي للمفكرين العرب بعيداً عن أنظمة الحكم العربية، من أجل عصرنة الفكر القومي العربي مسألة جديرة بالدرس والتفعيل والتنفيذ. والحقيقة، فإن إِحياء الفكر القومي العربي وعصرنته هو الضمانة الأكيدة في محاربة الطائفية والمذهبية والمناطقية، وفي محاربة الإرهاب والتطرف، وإِرساء ثقافة الاعتدال والوسطية العربية، بالإضافة إلى إِعادة التمسك بالهوية العربية، وبالثقافة العربية التي توحد شعوب الأمة العربية من جديد.