شخصية العدد الرابع
شخصية العدد:
سماحة العلامة الدكتور صبحي الصالح رحمه الله.
- من هو سماحة العلامة المبرور الشهيد الدكتور صبحي الصالح.
بقلم : الشيخ الأستاذ الدكتور احمد محمد فارس، استاذ اللغة والادب في الجامعتين اللبنانية والعربية.
سماحة العلاّمة المبرور المغدور الشهيد الشيخ الدكتور صبحي ابراهيم الصالح رحمه الله مفكراً في جوانبه الإسلامية واللغوية والأدبية والاجتماعية والحضارية.
توطئة ووقائع:
ان النهج الذي كان معتمداً من قبل النظام الامني السابق، وسلطة الوصاية بالقمع، وبتطبيع زعماء المسلمين السنة خاصة وغيرهم في لبنان عامة ليكونوا أدوات طيعة، تنفذ الأوامر والتعليمات، وتذعن للإملاءات من دون اي اعتراض، وإلا فالتغييب او التهجير والنفي او التصفية الجسدية بعد حمله اعلانيه مركّزه تبرر الاعمال الإجرامية.
وقد تمت تصفية الشهيد المعلم كمال جنبلاط، وجرى تغييب سماحة الامام موسى الصدر، وتم تهجير الراحل العميد ريمون إدة، والرئيس أمين الجميل، والجنرال ميشال عون (فخامة الرئيس)، والسيد إبراهيم قليلات، والاستاذ كمال شاتيلا، وملاحقه أنصار هذين الأخيرين، كما اختُطف عدد من اللبنانيين، ووُضعوا في غيابة السجون، وأُذيقوا صنوفاً من العذاب والاذلال، من هؤلاء من أطلق سراحهم بعد انكار وجودهم، وبعضهم قضى نحبه، ومنهم من لا يزال مصيرهم مجهولاً.
وقد ذهب ضحية هذا النهج القمة السياسية المغفور له دولة الرئيس الشهيد رشيد كرامي، والقمه الدينية المغفور له المفتي الشهيد الشيخ حسن خالد، والقمه الفكرية المغفور له الشيخ الدكتور صبحي الصالح، والقمه الحقوقية المغفور له الاستاذ ناظم القادري، وغيرهم من الطائفة كالمغفور له الشيخ احمد عساف، والدكتور محمد شقير، والمرحوم محمد شطح، ومن الطوائف الاخرى الذين اعترضوا على هذا النهج وسعوا الى الإصلاح، لإنقاذ الوطن من الفساد والمفسدين كالنقيب رياض طه، والصحفي سليم اللوزي، والرئيس الشهيد رينيه معوض والنائب بيار الجميل وجبران تويني…
أما الشهيد الرئيس رشيد كرامي، فإنه إزاء ما كان يجري في لبنان من اثارة للفتنه والاحقاد، ومنع التواصل بين اللبنانيين، والوقوف في وجه كل دعوه للمصالحة، ووقف النزف، كان ينوي السفر خارج لبنان لمعالجه المرحومة والدته، لكنه عقد اتفاقاً مع الرئيس الراحل كميل شمعون فعزف عن السفر، ظناً منه أن باستطاعته مع الرئيس شمعون تطبيق الاتفاق المعقود بينهما، فكان مصيره الاغتيال!!
وأما المفتي الشهيد سماحة المفتي الشيخ حسن خالد فإنه تألم كثيراً عندما تعرضت بيروت للاجتياح من قبل المليشيات المسلحة، واستبيحت الكرامات، وكثرت التعديات على الاشخاص والممتلكات، فذهب الى سيادة الرئيس الراحل حافظ الأسد، وبحضور الشهيد ناظم القادري، والمرحوم جميل كبي، ونائب الرئيس السوري عبد الرحيم خدام، وشخص آخر ونتيجة شكواه واعتراضه وامتعاضه لما يجرى في بيروت فقد حياته، وكانت طريقه اغتياله فظيعة، وقد سبق اغتياله تهديدات بوقف اللقاء الاسلامي في عرمون وإلا فبرصاصتين يكون جثة في رُجم عرمون.
وأما الشهيد ناظم القادري، فإنه كان يرافق المفتي الشهيد حسن خالد، وكان يجري اتصالات حثيثة بالقيادات اللبنانية املاً في انقاذ لبنان، وكان مهيأً ليكون رئيساً لمجلس الوزراء، فامتدت اليه يد الغدر والإجرام اثناء خروجه من صالون خليل للتزيين (الحلاقة) قرب منزله في شارع فردان من دون مراعاة لكبر سنّه.
وأما الشهيد سماحه العلامة الشيخ الدكتور صبحي ابراهيم الصالح، فقد اشار في خطبة جمعة القاها في مسجد راشد الحوري -جامعة بيروت العربية الى ما يتعرض له الشعب اللبناني عامة، والمنطقة الغربية بالذات من المظالم والمآسي، والتعديات من قبل او الفوضويات المسلحة التي تعيث في الارض فساداً، وترتكب جميع أنواع الموبقات من تعديات وسرقات واحتلالات، واغتصاب، واحتجاز واذلال، وانتهاك الحرمات، وحّمل المسؤولية لنظام الوصاية والقيادات التي تحمي العناصر غير المنضبطة، وهل كان هناك عناصر منضبطة؟؟!
بالإضافة الى مواقف سماحته الوطنية اللبنانية والعربية المعلنة، والتي لا ترضى النظام السابق، فكان مصيره الاغتيال برصاصات صُوّبت الى رأسه عندما همّ بالخروج من سيارة أجرة لتفقد طلاب مدرسه تابعه لجمعية برياسته.
وقد منع اجراء التحقيق في هذه الجرائم كلها، ثم كانت الجريمة الكبرى باغتيال شهيد لبنان والعرب والعالم المغفور له الرئيس الشيخ رفيق الحريري، الذي تجاوزت شهرته حدود لبنان، وذاع صيته في العالم، وكان الزعماء يفتخرون بمعرفته، ويتباهون باستقباله، كونه رجل العلم والبناء والاعمال، والتطلعات المستقبلية، وتمكنه في فترة زمنية محدودة من إعادة إعمار لبنان، والتقدم به الى الامام ليأخذ دوره الرائد في العالم العربي والعالم، وكان فقده خسارة كبيرة.
إن مسيرة السيادة والاستقلال ستستمر مهما كانت التضحيات بالرغم مما تواجهه من أزلام وأنصاب وشياطين ﴿إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا﴾ النساء 76
وهذا كله يذكر بالبيان الذي اصدره رئيس وزراء العدو الصهيوني الأسبق مناحيم بيغن والذي جاء فيه: “إن اعداء اسرائيل في العالم العربي هم اهل السنة والجماعة، وعلى اسرائيل ان تساعد الاقليات في العالم العربي، وتمكنها من تسلم السلطة لتكون ضمانة لأمن إسرائيل”.
وقد نشرت الصحف اللبنانية هذا البيان عام 1982، وليس من شك في أن اسرائيل وعملاءها في لبنان وغيره كانوا وراء بعض الحوادث الإجرامية التي وقعت في لبنان.
كما أن المؤامرة الدنيئة التي تنفذ فصولها منذ سنوات، وتوسم المسلمين بالإرهابيين، وتقاتل المسلمين باسم الاسلام، تمكنت الدول التي وراءها، والتي تستفيد مادياً ومعنوياً، وتوفر على العدو الاسرائيلي السلاح والمال والرجال، وهي: اسرائيل في الدرجة الأولى، ثم الإدارة الأمريكية، وروسيا، حيث تستنزف ثروات الدول العربية والإسلامية المادية والبشرية والمعنوية، وتقهر الطائفة السنية، بحيث لا تقوى على مواجهه المؤامرة، كما تستنزف الطوائف الأخرى، وتكون امام أمرين: إما الخضوع لما يخطط والإذعان للأوامر، وإما التصفية والقهر. ونطرح السؤال الاتي: على القادة العرب والمسلمين لماذا يشترط في صفقات السلاح المشتراة من امريكا وروسيا والغرب عدم استعمال السلاح ضد الدولة المصدرة، وضد إسرائيل، إذن السلاح لقهر الشعوب العربية والقتال فيما بينهم:
إن كنت لا تدري فتلك مصيبة أو كنت تدري فالمصيبة أعظم
ونتساءل ايضاً عن اسباب احتلال العراق للكويت ثم انسحابه منها، ومن الذي شجع على ذلك، وعن الحرب العبثية بين إيران والعراق مدة ثماني سنوات، والغرض منها، ثم التخلي عن حاكم العراق ثم ضرب العراق بحجة امتلاكه اسلحة الدمار الشامل، ثم الحرب المدمرة في سوريا، وتقسيمها بين الدول والميليشيات المشتركة في القتال، وأين الاف الداعشيين الذين احتلوا مساحات شاسعة من العراق وسوريا، ومدناً عدة؟ هل تبخروا أو أنهم سُحبوا من مواقع القتال بعد أن أدّوا دورهم المرسوم لهم في المؤامرة، ولماذا إطالة الحرب في اليمن، وعدم التمكن من احتلال ميناء الحديدة بالرغم من الحرب الضروس؟!! بينما جرى احتلال العراق في أيام عدة، ايها القادة في العالم العربي والاسلامي عودوا الى رشدكم، وراجعوا اوضاعكم، واعتبروا من ما جرى واتقوا ربكم في بلادكم وشعوبكم وامتثلوا لأوامر الله ورسوله، وغلّبوا المنطق والعقل، وأوقفوا الحرب المدمرة، وحرب الإعلام الضروس، وارفضوا الاستمرار في الاذعان الي مخططات أعدائكم، فالعاقل من يعتبر،﴿فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ ﴾ الحشر2﴿ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَعِبْرَةً لِّأُولِي الْأَبْصَارِ ﴾آل عمران 13.
حيرة الكاتب:
إن في الناس رجلين يربكان الكاتب إذا حاول أن يكتب عنهما، ويحار في أمرهما، رجلاً لا يستطيع أن يجد ما يقوله عنه، ورجلاً لا يستطيع أن يختصر ما يعرفه عنه، ومن هذا النوع سماحة العلامة الشهيد الشيخ الدكتور صبحي إبراهيم الصالح، فقد كان المغفور له بإذن الله رجلاً عالماً عاملاً، تجلت في خلائقه مزايا الإنسان الرفيع، وجعل عمره كله لله والعلم، واثبت في عمله روح الداعية الصالح، وانطبع في فكره أثر الحكيم المصلح، كان في الحق عاصفة لا تهدأ إلا إذا انتصر العدل، وفي الخير نفحة لا تسكن إلا إذا انتعش الاحسان.
بهذا الخلق الذي استقام له من الغضب للحق، والرضا عن الخير، جرى في الاعتقاد على الإخلاص، وفي القول على الصراحة، وفي العمل على الجرأة، وفي الرأي على الاستقلالية، وهذه الخلال من سمات العلماء، لأن فيهم صفاء النفس، ولطف الحس، ودقة الفطنة، وهم وحدهم يدركون النقص فيرومون الكمال، ويلاحظون الخطأ فيطلبون الصواب،
كانت عدة الاجتهاد لديه، فاكتنه سر العقيدة، واقتبس نور الشريعة، وكان متدبراً كتاب الله، فجاءت براهين قضاياه من قواعده، وبينات دعاواه من شواهده، ومضامين مؤلفاته من هديه، وعناوين خطبه وكتاباته من آيه، وكان من أخلص الدعاة الى سبيل الله، بما القى من دروس، ومن خطب، وألف من كتب، ونشر من مقالات، واذاع من أحاديث، وتعمق جذور الاصول في الفقه، وتقصى أطراف الفروع في التشريع، فوجد في اقوال الفقهاء جواباً شافياً عن كل سؤال يخطر على الذهن، وحلاً حاسماً لكل إشكال يعرض على المجتمع، وعلى الشباب خاصة ساعده على ذلك ملكه فقهيه، تنفذ الى الحكمة المستورة، فاجتهد في اختيار الرأي المناسب من خلال شريعة الله الخالدة.
سيرته:
أبصر النور في الميناء -طرابلس عام 1926م درس في دار التربية والتعليم -القسم الشرعي في طرابلس، ورغب في ارتداء الزي العلمي الديني في سنته الأولى من دراسته الشرعية عام 1938م، وبدأ بإلقاء خطبه الجمعة في المساجد، ولم يبلغ الثانية عشرة من عمره.
تابع دراسته الجامعية في كليه اصول الدين -جامعة الازهر الشريف عام 1943م، وحصل على الإجازة العالية عام 1947م، والعالمية عام 1949م، وكان قد انتسب الى كليه الآداب -جامعة القاهرة عام 1947م، ونال منها الليسانس في الادب العربي عام 1950م.
سافر بعدها الى باريس وحصل على شهادة دكتوراه الدولة في الادب عام 1954م، وخلال اقامته في باريس أنشأ مع صديقه الباحث الاسلامي د. محمد حميد الله الحيدرأبادي اول مركز ثقافي اسلامي في العالم.
كان – رحمه الله – يمارس الواناً شتى من النشاط الى جانب العمل العلمي، فيحضر اجتماعات الطلبة العرب، ويخطب في مسجد باريس، ويعقد الندوات الدينية، وفي باريس تعرف على الدكتورة عفّت عكاري، وقرّرا أن يقضيا حياتهما في كنف الزوجية، وحين عادا الى لبنان بدآ معاً التدريس: هو في الشريعة وفقه اللغة والادب، وهي في تدريس اللغة الفرنسية وآدابها.
اشتغل بالتدريس الجامعي أثنين وثلاثين عاماً، في بغداد اولاً (1954-1956م)، وفي دمشق ثانياً (1956-1963م)، ثم في الجامعة الأردنية (1971-1973م)، وكان فيها رئيساً لقسم أصول الدين، وعيّن استاذاً في ملاك التعليم العالي في بيروت، (كليه الآداب والعلوم الإنسانية، وانتخب رئيساً لقسم اللغة العربية منذ عام 1975م، ثم عين مديراً لكليه الآداب 1977م، ودرّس في جامعة بيروت العربية منذ تأسيسها.
حاضر بصفته استاذاً زائراً في عدد من الجامعات العربية، منها جامعة الامام بن سعود الإسلامية في الرياض، والكلية الزيتونية للشريعة واصول الدين في الجامعة التونسية، وسمّي مشرفاً على اطروحات الدكتوراه في الدراسات الحضارية واللغوية الإسلامية في جامعه ليون الثالثة بفرنسا، وفي جامعة باريس الثانية (جامعة الحقوق والعلوم الاقتصادية والاجتماعية) في اطروحات تتعلق بالشريعة الإسلامية، وشارك في مناقشة كل هذه الاطروحات حتى وفاته.
انتسب الى العديد من المجامع والاكاديميات: فهو عضو مجمع اللغة العربية في القاهرة، وعضو أكاديمية المملكة المغربية، وعضو المجمع العلمي العراقي في بغداد، وعضو لجنه الاشراف العليا على الموسوعة العربية الكبرى، وتولى في حياته العديد من المناصب:
نائب رئيس المجلس الشرعي الاسلامي الأعلى، ورئيس لجنة الطعون والتأديب فيه. وهذا المجلس كان يرأسه سماحه المفتي الشهيد حسن خالد – رحمه الله – ورئيس اللجنة العليا للقرن الخامس عشر الهجري في لبنان، الامين العام لرابطه علماء لبنان، نال جائزة التفكير الاجتهادي في الإسلام، الذي كرمته بها المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم في 23/6/1986م في نطاق الاحتفال باستقبال القرن الخامس عشر الهجري.
وكان يشارك في الاجتماعات الليلية مع زملائه واصحابه من ارباب العلم والفكر، وتتميز هذه الاجتماعات بطرح مشكلات علميه واجتماعيه وفكرية، وكان الصالح يتميز فيها بسعة علمه الديني، وتعمقه في قضايا الشرع، وروحه المتحررة التي تهدف دائماً الى التجديد في الدين والاجتماع، وكان بفضل فصاحته محط انظار الجميع، وكلهم يفضل الاستماع اليه.
مؤلفاته:
إن المغفور له بإذن الله أحد أئمة اللغة والفقه، وأعلام البيان والحضارة فكل مؤلفاته أنيق، ورفيع عميق، وتتسم مع كثرة عددها وتنوعها بالاستيعاب والمتانة، وهي:
- الإسلام والمجتمع العصري.
- الإسلام ومستقبل الحضارة.
- الأمة ثم الدولة.
- المؤسّسات الإسلاميّة تكوّنها وتطوّرها.
- المرأة في الإسلام.
- النظم الإسلامية، نشأتها وتطورها.
- دراسات في فقه اللغة.
- ردّ الإسلام على تحدّيات عصرنا (بالفرنسيّة).
- شرح الشروط العمرية (مجرداً من أحكام أهل الذمة).
- فلسفة الفكر الديني بين الإسلام والمسيحية.
- مباحث في علوم القرآن.
- مباحث في علوم الحديث.
- معالم الشريعة الإسلامية.
- منهل الواردين شرح رياض الصالحين.
- نهج البلاغة لأمير المؤمنين علي بن ابي طالب – كرم الله وجهه -. (ضبط نصوصه، ورتب فهارسه العلمية).
- حقّق “أحكام أهل الذمة/لابن قيم الجوزية”.
- أخرج (المعجم العربي) و(المعجم الفرنسي) مع الدكتور سهيل إدريس.
(اهتمت دار العلم للملايين في بيروت بإصدار معظم هذه المؤلفات).
معرفتي بالشهيد الراحل:
بعد تخرجي في كليه اللغة العربية جامعه الازهر بالقاهرة عدت الى بيروت عام 1967م، وعملت بالتدريس في مدرسه الفاروق المقاصد، وانتسبت الى كليه الآداب والعلوم الإنسانية الجامعة اللبنانية، الدراسات العليا، وكان من حسن حظي أن المرحوم الشهيد العلامة الصالح اشرف على رسالتي، وكان نعم الاستاذ والموجه والحريص على طلبته، ويحثهم على طلب العلم، ويعطيهم التوجيهات التي تمكنهم من إنجاز مهماتهم، ثم توطدت العلاقة معه حيث عينت في الأمانة العامة للمجلس الشرعي الاسلامي الاعلى عام 1968م، دار الفتوى وكان نائباً لرئيس المجلس، وعضواً في لجنة الطعون والتأديب، واشتركت معه ومع معالي الاستاذ عمر مسقاوي في اجراء التحقيقات مع موظفي الاوقاف المحالين الى التحقيق بسبب مخالفات ارتكبوها ويعاقب عليها النظام الإداري للأوقاف الإسلامية، وكان حازماً في تطبيق أحكام الأنظمة مرعية الإجراء بحق مرتكبي المخالفات من دون تعسف في استعمال الحق.
وعندما أُسندت اليّ مهمة التدريس في كلية الآداب والعلوم الإنسانية عام 1976م، يوم كانت الراحلة الدكتورة زاهية قدورة عميدة كلية وكان الراحل الشهيد رئيساً لقسم اللغة العربية وآدابها أصر من جانبه أن أدرس شعبة من المواد التي يدرسها، وهي: فقه اللغة، والنظم الإسلامية، والحضارة الإسلامية، الى جانب تدريس النحو العربي، والأدب والبلاغة وصناعة الكتابة، كوني متخرجاً في الأزهر الشريف.
وكنت وعدد من تلامذته في الدراسات العليا نقوم بزيارته في منزله، ويعطينا التوجيهات اللازمة، ويرشدنا الى ما ينفعنا، وينفع مجتمعنا، ويحفظ الوحدة الوطنية، وقد سعى جاهداً في تعيين عدد من متخرجي الكلية معيدين وأساتذة.
آخر لقاء صحفي مع المرحوم الصالح:
في آخر لقاء صحفي جرى مع المرحوم الدكتور الصالح نشر في مجلة الفكر الاسلامي – دار الفتوى، العدد الحادي عشر – السنة الخامسة عشرة – ربيع الأول 1407ه/ تشرين الثاني 1986م – الصفحة 104، قال:
“لقد رضينا ما قسم الله لنا غير مستعجلين في غنائم صغيرة نغتنمها، مستعدين لمغارم وتضحيات جديدة نقدمها، إذ لا غرض لنا الا وحدة المسلمين وعزتهم أولاً في لبنان الذي يكثر فيه المسلمون المثقفون، وبعد ذلك في كل بلد يهتف بالإسلام، ويعزز شعاراته وتعاليمه.
وأكد ان المسلمين لن يتساهلوا في خلط المصالح العليا ببعض المصالح الوقتية العابرة إيماناً منهم بأنها ستضمحلّ وتنقشع وتزول “ولن يبقى شامخ الرأس إلا من استلهم مثله من روح الشريعة الإسلامية، واستمد قوته من الله سبحانه وتعالى، ولم يستزلم لجهة أو هيئة أو دولة في الداخل أو في الخارج، وانما يقود الوطن والمواطنين قيادة حضارية، ويقود المسلمين والمؤمنين بدينهم قيادة دينية طاهرة.
وأبرز ما أشار إليه الدكتور الصالح أن الاتجاه المعتدل الرصين الذي ينتهجه المجلس الشرعي الإسلامي الأعلى إذا لم يعجب بعض الناس مسلمين أو غير مسلمين، فإن انتقاد هؤلاء للمجلس لا يغير من الحقيقة شيئاً، لان المنتقدين يعرفون في قرارة أنفسهم أن مسيرة المجلس هي المسيرة الصالحة، وأن الغير يتخذ الدين مطية لمآرب وغايات لم تعد تخفى على أحد.
استشهاده:
كان حريصاً على وحدة المسلمين، ووحدة اللبنانيين، وتمتين أواصر الوحدة الوطنية ما بين مكونات الشعب اللبناني، ورافضاً وجود المليشيات المسلحة التي تنتهك حرمة لبنان، وتنتقص من سيادته، وداعياً الى أن يأخذ الجيش اللبناني، والقوى المسلحة الرسمية الأخرى دورها في حماية السلم الأهلي، والدفاع عن لبنان، إذ هي الدرع الواقية لأمن لبنان وسلامته والسياج المنيع الذي يحفظ وحدته، ويدرأ عنه الفتن، وبسبب مواقفه الوطنية هذه وصلته تهديدات عديدة، وفي صباح 7 تشرين الأول 1986م، قام مسلحان ملثمان على دراجة نارية باغتياله بثلاث طلقات في الرأس عندما هم بالنزول من سيارة أجرة، التي أوصلته الى جمعية رعاية أيتام كان يشرف عليها في منطقة ساقية الجنزير، وتوفي لدى وصوله الى المستشفى متأثراً بإصابته.
من آرائه:
قال: لا بدّ من الاعتراف بأن المجتمع الإسلامي الذي رسُمت خطوطه الأولى في عهد النبي صلى الله عليه وسلم لم يجد تحقيقه الملموس في الفترة المعاصرة، لنميّز سلفاً تمييزاً واضحاً بين العقيدة الإسلاميّة وتطبيقها في بعض البلدان الإسلاميّة
“إن حاجة الأمة إلى الاجتهاد بديهية، لم تكن في نظر القدامى تقبل الجدل، حتى تحتمل التأجيل عند المعاصرين، وأن المحققين من علمائنا شاركوا في مقاومة التقليد، وفي دعوة الناس إلى الاجتهاد، وإن كانوا لم يفتحوا بابه على مصراعيه، إلا للقادرين عليه.
هذه شريعة عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها، وإننا لن نكون بحاجة إلى أشخاص المجتهدين وألقابهم ومراتبهم، بقدر حاجتنا إلى نوعية تفكيرهم، واجتهادهم، واختصاصهم، وإننا لن نقيم وزناً لما فرضوه من الشروط التعجيزية على المجتهد المستقل الذي اختار أن ينفرد بقواعد ومناهج لنفسه، من جميع وجوه التشريع.
كان داعية وحدة بين المسلمين، ففي مقدّمة تحقيق “نهج البلاغة” ناشد المسلمين جميعاً إلى الانضواء تحت راية التوحيد ويدعو المؤرخين إلى كشف الحقائق لا انتصاراً لفريق على فريق بل دعوة خيّرة إلى تناسي المآسي الداميات.
وطالب باحترام حق الحياة، ورفع العدوان والظلم عن الإنسان، وضرورة كفّ الجاني بالقصاص قائلاً: العدوان على حياة فرد واحد في نظر الإسلام عدوان على كل إنسان حيّ، وكف الجاني بالقصاص عن قتل حياة واحدة، هو في الواقع كفه عن إزهاق الحياة كلها في أشمل معاني الحياة، وأوسعها مدلولاً، وأكثرها تفصيلاً، فما القصاص إلا حياة، لأنه الحياة وفي سبيل الحياة.
“إن حاجة الأمة إلى الاجتهاد مُسلمة بديهيّة، لم تكن في نظر القدامى تقبل الجدل حتى تحتمل التأجيل عند المعاصرين،ولا سيما بعد أن قامت في وجوهنا تحديات من كل نوع وضعتنا قسراً أمام الاختيار الصعب بين ثُلّة من إيجابيات الواقع الحضاري المعاصر، وكثيرا من سلبيات واقعنا المريض، (الإسلام ومستقبل الحضارة ص8)، دار الشورى بيروت 1982.
ولقد أتيح لنا في أكثر من ندوة وكتاب أن نقيم الدليل على أن إغلاق باب الاجتهاد في أواخر القرن الهجري الثالث وَهم علق بالأذهان (معالم الشريعة الإسلامية) ص32 (دار العلم للملايين)، ط4/1964، مؤكدين بوجه خاص أن محاولات الاجتهاد لم تنقطع حتى خلال تلك القرون العشرة الممتدة من القرن الرابع الهجري الى اليوم (محاولات الاجتهاد في القرن الرابع الى القرن الثالث عشر الهجري محاضرة 1983).
وما لاحظوه بالأمس في جميع تعريف الاجتهاد وضوابته من وجوب استفراغ الجهد لاستنباط الاحكام الشرعية من ادلتها التفصيلية، يزيدنا اليوم اقتناعاً باستمرار معنى المحاولة، وبذل الطاقة في كل عمليات الاجتهاد، ويزيدنا اقتناعاً ايضاً كما قال الشوكاني بأن “من حصر فضل الله على بعض خلقه، وقصر فهم هذه الشريعة على ما تقدم عصره، فقد تجرأ على الله عز وجل، وعلى شريعته الموضوعة لكل عباده” (ارشاد الفحول الى تحقيق الحق من علم الأصول، للشوكاني ط، القاهرة 1345هـ).
واول ما يجب علينا في مجال السياسة ونظام الحكم، مهما يكن ارتباطنا الديني العاطفي عميقاً بفكرة الخلافة، أن نكفّ عن الاعتقاد بأن هذا النظام التاريخي الذي لم يقم إلا على مبدأ الاجماع (الاسلام ومستقبل الحضارة 293) هو شكل الحكم الوحيد في ظل الإسلام. فما كانت الخلافة في جوهرها الحقيقي إلا تأكيداً عملياً لمدينة السلطة (الاعمال الكاملة للإمام محمد عبده ص3) المتمثلة في سيادة الامة، والمتشخصة في الدولة القانونية الاولى التي ظهرت منذ أربعة عشر قرناً في صدر الاسلام، وكانت حقاً اول دولة تخضع للقانون بجميع سلطاتها: التشريعية والتنفيذية، المستقل بعضها عن بعض، وكانت ايضاً اول دولة تستمد مفهوم السيادة من سيادة القانون بجوهره الأصلي، وروحه المتجدد، لا بحرفيته الشكلية، ولا بقوالبه الجامدة”.
قال: “علينا ألا نعبأ بعد اليوم بهذا النّفر القليل الذي ما يزال في مجتمعنا العصري يعارض الاجتهاد جهلاً او تجاهلاً او مكابرة أو عناداً، حاصراً فضل الله في المتقدمين، جاحداً كل مزيَّة للمتأخرين، بل نرى لزاماً علينا ان ننتقل من التغني بالماضي والبكاء عليه الى التخطيط للمستقبل والتطلع إليه، متمسكين بروح شريعتنا، مبرزين لملامح حضارتنا، عاملين على تنمية حياتنا، مؤكدين مع العلامة السّنهوري “أن لنا من تراثنا العظيم ما ينفخ روح الاستقلال في فقهنا وفي قضائنا، وفي شريعتنا، وما نضيئ به جانباً عظيماً من جوانب الثقافة العالمية في القانون”.
وجّهت لجنة احياء ذكرى الراحل الكبير العلامة الدكتور الشيخ صبحي الصالح دعوه للمشاركة في الاحتفالات التي تقيمها يومي: السبت والاحد 18 و 19/6/1988 في قاعه جمال عبد الناصر جامعه بيروت العربية وقد ألغيت هذه الاحتفالات قبل موعدها المقرر بيومين بأمر من النظام الامني من دون ابداء الأسباب، وهذه صوره عن الدعوة ومنهاجها، وكلمات المؤسسات المشاركة في لجنه التكريم، واسماء اللجنة التنظيمية. وقد منعت إقامتها…!!!
- العلاَّمة الدكتور الشَّيخ صُبحي الصَّالِح ، حياةٌ عامرةٌ بوهج ثقافيٍّ أخَّاذٍ وإشعاعٍ معرفيٍّ ساطع ووضوحِ فهمٍ اجتماعيٍّ بَنَّاء
بقلم : الأستاذ الدكتور وجيهفانوس ، رئيس المركزالثقافي الإسلامي ، wajihfanous@hotmail.com
كان الدكتور الشَّيخ صُبحي الصَّالِح، مثقَّفاً فذَّاً في معارف عصره العامَّة، وعالِماً مُجَلَّاً في ميادين اللُّغة والفقه والحضارة، وناشطاً وطنيَّاً في ساحات الإسلام والعروبة؛ وُلِدَ في لبنان، وانطلق منه إلى أرجاء واسعة من آفاق العالمين العربي والإسلامي. وكان في كلِّ وجوده من أهل التَّجديد الفكريِّ النَّهضوي، وروَّاد الابداع الاجتماعي المغني لناس بيئته والرَّائي إلى تطوير في عيشهم لحياتهم،كما كان ممَّن صانوا العربيَّة واجتهدوا في عصرنتها، ومن أهل الدعوة المثابرة على البحث في جوهر الحقائق المعرفيَّة دينياً وحضارِيَّاً وطنياً، على أسس الحوار المتسلِّح بالمجادلة بالتي هي أحسن وحسن الجوار وجمال العِشرة.
وُلِدَ “صُبحي بن إبراهيم الصَّالِح”، في لبنان، في بلدة “الميناء”، المجاورة لمدينة “طرابلس” (الشَّام الفيحاء)، لعائلة تتحدَّر من أصول تركيَّة، سنة 1926. وكان له أن يتلقَّى، في يناعة طفولته، العلوم المدرسيَّة الابتدائيَّة، في بلدة “الميناء”؛ حيث تسنَّى له، كذلك، حضور جلسات الشَّرح الدِّيني في بعض مساجد البلدة، الأمر الذي كوَّن في وجدانه طموحاً بأن يكون خطيباً في المسجد وعالم دين في أفياء الوجود الإسلامي. وكان لما أمكنه من غرف من فيوضات بعض ما وجده في مكتبات البلدة، العامَّة منها كما الخاصَّة، زاداً معرفيَّاً مميزاً؛ ما شكَّل له دافعاً للبحث عن مزيد من روافد العلم والمعرفة. وكان لـ”الفتى” صُبحي الصَّالِح، في سنة 1938، وقد بلغ الثامنة من سني العمر، أن يلتحق بـ”دار التَّربية” في مدينة طرابلس، لتحصيل دراستة في المرحلة الثانوية؛ وأن يبدأ، على صغر سنه، بعض الخَطابة من على منابر المساجد في المدينة.
سافر “الشَّاب” صُبحي الصَّالِح، وهو في السابعة عشرة من سني العمر، في 1943م، إلى القاهرة لمتابعة دراسته في رحاب “الأزهر الشريف”؛ وحصَّل، وهو في الحادية والعشرين من عمره، سنة 1947م، الشهادة العاليَّة من “كلية أصول الدين” في “الأزهر الشَّريف”. انتسب “الشيخ” صُبحي الصَّالِح، إبَّان دراسته في “الأزهر الشَّريف”، إلى “كلية الآداب” في “جامعة فؤاد الأوَّل” (جامعة القاهرة، لاحقاً)؛ فنال “الشهادة العالمية” من”الأزهر” سنة 1949م، و”الإجازة” في الأدب العربي من “جامعة فؤاد الأوَّل” سنة 1950م. أنتقل، بعد هذا، “الشيخ” صُبحي الصَّالِح سنة 1954م. إلى باريس، في فرنسا، حيث التحق بـ”جامعة السُّوربون”؛ ونال في سنة 1954م. شهادة “دكتوراة دولة” في الآداب من تلك الجامعة، ببحث في موضوع “الدار الآخرة في القرآن الكريم” و”الإسلام وتحديات العصر”.
لم يكن، الدكتور الشيخ الصَّالِح، خلال سنس إقامته في فرنسا، وتحديداً في عاصمتها باريس،بعيداً عن مجالات الوجود الإسلامي في أبعادها الثقافيَّة والمعرفيَّة؛ إذ أسَّس، في باريس، مع الباحث الاسلامي محمد حميد الله الحيدر أبادي، أول مركز ثقافي إسلامي في العاصمة الفرنسيَّة؛ كا أنه طالما كان له أن يؤمُّ “صلاة الجمعة” ويقدم لتلك الصَّلاة، في “جامع باريس”، ويعمل على تعليم اللغة العربية للأفارقة المسلمين، ويحاضر في الأندية الثقافية الباريسية، مقدِّماً في كلِّ هذا نمطاً طيِّباً في التَّعريف بالإسلام، الأمر الذي نال إعجاب الفرنسيين وزاد من ألفة قسم من المجتمع الفرنسي مع الدكتور الشَّيخ الصَّالِح.
تقلَّد “الدكتور الشَّيخ” صُبحي الصَّالِح مناصب أكَّاديميَّة عديدة ذات رفعة ومكانة؛ إذ عمل في التَّدريس الجامعي في “العراق”، في “جامعة بغداد” منذ سنة 1954م. ، ثم في “سوريا”، في “جامعة دمشق” سنة 1956م.؛ وأصبح أستاذًا للإسلاميات وفقه اللغة العربية في “جامعة بيروت العربية” سنة 1963م.، في “لبنان”، وتولَّى، في “الأردن”، رئاسة “قسم أصول الدين” في “الجامعة الأردنية” سنة 1971م.، وعُيِّن رئيسا لقسم اللغة العربية وآدابها في “الجامعة اللبنانية” في “لبنان” سنة 1975م.، ثمَّ مديرا لكلية الآداب والعلوم الإنسانية في الجامعة عينها سنة 1977م..
حاضر، الدكتور الشَّيخ صُبحي الصَّالِح، بصفة “أستاذ زائر”، في عدد من الجامعات العربية منها “جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية”، في الرِّياض، في “السعوديَّة”، وفي “الكلية الزيتونية للشريعة وأصول الدين”، في “الجامعة التونسية”، في “تونس”؛ كما سمي مشرفاً على أطروحات الدكتوراه في الدراسات الحضارية واللغوية والإسلامية في “جامعة ليون الثالثة” وفي “جامعة باريس الثانية” (جامعة الحقوق والعلوم الاقتصادية والاجتماعية)، في “فرنسا”. ولقد انتسب، كذلك، إلى عديد من المجامع العلميَّة والمعاهد والمؤسسات والأكاديميات؛ إذ كان عضواً في “مجمع اللغة العربية في القاهرة”، وعضو “أكاديمية المملكة المغربية”، و”المجمع العلمي العراقي في بغداد”، و”لجنة الاشراف العليا على الموسوعة العربية الكبرى”. وتولى الدكتور الشيخ الصَّالِح، أيضاً، عدداً من المناصب، فكان نائب رئيس “المجلس الإسلامي الأعلى: في دار الفتوى في الجمهورية اللبنانيَّة، و”رئيس اللجنة العليا للقرن الخامس عشر الهجري في لبنان” و”الأمين العام لرابطة علماء لبنان”.
خاض الدكتور الشَّيخ صُبحي الصَّالِح، باحثاً ومدرِّساً ومحاضراً ومناقشاً، في كثير من مجالات العلوم الفقهيَّة واللغوية والحضاريَّة؛ وكانت له مشاركاته الفذَّة في تحقيق كثير من أمَّات الكتب التراثية وشرحها ودراستها: كما كتب باللغة الفرنسية، وترجم منها، وأشرف على تعريب عدد من المؤلفات والبحوث، وظل على امتداد أكثر من نصف قرن يزود كبرى المجلات الاسلامية والفكرية والعلمية بمئات البحوث والدراسات في مجالات معرفيَّة إنسانيَّة عديدة، وكانت له مساهمات طيبة في موسوعات عربية وعالمية طالما استكتبه.
أصدر العلامة الدكتور الشَّيخ صُبحي الصَّالِح أكثر من عشرين مؤلَّفاً في موضوعات شملت مناهج الفكر الإسلامي واللغة العربيَّة وبعض العقائد السياسيَّة السياسية والاجتماعية؛ كما أنه كتب وحاضر وناقش في توجُّهات للفهم الديني الإسلامي ورؤى تنطلق منها لبعض القضايا الحضاريَّة.
عاش العلاَّمة الدكتور الشَّيخ صُبحي الصَّالِح داعية وحدة بين المسلمين، ففي مقدّمة تحقيق “نهج البلاغة” ناشد المسلمين جميعاً إلى الانضواء تحت راية التوحيد، كما حضَّ المؤرّخين على كشف الحقائق، لا انتصاراً لفريق على فريق، بل دعوة خيّرة إلى تناسي المآسي الداميات. وطالب الدكتو ر الشيخ الصَّالِح باحترام حق الحياة، ورفع العدوان والظلم عن الإنسان، وضرورة كفّ الجاني بالقصاص ؛ مسيراً إلى أنَّ العدوان على حياة فرد واحد في نظر الإسلام عدوان على كل إنسان حي، وكف الجاني بالقصاص عن قتل حياة واحدة، هو في الواقع كفه عن إزهاق الحياة كلها في أشمل معاني الحياة، وأوسعها مدلولاً، وأكثرها تفصيلاً، فما القصاص إلا حياة لأنه الحياة، وفي سبيل الحياة.
من الإنصاف، ههنا، الإشارة ولو بإيجاز وإلماح فقط، إلى باقة من آراء للدكتور الشيخ الصَّالِح؛ تشرقُ من تثنايا مؤلفاته ومقالاته وخطبه وأحاديثه؛ ولعلَّ من أبرز هذه الآراء قوله “أن لا شيء يجعل جوهر الإسلام يتعارض مع التطوّر والتقدّم، وأن السياسة بالنسبة إلينا ليست سوى أفضل وسيلة لتنظيم الدولة”؛ وكذلك اعتقاده الراسخ بأنه “لا بدّ من الاعتراف بأن المجتمع الإسلامي، الذي رسمت خطوطه الأولى في عهد النبي (صلى الله عليه وسلم)، لم يجد تحقيقه الملموس في الفترة المعاصرة، لنميّز سلفاً تمييزاً واضحاً بين العقيدة الإسلاميّة وتطبيقها في بعض البلدان الإسلاميَّة”؛ وكذلك دعوته الرائعة إلى فتح باب الاجتهاد إذ “حاجة الأمّة إلى الاجتهاد بديهيّة، لم تكن في نظر القدامى تقبل الجدل، حتى تحتمل التأجيل عند المعاصرين، وأن المحقّقين من علمائنا شاركوا في مقاومة التقليد، وفي دعوة الناس إلى الاجتهاد، وإن كانوا لم يفتحوا بابه على مصراعيه، إلا للقادرين عليه”؛ وأنَّه “لكي نتحوّل بالاجتهاد من الصيغة الشكليّة إلى جهاز حي دائم التحرك، أن نضيف إلى هذا كلّه شرط الإلمام الكافي بلغة حيّة على الأقل إلى جانب لغتنا، نطل من نافذتها على ثقافة عصرنا بواسطتها، وكل مسألة طارئة في ضوء العلوم المتعلّقة بها”. ولا يمكن، في هذا المجال، التغاضي عن قوله “إن ذهنيّة التخلّف، ومصالح المستفيدين من واقعنا المريض، عقبة في وضع صيغة اقتصاديّة متكاملة خالية من الربا يمكن أن تضعها نخبة من فقهائنا وأهل الاختصاص فينا. وتبنّى اجتهاد من رأى من العلماء، إباحة صناديق التوفير، وشهادات الاستثمار – على تفاوت – في بابي المضاربة والقرض الإسلاميّين، بعد إجراء تعديل جزئي على صياغة بعض القواعد الفكريّة والشروط الاحترازيّة الاجتهاديّة”. وقد طالب الدكتور الشيخ الصَّالِح، في ما طالب به، “احترام حق الحياة، ورفع العدوان والظلم عن الإنسان، وضرورة كفّ الجاني بالقصاص قائلاً: العدوان على حياة فرد واحد في نظر الإسلام عدوان على كل إنسان حي، وكف الجاني بالقصاص عن قتل حياة واحدة، هو في الواقع كفه عن إزهاق الحياة كلها في أشمل معاني الحياة، وأوسعها مدلولاً، وأكثرها تفصيلاً، فما القصاص إلا حياة لأنه الحياة، وفي سبيل الحياة”.
منحت المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم في سنة 1986م.، جائزتها للدكتور الشَّيخ صُبحي الصَّالِح، عن كتابه “التفكير الاجتهادي في الإسلام”، وبعدها بشهور وتحديدًا في 7 أكتوبر 1986م، تمّ اغتياله على أيدي مسلّحين في بيروت.
كان الاقتتال الأهلي في لبنان، سنة 1986م.، قد صار في سنته العاشرة، وكانت الحياة في لبنان تضجُّ بعنف دماء تهرق بإسرافٍ مرعبِ بين فصائل ومجموعات فلسطينية ولبنانية، انغمست فيها أيدٍ لمسلمين وأخرى لمسيحيين، في خضم احتلال إسرائيلي ووجودٍ سوري وحضورٍ غربي. في 28 ديسمبر 1985م، عُقِد “الاتفاق الثلاثي” بين الميليشيات (القوات اللبنانية المسيحية – حركة أمل الشيعية – الحركة الوطنية اللبنانية الدرزية)، لتسلّم الأمن في بيروت بديلا من سُلطة رئيس الجمهوريَّة. وإزاء هذا الاتفاق تنامت حركة شعبية رافضة له، ومنادية بإضراب عام ومفتوح، أدّى إلى إحداث عُزلة تدريجية للمليشيات بكافة انتماءاتها ومصالحها. كان الدكتور الشَّيخ صُبحي الصَّالِح، واحدًا من الوجوه البارزة باحترام وتقدير بين جميع اللبنانيين، وكانت دعوته أبداً الحفاظ على سلامة لبنان ووحدته مع التأكيد على حق الوجود الفلسطيني في العيش الكريم والمقاومة ضد العدو الصهيوني الغاصب. وكان، كما انتشر بين بعض القوم، أن ثمَّة من وضع قائمة اغتيالات لبعض أبرز قادة الرأي والفكر والمحرّكين لها،؛ ووصلت بعض التَّهديدات إلى مسامع الدكتور الشيخ الصَّالِح، غير أنَّه لم يعرها اهتماماً عمليَّاً على الإطلاق.
قام مسلّحان ملثمان يمتطيان دراجة بخارية، صباح يوم الثلاثاء الواقع فيه السابع من تشرين الأول سنة 1986، باغتيال العلامة الدكتور الشَّيخ صُبحي الصَّالِح، لحظة وصوله إلى مقر جمعيِّة لتعليم الأولاَّد، في منطقة “ساقية الجنزير” من مدينة بيروت، كان يشرف عليها.
انتقل “صبحي بن ابراهيم الصَّالِح”، بيد الغدر، إلى رحمة ربّه؛ شهيداً، محمولاً بأكفان العلم والمعرفة والثقافة، على أَكُفِّ البذل والعطاء وسماحة الدِّين ورحابة الإنسانيَّة. ولقد أحدث خبر اغتياله، البربري والمفجع، حالاُ من الحزن الشَّعبيِّ والرسمي الأكاديمي والثقافي الشَّامل؛ الأمر الذي اضطر أهل الفئات المتقاتلة، في ما بينها، والغارقة، جميعها، في دماء أبناء الوطن، إلى تتوقَّف يوم انتقال جثمان “العالِم الشَّهيد”، من “بيروت” إلى بلدته “الميناء”، عن أي اقتتال؛ فوقفوا جميعهم منكسوا الرؤوس عند جوانب الطُّرق التي عبرها موكب الجثمان!
بعض مؤلفات الدكتور الشيخ صبحي الصالح: